لا يزال هدم مباني القاهرة التاريخية مستمرًا، ويبدو أنه حان الدور على البيت الموجود في حي الخليفة، الذي بناه محمد علي باشا عام 1846 على مساحة 880 مترًا، وعاشت فيه ساكنة بك، إحدى أشهر مطربات القرن التاسع عشر.
كان الخديوي إسماعيل، حفيد الوالي ومؤسس القاهرة الحديثة التي نسبت إليه فيما بعد، مولعًا بالغناء؛ بصوت ساكنة بك تحديدًا. ولم يكن لديه أثمن من البيت الذي أهداه إياه جده ليعبر به عن إعجابه بصوتها ذائع الصيت، وربما كان يهدف أيضًا لأن يصبح البيت الكائن على أطراف القاهرة القديمة مكانًا للسمر، يلتقي فيه كبار دولته ليستمعوا جميعًا ويستمتعوا بغنائها.
لكن هذا التاريخ مهدد بالزوال، بعدما أصدرت محافظة القاهرة قرارًا بحذفه من قائمة المباني ذات الطراز المعماري المتميز، وهي القائمة التي تُلزم الدولة بترميم كل ما احتوت عليه من منشآت.
اللافت في قصة هذا البيت أنه ليس من الممتلكات العامة للدولة، فملكيته تؤول إلى الباحثة في التراث والعمارة ومصممة الأزياء شهيرة محرز، التي فوجئت، وكأنها ليست المالكة، بالقرار، في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، رغم صدوره منذ عام كامل "في 31 ديسمبر عام 2022، غير أنه لم يبلغني به أحد ولم أعرف به إلا صدفة منذ حوالي ثلاثة أسابيع فقط أثناء محاولة موظفي حي الخليفة هدم البيت. وعندما اعترضنا أخبرنا الموظف بحذفه من قائمة المباني ذات الطراز المعماري المميز، وكان الخبر صدمة بالنسبة لي"، تقول شهيرة لـ المنصة.
كلهم يريدون هدمه
محاولات هدم البيت ليست جديدة، فقبل نحو أربعين سنة، أصدرت محافظة القاهرة قرار إزالة له عام 1984، لكنه لم ينفذ، وظل صامدًا بطرازه المعماري المميز وسط شارع الخليفة، حتى اشترته شركة ساهم عام 2008 إدراكًا لقيمته المعمارية وخوفًا من هدمه، وهي شركة مملوكة لمجموعة من المهتمين بالتراث المعماري، على رأسهم الباحثة شهيرة محرز.
استهدفت خطة الملاك الجدد أولًا تسجيل البيت ضمن قائمة المباني ذات الطراز المعماري المميز بجهاز التنسيق الحضاري لحمايته من الإزالة. فحسب القانون يحظر هدم المباني ذات القيمة التاريخية، أو المعمارية، أو المرتبطة بشخصية تاريخية، وبالفعل نجحت جهودهم الذاتية في ذلك.
أما خطوتهم التالية فكانت ترميمه والحفاظ على طابعه المعماري، غير أن تلك كانت العقبة التي ما زالت تواجههم حتى الآن، ليس فقط لأن ترميمه يحتاج إلى ما يزيد عن مائة مليون جنيه، قرروا توفيرها من مالهم الخاص، وإنما لأنهم لم يحصلوا حتى الآن على تصريح بالترميم من محافظ القاهرة أو رئيس حي الخليفة، رغم مطالبتهم المستمرة منذ عام 2008، والمثبتة من خلال شكوى رقم 5691003 على منظومة الشكاوى الإلكترونية.
تعود أهمية بيت ساكنة بك إلى قيمته التاريخية، حيث بناه محمد علي باشا هديةً لحفيده إسماعيل، بالإضافة إلى قيمته المعمارية لما يتميز به من مشربيات ونوافذ وأسقف منقوشة بماء الذهب، وهي أسقف القاعات المخصصة لاستقبال الخديو إسماعيل في الحفلات التي كانت تقام خصيصًا له للاستماع إلى غناء صاحبة البيت.
وأخيرًا لقيمته المرتبطة بمن عاشت فيه وكانت أشهر مطربات عصرها، ويمكن القول إن المصريين أحبوها في ذلك العصر حبهم لأم كلثوم التي ظهرت بعدها بقرن، حتى أن سعيد باشا الذي عشق صوتها اختصّها بلقب البكوية تقديرًا لها لتكون بذلك أول وآخر امرأة تحصل على هذا اللقب. غير أنه من سوء حظها أنها عاشت في زمن سبق الوصول لمسجلات الصوت، فغاب صوتها عمن جاءوا بعدها، ولم يبقَ من سيرتها إلا البيت الذي يبدو أن حظه لن يكون أسعد من حظ صاحبته.
إلى الصفر مرة أخرى
حذف البيت من قائمة الطراز المميز أعاد مالكيه 15 سنة إلى الوراء، ليصبح المبنى دون مظلة قانونية تحميه وتحول دون هدمه. تقول شهيرة محرز لـ المنصة "قررت المحافظة هدم المنزل رقم 50 المجاور لبيت ساكنة، مطلع ديسمبر، ما دفعنا للذهاب هناك لتأمين قصر ساكنة من الهدد ومن أعمال الإزالة التي تتم بجواره، خاصة أنها تتم باستخدام البلدوزر مما يشكل خطورة، غير أننا فوجئنا ونحن هناك أن موظف الحي يريد هدم بيت ساكنة أيضًا، وعندما اعترضنا أخبرنا بصدور قرار بحذفه من قائمة العقارات ذات الطراز المعماري المتميز".
لم يصدقوا ما قاله موظف الحي، لكنهم استطاعوا تعطيل عملية الإزالة، وفي اليوم التالي أرسلت شهيرة محرز محاميها الخاص إلى مكتب رئاسة الحي للتأكد من صحة الأمر، "اطلع المحامي على القرار وتأكد من صحته، غير أن الموظف رفض إعطاءه نسخة منه، ما دفعه للذهاب إلى المطابع الأميرية لاستخراج نسخة رسمية".
وأوضحت أنها تواصلت مع رئيس جهاز التنسيق الحضاري المهندس محمد أبو سعدة، لمعرفة أسباب القرار "غير أنه أفاد بعدم معرفته بالأمر، وهو شيء غريب كيف لا يعلم وهو المسؤول عن المباني التراثية".
لذلك تعتزم محرز الآن اللجوء إلى القضاء للمطالبة بإلغاء القرار وحماية المنزل من الإزالة.
تهديد البيئة الآمنة
تواصلت المنصة مع رئيس جهاز التنسيق الحضاري المهندس محمد أبو سعدة، الذي أكد ما سبق وأخبر به صاحبة البيت، وأشار إلى أن خروجه من قائمة الطراز المعماري لأسباب من بينها "أنه يشكل خطورة داهمة على المارة، وانهيار جزء منه"، مؤكدًا أن هذه القرارات "تتم وفق لجنة تُشكل بقرار من محافظ القاهرة لدراسة حالة المبنى واتخاذ قرار بشأنه، وتضم أطرافًا من وزارة الإسكان، وممثلين من الحي، وأستاذ تاريخ، وأستاذ عمارة، وممثلًا عن جهاز التنسيق، وغيرهم، وهذه اللجنة هي المعنية باتخاذ قرار حذف المبنى من القائمة أم لا".
وتساءل أبو سعدة "لو البيت خرج من قائمة الطراز المعماري المميز وصاحبه عايز يرممه إيه المانع؟ يبقى عليه تقديم مستندات عن وضع البيت وخطة ترميمه للحي للحصول على الموافقة". وتمنع المادة 33 من قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008، ولائحته التنفيذية لعام 2011 الخاصة بآلية الحفاظ على المباني، المالك، من إجراء أي تعديل أو ترميم إلا بموافقة من المحافظة أو رئاسة الحي، خصوصًا إذا كان الترميم يشمل الواجهة ويحتاج إلى أدوات ومعدات.
وبإطلاع أبو سعدة على أن ملاك البيت تقدموا بعدة طلبات لم يُرد عليها، قال لـ المنصة "كده الموضوع مش في إيدي، لكن أنا هكلم نائب المحافظ أفهم منه الوضع". وأكد أن خروج المبنى من قائمة الطراز المعماري المميز لا يعني هدمه، "لأن قرار الهدم مش بيتاخد عشوائي. لازم المالك يكون له دور".
وبسؤاله هل يمكن إعادة إدراج البيت بالقائمة مجددًا، أجاب أنه "لا يمكن عودته مرة أخرى بعد فقدانه قيمته بسبب تهديده الأرواح واحتمالية انهياره في أي وقت".
كيف انهار جزء من البيت؟
يوضح رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث عبد الحميد الشريف، وهو أحد الداعمين والمهتمين بقضية البيت، أنه في شهر أغسطس/آب من العام الماضي، أجرى مسؤولو حي الخليفة أعمال تطوير للبنية التحتية لشارع الخليفة باستخدام المعدات الثقيلة في الحفر دون مراعاة لحالة المنطقة والبيوت القديمة التي لا تتحمل هز أساسها، "كان المفروض يتم الحفر يدويًا لأن المعدات الثقيلة أثرت سلبًا على بيت ساكنة بك وأدت إلى انهيار الحائط المجاور لمنطقة الحفر".
ولفت إلى أن سقوط الحائط أضعف من قدرة البيت على الصمود، ما دفع الباحثة شهيرة محرز إلى التعاقد مع مكتب المدينة للاستشارات الهندسية، المتخصص في ترميم المباني التراثية والتاريخية لتقييم الحالة الإنشائية للبيت.
وبالفعل أعد المهندس محمد العيسوي، رئيس المكتب، دراسة شاملة في يناير/كانون الثاني عام 2023 تفيد بأن العقار ما زال محتفظًا بنسبة تزيد على 66% من أساسه وأصالته، مع ضرورة إجراء التدخلات اللازمة تمهيدًا لإعداد كل الدراسات الإنشائية والترميم وإعادة التأهيل المطلوب للحفاظ على المبنى، وفق الشريف.
وتابع "تقدم ملاك البيت بتلك الدراسة إلى محافظ القاهرة، وطالبوا مجددًا بسرعة إصدار تصريح لأعمال ترميم متكامل وترميم إنشائي للعقار، غير أنه لم يرد عليهم أحد كالعادة"، مستنكرًا موقف محافظة القاهرة "الناس قالت هتتحمل تكلفة الترميم بأكملها رغم تخطيها ما يزيد عن مائة مليون جنيه، ثم يسلمونه للدولة للاستفادة منه، ومع ذلك لا نفهم كل هذا التعنت في إصدار التصاريح"، معقبًا "ندور في دائرة مفرغة، المحافظة حذفته من قائمة الطراز المعماري لأنه آيل للسقوط.. نقولهم إحنا هنرممه على حسابنا بس هاتوا ترخيص محدش يرد علينا.. وهو موقف غير مفهوم".
أين وزارة الآثار؟
اتصلت المنصة برئيس قطاع المشروعات الأثرية بوزارة الآثار العميد هشام سمير، لمعرفة إمكانية تسجيل البيت مبنى أثريًّا لضمان عدم هدمه، مع التزام أصحابه بترميمه على نفقتهم، فقال "هذه الأمور ليست سهلة كما يظن البعض، ولا تتم وفقًا للمزاج الشخصي، بل لها قانون يحكمها، ولجان دائمة ومخصصة، ودراسات موسعة".
الحل الآن، وفق سمير، هو توجه ملاك البيت إلى محافظ القاهرة أو رئيس الحي مباشرة، وإطلاع أيهما شخصيًا على الموضوع بالكامل "ومن ثم أتوقع أن يرسل المحافظ أو رئيس الحي مهندسين متخصصين لمعاينة البيت وإصدار ترخيص بترميمه"، موضحًا أن خروج البيت من قائمة المباني ذات الطراز المعماري المميز التابعة للتنسيق الحضاري يسهل على مالكه مهمة ترميمه "لأن المالك لم يعد يحتاج إلى إشراف الجهاز عند اتخاذ أي خطوة في ترميمه".
وحاولت المنصة التواصل مع رئيس حي الخليفة طارق اليمني، وسكرتيرة عام الحي فيفي عبد الغني، عن طريق الرقم الأرضي لمكتب الحي، للوقوف على أسباب تجاهل طلبات ملاك بيت ساكنة بك بتصريح ترميمه غير أن موظف المكتب أفاد بانشغال المسؤولين، ووعد بمعاودة الاتصال بـ المنصة مرة ثانية عندما يسمح الوقت، وهو ما لم يحدث رغم اتصالاتنا المتكررة.
عاشت هنا
اللافت أن بيت ساكنة بك مدرج أيضًا ضمن مشروع "عاش هنا" التابع لجهاز التنسيق الحضاري، الذي يهدف إلى توثيق الأماكن التي عاش بها الفنانون والسينمائيون وأشهر الكتاب والشعراء والشخصيات التاريخية التي ساهمت في إثراء الحركة الثقافية والفنية في مصر، ما يعني الاعتراف بأهمية البيت وقيمة صاحبته، وهو أمر يناقض الرغبة في إزالته. ويبرر رئيس جهاز التنسيق الحضاري بأن إدراج المنزل ضمن مشروع "عاش هنا" ووضع لافتة على واجهته مرتبط بأهمية ساكنة بك كشخصية لها قيمتها الفنية، "ولا علاقة للأمر بحالة البيت، لأن مشروع عاش هنا له لجنة خاصة به وغير مختصة بتقييم الحالة المعمارية، إنما بقيمة من سكنه".
لكن السؤال لا يزال يطرح نفسه، إن كانت الدولة تعترف بقيمة المنجز الإبداعي لساكنة بك، فما الذي يوثق ذلك؟ وماذا قدمت لتوثيق تلك القيمة؟
كانت ساكنة بك مطربة القرن التاسع عشر الأولى،أو كانت فقط واحدة من مطربيه المؤثرين، من الذين لم ينصفهم الحظ بتسجيل أصواتهم، أو التاريخ بتسجيل قصصهم، لكنها رغم ذلك كله تركت ما يحمل اسمها، يبصره القاصي والداني لحي الخليفة، بيد أن ذلك أيضًا في سبيله إلى الضياع إن هدم البيت.