صورة من غلاف ديوان البارودي
الشاعر محمود سامي البارودي

مراثي الشعراء في رحاب "الشافعي".. زيارة أخيرة لقبر البارودي

منشور الثلاثاء 5 نوفمبر 2024

في شارع ابن الفارض المتفرع من شارع الخلا في منطقة مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة، وقفتُ أمام قبر الشاعر ووزير الحربية محمود سامي البارودي (1839-1904) متأملةً مُفارقةَ أن يدفن شاعرٌ في شارعٍ يحمل اسم شاعرٍ آخر، في قرافة تحمل اسم إمام له ديوان شهير.

الشعر إذن هو من يقود خطواتي في جبانات القاهرة، من أسماء الشوارع والأبيات التي نُقشت على شواهد القبور، وحتى الشعراء الذين تستقر عظامهم تحت الثرى بينما تُحلّق أرواحهم حولي.

مع نهايات عام 2022، انجذبتُ لمحمود سامي البارودي. لم يأت هذا مصادفة، فأنا أصدق أن أرواح أحبابنا الراحلين تحوم حولنا تشاركنا الأفراح والأتراح. ويبدو  أن روح البارودي أرّقتها في ذلك الوقت أنباء وقوع مقبرته على خريطة مشروع طريق جديد يربط العاصمة العتيقة بالمدن الجديدة عبر منطقة الشافعي. ولم أكن أعرف أن زيارةً واحدةً لهذه المقبرة المهددة بالهدم لا تكفي!

بقيت مقبرة البارودي فارغة من رفات صاحبها

فوجئت أسرة البارودي في مايو/أيار 2023 بوضع علامة إيذانًا بهدم المقبرة المسجلة تراثًا أثريًا، وبعدما جرى إزالة العلامة، عادت للظهور مرة أخرى في الأيام الأخيرة، حيث كشف مستند رسمي صادر بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول الماضي موافقة وزير الإسكان شريف الشربيني على إخراج مجموعة من المدافن من سجل المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المميز، من بينها مدفن البارودي.

وفي الثاني والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي نقلت أسرة الشاعر رفاته مع باقي رفات الأسرة لمقبرة جديدة، تمهيدًا لهدم المقبرة في الإمام، قبل أن يؤكد رئيس مجلس الوزراء وقف الهدد في قرافة الشافعي.

جيرة قديمة مع البارودي

على مقربة من بيتنا في حي عابدين، وعلى بعد خطوات من القصر، كانت تقع سرايا البارودي التي ولد بها، وعاش فيها إلى يوم منفاه إلى جزيرة سيلان بسبب مشاركته في الثورة العرابية.

وعلى الرغم من هذه الجيرة فإن علاقتي به اقتصرت على قصيدة وحيدة بعنوان "غربة وحنين" ضمن منهج الأدب في المرحلة الثانوية، ولم أقرأ له بيتًا بعدها.

ومع متابعتي لحلقات مسلسل إذاعي عن أمير الشعراء أحمد شوقي، انتبهت كيف ردد شوقي الطفل أشعار البارودي التي سلبت لُبّه. يومها قررت أن أقرأ بإمعان لـ "رب السيف والقلم". ومن بائع كتب قديمة اشتريت الجزء الأول من بين أربعة أجزاء هي مجمل ديوانه بطبعة دار المعارف بتحقيق علي الجارم ومحمد شفيق معروف.

أصبحت من مجاذيب البارودي وشعره، وعزّ عليّ أن يهدم قبره دون أن أزوره وأقرأ له الفاتحة.

فكرت في الشعر وسيلة للنجاة أو لمقاومة العجز، تمامًا كما قال الشاعر السكندري قسطنين كفافيس:

إليك أهرع أيها الشعر

يا من تعرف ما يداوي

رسمت لنفسي مسار رحلة ليوم واحد تبدأ من قبر تلميذيه ورفيقيه شاعر النيل حافظ إبراهيم وأحمد شوقي لتنتهي عنده. على أن أسمي هذا المسار "مراثي الشعراء".

مراثي الشعراء لنابه عصره

أول محاولة لزيارة مدفن الشاعر محمود سامي البارودي، 4 يوليو 2024

مراثي الشعراء تقليد ابتكروه لتخليد قصائد كتبوها في رثاء بعضهم البعض، إذ تتحول حفلات التأبين لمهرجانات شعرية بعضها يعقد في الجمعيات أو المسارح وبعضها يعقد على قبر الشاعر المتوفي. وبعدها يتطوع أقربهم للمتوفى، بجمع كل ما كُتب في مجلد واحد تذكاري، يسمى "مراثي الشعراء للشاعر فلان".

وفي حالة البارودي تولى شاعر القطرين خليل مطران مهمة جمع هذه القصائد في كتاب أسماه "مراثي الشعراء لنابة عصره ونادرة دهره فقيد السيف والقلم المرحوم محمود باشا سامي البارودي" صدر عن مطبعة الجوائب المصرية.

"اجتمع جمهور من الشعراء والأدباء عند قبر أمير الشعر والأدب في اليوم الموعود فرثوه وأبّنوه بالشعر والخطب"، هكذا يصف رشيد رضا في مجلته المنار 22 يناير/كانون الثاني 1905 مشهد تأبين البارودي على مقبرته.

قبل أن أخطو خطوة واحدة إلى الجبانات استخرجت من دواوين الشعر قصائد الرثاء؛ حافظ في رثاء البارودي، ثم شوقي في رثاء حافظ، أما عن شوقي فاخترت قصيدة بيرم التونسي.

سلام يا قبر حافظ

قبر الشاعر حافظ إبراهيم

بعد أذان الظهر وأمام مسجد السيدة نفيسة التقيت صديقة كانت دليلي وبوصلتي في الرحلة. سرنا حتى قبر حافظ إبراهيم؛ تناثرت كراسي مقهى صغير في ممر ضيق يُفضي إليه، جلسنا نتبادل الأفكار بينما يرقد حافظ أمامنا في قبر بسيط تحت ظلّة مقببة يفصلها عن الممر سور معدني. ثم تلوت من خلف قضبان السور قصيدة شوقي:

قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي

يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ

الأشهر القليلة التي عاشها شوقي بعد موت صاحبه تشبه الطريق القصير بين قبريهما، ورغم هذا القرب لاحظت الفارق الطبقي بينهما، إذ دفن شوقي في مقبرة مغلقة تحوي تراكيب رخامية بأسماء أصحابها، بينما طمس الزمن ملامح اللوحة التي تحمل اسم حافظ.

لم يفتح لنا شوقي بابه قط. تحجج الحارس بأن الأمر يلزمه إذن من النيابة؛ لأن لصوصًا هاجموها منذ أيام وكسروا التراكيب الرخامية. وكنت شاهدت صورًا على السوشيال ميديا للدمار الذي أحدثه "المخربون".

وقفت تحت لافتة رخامية عالية تطل بزاوية على طريق صلاح سالم مثبتة على جدار المقبرة الخارجي، وقرأت لشوقي قصيدة بيرم.

مكتوب لي في الغيب مصيبة / والغيب عن العلم خافي

تطول حياتي الكئيبة / وأرثى أمير القوافي

في صحراء الإمام

من أمام مدفن الشاعر أحمد شوقي

المسافة بين مدفني شوقي والبارودي طويلة، يقطعها طريق صلاح سالم؛ فاصل حاد بين جبانة السيدة نفيسة وجبانة الإمام. وقديمًا قبل أن يشق هذا الطريق نسيجهما نُسبت كل هذه المساحة للإمام الشافعي تحت اسم "صحراء الإمام".

من سور مجرى العيون عبرت لشارع ضيق يحمل اسم السيدة نفيسة، يحوي مقابر بعض قادة الثورة العرابية. وقفت عند قبر أحمد عرابي، ومررت على قبر متواضع لأحد شهداء ثورة 1919 حرص أهله على ذكر تلك المعلومة على الشاهد كوسام شرف، ومررت أيضًا على مقابر كالصروح لرجال العسكرية المصرية في القرن التاسع عشر، ووزراء من الحقبة الملكية، إلى أن دخلت شارع ابن الفارض، ووقفت لأول مرة أمام مقبرة البارودي في الرابع من يوليو/تموز 2023.

دائرة سوداء تتوسطها نقطة، كحرف نون مغلق على نفسه بجوار لوحة من الرخام حُفرت عليها الآية "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ"، وتحتها مباشرة "مدفن محمود سامي باشا البارودي" بلا بهرجة أو مغالاة. هذه الدائرة سيئة السمعة كانت علامة الهدم الأولى.

حال باب خشبي مغلق دون لقائنا. فوقفت أمام الباب وتلوت قصيدة حافظ إبراهيم يقينًا بأن صوتي سيصله.

ردوا عليَّ بياني بعد محمود

إني عييت وأعيا الشعر مجهودي

متى تأذن بالزيارة؟

المرة الأولى لدخول مدفن الشاعر محمود سامي البارودي

لم تكن تلك الرحلة سوى فخ الغواية. فلشهرين تكررت جولاتي في مقابر الإمامين والسيدة نفيسة والسيوطي والإباجية؛ زرت مقابر النبلاء والبسطاء، تلك المغلقة على عائلات لها ألقاب رنانة وشواهد من رخام أبدع في زخرفتها مشاهير الخطاطين ونمق شعراء أبيات الشعر على جوانبها، والأخرى المبعثرة في الدروب بلا نظام بشواهد حجرية متواضعة تنظر للسماء حاملة أسماء أصحابها.

وللبكاء سبيل بين هذه وتلك، فقد تبكي من فرط الجمال، أو تبكي من غاية البؤس، أو لأن كل هذا موصوم بحرف النون المغلق على ذاته.

تنتهي هذه الجولات كل مرة بالمرور على مقبرة البارودي لعله يأذن بالزيارة. كم مرة قصدنا باب التُربيّ المسؤول عن المدفن فيدعي أنه لا يملك المفتاح، حتى جاء يوم الثاني والعشرين من أغسطس/آب 2023. قبِل أخيرًا أن يفتح لنا.

عبرت الباب الخشبي الضخم الذي طالما صدّني، وقطعت ممرًا قصيرًا يفضي إلى حديقة مزروعة بالأشجار، على اليسار منها باب آخر يرتفع ثلاث درجات وينفتح على غرفة تحوي أربع تركيبات؛ ثلاث منها رخامية وفي مواجهة الباب مباشرة تركيبة نحاسية متفردة؛ نحاس مُفرّغ بأطباق نجمية كالتي تزين المنابر الأثرية، يعلوها شريط كتابي "أُنشئت هذه المقصورة لفقيد الأدب في بلاد العرب رب السيف والقلم".

هنا وقف الشعراء من 120 عامًا

علامة الهدم الجديدة على الجدار الخارجي لمدفن الشاعر محمود سامي البارودي، أكتوبر 2024

وقفتُ على قبر البارودي كما وقف شعراء عصره منذ مائة وعشرين عامًا، وقرأت القصيدة التي قرأها حافظ إبراهيم في نفس البقعة على رأس القبر.

تذكرت بيتًا للبارودي كأنما قصدني به يقول:

سَيَذْكُرُنِي بِالشِّعْرِ مَنْ لَمْ يُلاقِنِي

وَذِكْرُ الفَتَى بَعْدَ الْمَمَاتِ مِنَ الْعُمْرِ

عز علي أن أغادر دون أن أقرأ من شعره هو، فوقفت على قبر زوجته الأولى عديلة هانم يكن، التي وافتها المنية بينما زوجها في المنفى وحيدًا، فلم يجد الشاعر المكلوم سوى الشعر عزاء، فكتب لها قصيدة طويلة تقطر عذوبة ورقّة؛ قرأت وكأنني مرسال غرام أتى متأخرًا جدًا لكنه يصر على تسليم رسالته.

لم تكن هذه زيارتي الأخيرة. عدت يوم الثاني من سبتمبر/أيلول 2023 وحملت معي الديوان. جلست في حديقة الحوش وقرأت أبياته عن حوادث الثورة، وأجزاء من مطولته "كشف الغمة في مدح سيد الأمة".

في ذلك اليوم توقف الهدم وأزيلت الدائرة السوداء. فعاد لي أمل من جديد أن أقيم له في حديقة الحوش أمسية لقراءة أشعاره في الذكرى العشرين بعد المائة لوفاته، أدعو لها الشعراء ومحبي الشعر.

وظللت لعام كامل أزوره خلسة وألقي التحية بأشعاره:

سِرْ يَا نَسِيمُ فَبَلِّغِ الْقَبْرَ الَّذِي

بِحِمَى الإِمَامِ تَحِيَّتِي ووِدَادِي

علامة جديدة قاسية

في غفلة منا ظهرت علامة جديدة أشد قسوة من سابقتها، فلا دوائر فيها ولا نقاط، ولكنْ أسهم حادة بلون أحمر، واحد منها يشير للأسفل وكأنه يقول إن هذه الجدران ستسوى بالأرض، والآخر يشير للباب الخارجي ولسان حاله يقول "المبنى من بابه".

حينها بدأت الأسرة في التجهيز لنقل الرفات وتفكيك التركيبة النحاسية وباقي التراكيب الخاصة بأفراد العائلة. وكانت زيارتي الأخيرة له في العشرين من أكتوبر 2024.

وفي الثاني والعشرين من أكتوبر 2024 نُقل رفات البارودي من مقابر الإمام بلا جنازة تليق بزعيم وطني، نُقل في صمت، لتبقى المقبرة خالية من رفات صاحبها، وبقيت روحه تحوم في المكان تردد:

عناءٌ ويأس واشتياق وغربة

 ألا شدَّ ما ألقاه في الدهر من غبن.