منذ السابع من أكتوبر تبدو جميع الخطوط الفاصلة هشةً مثل بيت العنكبوت؛ الخط الفاصل بين الذاتي والعام، الخط الفاصل بين التعاطف والألم، الخط الفاصل بين المقاومة والهزيمة.
أخبرت طبيبتي النفسية أنني سأتوقف عن تعاطي مثبتات المزاج لأنني لا أؤمن أن مزاجي يجب أن يكون مستقرًا أثناء الإبادة الجماعية. أخبرتني أنني مرة أخرى أواجه صعوبةً بالغةً في التفرقة بين الخاص والعام؛ أعلن الحداد على أطفال غزة كما أعلنت الحداد على جدتي.
قلت لها إن الحداد محاولة للتذكرة بأن الإنسان كائن اجتماعي حي يتعلق بالعالم، وأنه قادر على خلق صلة وطيدة بمظلوميه. تخبرني أنني فرد من مجموع، وأنني أنكر على ذاتي فردانيتي، فأنخرط وأتماهى تمامًا مع المجموع. أخبرها أنها تود أن تجعل مني شخصًا أكثر فردانيةً لأن الطب النفسي متأثر بالخطاب الرأسمالي.
أوافق على الانتظام على مضادات الاكتئاب، وكتابة مشاعري كل يوم حتى أستطيع معالجتها بشكل أو بآخر. أذهب كل أسبوع لنخوض حديثًا مطولًا عن الكوابيس والأرق والقلق.
ينتهي بنا المطاف بأن أخبرها أن كل أعراضي ربما هي عرض جانبي للنظام السياسي المصري القمعي والنظام العالمي الاستعماري، وأنني هنا فقط لأحسن التعامل مع الأعراض دون أن أتورط في أي محاولات لتدمير ذاتي، لكنني أؤمن تمامًا أن الصدمة لن تختفي إلا بحلول سياسية كبرى.
معاناة قاتل ومغتصب
وفق كتاب "جسمك يتذكر كل شيء: الدماغ والعقل والجسم في عملية الشفاء من الصدمة النفسية"، جرى تسجيل أول تشخيص باضطراب ما بعد الصدمة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية بين الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب فيتنام (1964-1975).
عانى معظم الجنود من الاكتئاب ولمحات متكررة ومؤلمة من الماضي أصابتهم بالقلق والأرق ونوبات الغضب الطويلة، حتى إن منهم من اتجه لإدمان المخدرات.
سُجل اضطراب ما بعد الصدمة ليسلط الضوء على هلع القاتل لا مأساة الضحية
كانت القصة الأبرز في الكتاب لجندي يخضع لعلاج نفسي لأنه كان يرتعب جراء نوبات هلع طويلة، مع استرجاع ذكرى النساء اللواتي اغتصبهن والأطفال الذين قتلهم انتقامًا لمقتل صديقه المقرب في اشتباكات مع المقاومة الفيتنامية، الأمر الذي يجعلني أتساءل: هل العلاج النفسي أسير لسردية قوى الاستعمار الغربية لدرجة أن اضطراب ما بعد الصدمة سُجل أولًا ليسلط الضوء على هلع القاتل لا مأساة الضحية؟
في العقود الثلاثة الماضية اتسع نطاق مصطلح الصدمة "التروما" ليصبح جزءًا راسخًا من الخطاب الشعبي ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتشخيص السريري، باعتباره جزءًا من البنية البيولوجية والإدراكية للإنسان، والهدف من إضفاء الطابع الطبي على تجربة الصدمة إخراج المعاناة النفسية من سياقها، وهو الأمر الذي ينتقده عالم النفس الفرنسي من أصول جزائرية فرانز فانون (1925 - 1961) لأن إخراج الفرد من سياقه يخفي العامل الحقيقي للعنف والضرر؛ ألا وهو الدول الاستعمارية.
يرصد فانون في كتابه معذبو الأرض التأثير النفسي للعنف الاستعماري على المستعمَرين والمستعمِرين، ويثبت أن البيئة الاستعمارية أرض خصبة للاضطرابات النفسية، التي يصفها بـ"الذهانات التفاعلية". فقد عالج بنفسه عددًا من ضحايا الممارسات الاستعمارية من الشعوب المستعمَرة، بالإضافة إلى الجنود والقادة والطغاة المستعمِرين.
ينتقد فانون مفهوم العالمية في الطب النفسي الذي يفترض أن المعرفة الطبية الغربية والممارسات النفسية قابلة للتطبيق عالميًا. إن هذا المفهوم للعالمية، الذي يتجذر في فكر التنوير، يعامل البشر كأفراد مجردين ومعزولين، ويتجاهل السياقات الاجتماعية والثقافية والعرقية والاستعمارية التي يعيش فيها الناس، في حين أن الممارسة النفسية ليس بإمكانها أن تكون محايدة.
تتشابك هذه الممارسة دائمًا مع السياقات الأخلاقية والسياسية التي تعمل فيها، ليصبح النظام العالمي، وفق فانون، مسؤولًا عن إنتاج المعاناة النفسية للمستعمَرِين. ومع ذلك، فإن الطب النفسي غالبًا ما يعمل على إعادة دمج الأفراد في النظام ذاته الذي يضطهدهم، دون التشكيك في أخلاقيات هذا النظام.
يرفض فانون التسليم بأن الطب النفسي يمكن أن يكون محايدًا أخلاقيًا أو غير سياسي، ويُصر على أن أي ممارسة للعلاج النفسي تتجاهل الأسباب الجذرية للصدمة مثل العنف الاستعماري والعنصرية المنهجية والقمع السياسي متواطئة في الحفاظ على هياكل الهيمنة. هذا النقد أساسي لتطهير الطب النفسي من أثر الاستعمار، لأنه يدعو إلى ممارسة تعترف بالأبعاد الأخلاقية للمعاناة النفسية وتعالج الظلم الذي ينتجها.
تحرير الصدمة من الاستعمار
محاولة تحرير نظرية الصدمة من الاستعمار بدأت بنداءات متكررة في 2008 نتيجة إدراك أن نظرية الصدمة التقليدية، التي طورها في المقام الأول علماء غربيون مثل كاثي كاروث وجيفري هارتمان ودوري لوب، كانت محدودةً بمنظور أوروبي مركزي. ركزت هذه النظريات إلى حد كبير على التجارب المفاجئة والفردية للصدمة، وغالبًا ما تجاهلت الصدمات الجماعية والممتدة مثل تلك التي عانت منها بعض الشعوب والجماعات أثناء القمع الاستعماري.
تتحرر نظرية الصدمة من الاستعمار وفق عالمة اللغة إيرين فيسر حين نعيد قراءة الميلانخوليا التي يعرفها عالم النفس الأيقوني سيجموند فرويد باعتبارها حالة من الحزن المستمر والعجز وعدم القدرة على التصرف، وهي النتيجة الحتمية للصدمة. ويشير هذا المنظور إلى أن الظروف التي تلي الصدمة تترك الأفراد والمجتمعات في حالة من الضعف الدائم.
تنتقد فيسر هذه النظرة الضيقة وتدعو بدلًا من ذلك إلى الاعتراف بموضوعات التعافي والمرونة والنشاط الموجودة في الأدب ما بعد الاستعماري، وتستشهد بأعمال علماء مثل دومينيك لاكابرا الذي يميز بين تكرار الصدمة دون حل، ومعالجة الصدمة والمضي قدمًا. وترى أن نظرية الصدمة إن حُررت من الاستعمار فيجب أن تعترف بإمكانية المرونة والنمو بعد الصدمة، بدلًا من التركيز حصريًا على الجوانب المدمرة والكئيبة.
يُستخدم الحزن الإسرائيلي لتأكيد القوة وتبرير العنف
وتؤكد على أن نظرية الصدمة تحتاج إلى توسيع نطاقها إلى ما هو أبعد من جذورها الضيقة الأوروبية المركزية من خلال دمج رؤى من تخصصات أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وتشير إلى أن اعتماد نظرية الصدمة التقليدية على التحليل النفسي الفرويدي والتفكيكية حد من قدرتها على معالجة الأبعاد الجماعية للصدمة التي عانت منها مجتمعات ما بعد الاستعمار.
كما تدعو فيسر إلى تبني وجهات نظر اجتماعية يمكنها أن تلتقط بشكل أفضل الطبيعة الجماعية للصدمة وتأثيرها في المجتمعات ودورها في تشكيل الهويات الاجتماعية. ويتضمن هذا التوسع أيضًا معالجة موضوعات معقدة مثل التواطؤ والوكالة والشعور بالذنب، وهي قضايا تنشأ غالبًا في أدب مجتمعات ما بعد الاستعمار أو تحت الأنظمة الشمولية، حيث تتصارع الشخصيات مع أدوارها في إدامة أو مقاومة القمع السلطوي.
الميلانخوليا الفلسطينية
يمكن أن نحاول فهم الميلانخوليا في السياق الفلسطيني من خلال تحليل الباحث عبد الجواد عمر. إن العلاقة بين الميلانخوليا الفلسطينية والمقاومة تكمن في كيفية تحول الميلانخوليا والخسارة إلى أعمال تحدٍ للهيمنة الاستعمارية. فالميلانخوليا الفلسطينية لا تدور حول الاستسلام اليائس؛ بل تنطوي على انخراط مستمر في الخسارة التي تغذّي المقاومة.
يرفض الفلسطينيون الحداد جماعيًا أو علنًا لأن هذا من شأنه أن يحول شعور الخسارة إلى شيء مادي بتاريخ صلاحية محدد، وبالتالي تصبح الميلانخوليا في السياق الفلسطيني وسيلةً لمقاومة السرد الاستعماري الذي يسعى إلى إضفاء الطابع الموضوعي على المعاناة الفلسطينية واختزالها.
تعد الميلانخوليا في السياق الفلسطيني استجابة نشطة ومستمرة للقوى التي تقوض الوجود السياسي والاجتماعي الفلسطيني، إذ يعمل التأكيد المستمر على الخسارة بشكل متناقض على تغذية المقاومة والتحدي ورفض الاستسلام لتوقعات الظالم. ويتناقض هذا بشكل أكبر مع نهج المستعمر، إذ يستخدم الحزن الإسرائيلي لتأكيد القوة وتبرير العنف، في حين تصبح الميلانخوليا الفلسطينية تحديًا هادئًا لكنه قوي في وجه هذه الهيمنة.
يمارس الاحتلال ضد الفلسطينيين ما يسمى بالنفي والمحو. يمحو سيطرتهم على الأرض التي ينتمون إليها وذكرياتهم الرنانة عن أقربائهم ويحرمهم الموت المتكرر من القدرة على الحداد. ربما تعتبر الميلانخوليا الفلسطينية عملًا من أعمال استعادة الحق ضد المحو، بحيث لا يُضفي الطابع الموضوعي على الخسارة الشخصية باعتبارها ماضيًا ولكنها تظل حقيقة ممتدة تشعل نار الرغبة في الانفكاك من الاستعمار.