يستحق السؤال عن تصاعد ظاهرة العنصرية في الغرب أن يُطرح، إذا نظرنا إلى الماضي وحاولنا أن نقارن، ولو سريعًا، بين رواج ورسوخ الأفكار العنصرية اليوم، وقبل قرنين من الزمان، عندما كانت الأيدي ملطخة بدماء الآسيويين والأفارقة والأمريكيين الأصليين وسكان الجزر، وأيضًا اليهود والروم والمعاقين الأوروبيين.
طوال هذين القرنين ترسخت في "الغرب" صورة نمطية للإثنيات الأخرى مثل السود والشرقيين، وخُلقت تفاوتات ودرجات تميِّز للبشر بناءً على العرق والدين والثقافة. ولم يكن الأمر عملًا عسكريًا خاصًا بالقادة والجنود وحدهم، بل استخدمت أدوات عديدة لترسيخ هذه التراتبية الإنسانية والبنية الثنائية الكانطية، بين "نحن" و"هم".
على سبيل المثال، كان إيمانويل كانط يرى أنَّ السود لم يُظهروا أيَّ موهبة تثبت قدرتهم على الوصول إلى مستوى الرجل الأبيض. أما الآسيويون، فحالهم أفضل قليلًا، ولكنهم لا يتقربون من التفوق الذهني والثقافي للأوروبي. وفي مقاله عن الأعراق المختلفة للبشر، يؤكد هذه التراتبية، ويقول إن سكان شبه القارة الهندية لديهم قدر من الذكاء، لا يقترب من ذكاء الأوروبي، ومع ذلك فهم أفضل من السود.
لم يكن كانط استثناءً، سنجد أفكارًا مشابهةً عند نيتشه وهيجل وجون ستيورات ميل، وفي الإنتاج المعرفي والأدبي الذي ظل يتراكم طويلًا، كما يعلمنا إدوارد سعيد في كتابيه الاستشراق والثقافة والإمبريالية.
ثالوث ترسيخ العنصرية
لم يكن الاستعمار مجرد مشروع اقتصادي بحت، بل أيضًا جزء من هذه العنصرية المتجذرة التي جرى ترسيخها والبناء عليها، لتبرير كافة أشكال الممارسات الهمجية والبربرية ضد من وصمتهم "الحضارة" الغربية بـ"البرابرة"، ولا تزال هذه الوصمة لصيقة بالضحايا لا المجرمين.
لا تكفي المساحات ولا الكلمات تسجيل جرائم الاستعمار ضد جسد وعقل وروح المستعمرين، لذلك تظهر بارزة في غالبية المسيرات الرافضة للعنصرية والمناهضة للاستعمار عبارة "اقرأوا فرانز فانون"، ومع ذلك لا يدرك كثيرٌ من أبناء وأحفاد المستعمر القديم أن آثار ونتوءات أرواح الأجداد قد تلاحق الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد، فلا يستطيعون بعقلهم الأوروبي الصغير وروحهم الآفلة أن يروا نتوءات الروح التي غرسها أجدادهم.
عقلانيتهم الزائفة وعمقهم الفارغ يدفعانهم لتكرار هلاوسهم القديمة والبالية في مسرح بلا جمهور، بعد كسر القيود التي كانت تجبرهم على الاستماع، فلا معارض بشرية ليستعرضوا بها قدراتهم البائدة.
تُشكِّل المعارض البشرية الضلع الأخير في ثالوث ترسيخ الصور النمطية والتراتبية البشرية، مع الإنتاج المعرفي والغزو الاستعماري.
يشير إدوارد سعيد في "الاستشراق" إلى أنَّ هذه المعارض ظلت جزءًا أساسيًا من عملية بناء الصور النمطية للآخر غير الأوروبي، بتقديمه موضوعًا للاستغلال بالعرض في المدن الأوروبية الكبرى، لتسلية وإلهام الكُتَّاب والنخب الذين لا يريدون مغادرة قصورهم.
استمرت هذه المعارض حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث شهدت بروكسل أحد آخر المعارض البشرية عام 1958. ومع ذلك، لم تغادر أقفاص البشر المدينة حتى اليوم، فعاملات الجنس ما زلن يُعرضن في أقفاص العواصم الأوروبية. صحيح أنها أصبحت أقفاصًا زجاجيةً، لكنَّ ذلك لا يعني أنها باتت أقل عنفًا، بل أكثر زيفًا وتنوعًا.
ظلَّ إنتاج الصور النمطية التي تُرسِّخ احتقار الآخر غير الأوروبي مستمرًا بجلاء حتى منتصف القرن العشرين، على جميع المستويات وفي كلِّ مكان وأيضًا كافة الطبقات، حتى توقف الغرب مجبرًا على وقع حروب الاستقلال، وما تلاها من ميلاد خطاب جديد مناهضٍ للتمييز، تبلور في حركات الحقوق المدنية التي تزايد تأثيرها في تلك الفترة.
اعتذار السيد لا يكفي
رغم كل ذلك، لم تحدث في العالم الغربي أي محاكمة على جرائم التمييز والعنصرية والاحتلال والإبادة الجماعية بحق الشعوب غير الأوروبية، على غرار ما حدث مثلًا في محاكمات نورمبرج، التي أدانت العديد ممن بقي من القادة النازيين. كما لم تُتخذ أي إجراءات جدية لنزع جذور النظرة الاستعلائية للآخر غير الأوروبي، مثل إجراءات اجتثاث النازية التي اتخذتها الحكومة الألمانية، لنزع آثارها من المؤسسات الحكومية والثقافية والاقتصادية.
بالنسبة لغير الأوروبيين، اعتبر السيد الأوروبي إنهاء الاستعمار بحد ذاته، وأحيانًا الاعتراف بالجرائم التي ارتكبها خلاله، بالإضافة إلى سنِّ قوانين تجريم التمييز ضد الآخر، ونقل احتقاره إلى خانة المرفوض اجتماعيًا فحسب، بمثابة "اعتذار السيد" الذي لا يمكن أن يمتد إلى مساءلته على ما ارتكبه بحق من هم أدنى.
ربما أتت المراجعة الأكاديمية الأكثر جذريةً عبر مؤرخين أعادوا كتابة التاريخ بعيدًا عن مجد الصياد، وهذا حدث قريب، لكنَّ تناميه أغضب المستعمرين "الصيادين" وأبناء الصيادين وأحفاد الصيادين، الذين اعتبروا إخفاء عنصريتهم على مضض وتجريم التصريح بها أمورًا كافيةً لاستمرار الهيمنة الناعمة على الآخرين والعنف الرمزي الدائم بحقهم.
ورغم الشواهد على أن تيار رفض الاعتراف بالجرائم والإيمان بالتفوق يهيمن على الغرب، فرنسا مثلًا، فإنَّ التصريح به لم يكن مسموحًا على الإطلاق، وكان يُخفى تحت ستار النكات التي كثيرًا ما تأتي على لسان نموذج الخال/العم الطيب الذي يلقي نكاتًا عنصرية، أو الصور النمطية المنتجة أدبيًا وإعلاميًا للتفاوتات الجغرافية بين منطق السكن والأحياء التي يقطنها الملونون. وبالتأكيد أدَّى الاختلاط الاجتماعي ودولة رفاه ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى التمركز حول الذات، والاستمتاع بالإرث والتراكم الاستعماري وما بعد الاستعماري بصمت.
ولكنَّ مجموعةً من التفاعلات المعاصرة المتعلقة بأزمة النموذج الغربي ونهاية النمو وتنامي التقشف أدت إلى ظهور العنصرية التي كان مسكوتًا عنها، وتعاظمها في الفضاءات الاجتماعية بشكل ساطع ومثير للانتباه، قد يوحي بأنها ظاهرة جديدة، لكني أعتقد أنها ترتبط بجذور متينة بعنصرية القرن التاسع عشر.
في وصل ما انقطع
ما أفترضه أنَّ مظاهر العنصرية في أوروبا تنخفض ولا تزيد، إذا قورنت بما كانت عليه قبل قرنين أو قرنٍ ونصف القرن من الزمان، ولكنَّ ظهورها الاجتماعي واتساعها هما ما يسببان الالتباس.
بدأ هذا الظهور الاجتماعي ببطء في التسعينيات، حيث أعلن زعيم اليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبان في مقابلة متلفزة عام 1996 "أنا أؤمن بعدم المساواة بين الأعراق، ومن الواضح أن التاريخ يوضح ذلك. ليس لديهم نفس القدرة والمستوى من التطور التاريخي".
ما نشهده الآن هو تحرير الوجود الاجتماعي للعنصرية وليس خلقًا جديدًا لها
بعد 6 سنوات، وصل زعيم اليمين المتطرف إلى المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية عام 2002 خلف جاك شيراك، بنتيجة 16.86%. لكن حتى ذلك التاريخ، لم يكن الاعتراف بالانتماء أو تناول اليمين المتطرف مقبولًا اجتماعيًا في الفضاء العام، وظلَّ داعمو لوبان يرفضون إظهار صورهم في اللقاءات التليفزيونية. يوضح ذلك التفاوت بين "الوجود الاجتماعي" للعنصرية، بمعنى اعتناقها، و"الظهور الاجتماعي" لهذه العنصرية، أي التصريح بها.
ما نشهده الآن تحرير لهذا الوجود الاجتماعي، وليس خلقه.
نهاية العمى الاجتماعي
يركز الكاتب الأمريكي الأسود رالف أليسون في روايته الرجل غير المرئي، التي صدرت عام 1952، على تجارب السود في الولايات المتحدة وقضايا العنصرية والهوية السوداء. يقول "أنا رجل غير مرئي. لا، لست كشبح مثل تلك التي كانت تطارد إدجار آلان بو، ولا أنا واحد من أطياف الأفلام الهوليودية. أنا رجل ذو جوهر، من لحم وعظم، وألياف وسوائل، ويمكنني حتى أن يقال إن لدي عقلًا. أنا غير مرئي، ببساطة لأن الناس يرفضون رؤيتي".
يساعدنا أليسون بفصاحته في فهم ذلك "العمى الاجتماعي" بتعمّد عدم رؤية الآخر، الأمر الذي تعود جذوره إلى عدم الرغبة في رؤية تاريخ العنصرية الغربي الطويل، وسيرورة عملية إزالته من التاريخ الاجتماعي، التي بدأت بعد نهاية الاستعمار واختفاء أدواته وأجهزته وتراثه.
لم يعد الآخر غير الغربي "غير مرئيٍّ"، ومع إسقاط ما بقي من أوهام التفوق الأوروبي الزائف وطلاقة "غير الغربي" وقدرته على الفعل والكلام والحركة في السياق الأوروبي، ليس فقط كحالات فردية متفرقة ومنفصلة تمامًا في المخيلة الغربية، بل أيضًا كمجموعات متماسكة، أصبحت هناك قدرة واضحة على إنتاج سرديات ومرويات بديلة تهدد تصورات الغربي عن ذاته وعن الآخر وعن العالم أيضًا.
أدى ذلك إلى ميلادٍ جديدٍ لمناهضة العنصرية، لا يقف عند هامش الحركات الثقافية، ولا يهيمن عليه الغربيون الكارهون للغرب، بل يتكون من خليط بشري متنوع وخلاق أيضًا. خلق ذلك هجينًا ثقافيًا ليس ضخمًا أو مهيمنًا، ولكنه موجود ويثير خوف العنصرية بدرجة أكبر. هذه التيارات ترفض العنصرية والتمييز ليس بشكل ظاهري.
الآن، يبدو لي أنَّ العنصرية قلَّت ولكنها أصبحت مكشوفةً وواضحةً. صحيح أنَّ نصف سكان أوروبا تقريبًا يؤمنون اليوم بأفكار عنصرية، لكنهم كانوا جلَّ السكان منذ قرنين. ما حدث أننا أصبحنا نراهم، وبالتالي، فإن فرص مواجهتهم بشكل حقيقي وجذري أفضل الآن من أي وقت مضى، مع نمو الحركات المناهضة للعنصرية بشكل أكثر جذرية وتنوعًا وقدرةً على التنظيم والتأثير، بعد أن وضع الغرب لنفسه، ضمن إجراءاته التي لم تكن كافية لنزع جذور العنصرية، شروطًا وحدودًا لما هو مسموح به وما هو ممنوع.
ولكن مع ذلك، علينا ألَّا ننسى إشارة جرامشي إلى أنَّ القديم لم يمت، والجديد لم يولد، والوحوش تزداد توحشًا في اللحظات الضبابية، مثل تلك التي نعيشها اليوم.