رغم سمعة طرقها الضيقة وحاراتها حيث تتزاحم السيارات في الاتجاهين، وسمعة طقسها كمدينة الضباب، فإن لندن كانت أرحب مما تبدو بينما تستقبل مئات الآلاف في شوارعها رافعين الأعلام الفلسطينية مطالبين بوقف الحرب على غزة.
كم بدا العَلمُ جميلًا. تتشابه الأعلام العربية في ألوانها ورموزها حتى تكاد تختلط على غير العارفين، لكنَّ العلم الفلسطيني كان فريدًا وبدا ذا هيبة ودلال على قلوب حامليه. لم تُرفع أية أعلام أخرى سواه، مُرفرفًا فوق الرؤوس.
مجرد قطة قماش ملونة، لكنه الرمز الذي غيَّر وجهة الشارع في لندن من الهايد بارك إلى مقر السفارة الأمريكية. بحر من الأخضر والأبيض والأسود والمثلث الأحمر، بكلِّ ما بات يحمله اليوم من معانٍ تحدد البوصلة والهدف.
وجوه من الميدان
تعبير يذكرنا بربيعنا العربي وميادين العواصم العربية المنتفضة قبل أكثر من عقد من الزمن؛ آخر عهدي بالمظاهرات والحشود والحماسة والإيمان بقضية واحدة ومطلب واحد. من ميدان التحرير في مصر إلى ترافلجار سكوير في لندن، تغيَّرت الوجوه وغيَّر الزمن فينا ما غيَّر، لكنَّ المطلب واحد؛ الحرية. من حرية التعبير إلى حرية فلسطين العنوان واحد.
كنا مجموعة من الأصدقاء من جنسيات عربية وأجنبية مختلفة، تعارف الكثير منا للمرة الأولى في التظاهرة حيث لا تهم خلفياتنا وميولنا لأننا في تلك اللحظة نجتمع على هدف واحد؛ أن نكون كثيرين وأن نطالب بوقف الحرب وتحرير كامل فلسطين من "المَيِّة للمَيِّة"، أو من النهر إلى البحر فلسطين ستصبح حرة/from the river to the sea Palestine will be free. الشعار الذي حاولت السلطات البريطانية منعه على اعتبار أنه "معادٍ للسامية" ويقوِّض ما يعدونه "حق إسرائيل التاريخي" في الوجود.
جدل كثير تُثيره المظاهرات الداعمة لفلسطين والمطالبة بوقف الحرب في مكاتب صناعة القرار في بريطانيا، اتهامات بالعنصرية والتطرف والإرهاب لمتظاهرين سلميين، وتهديدات بملاحقات واعتقالات. وقوانين حاولت وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان سنَّها لتعطيل التظاهرات، التي ضربت بمبادئ حرية التعبير عرض الحائط في بلد يتباهى بتاريخه الديمقراطي العريق.
ولكي لا أطيل عليكم، فكما بِتُّم تعرفون، محاولات الوزيرة الرعناء كلفتها منصبها في الحكومة، وهزت حزب المحافظين المترنح أصلًا، حرفيًا وليس مجازًا.
منذ سنوات طويلة لم أشارك في أية تظاهرات لما تعيده في ذاكرتي من آثار الصدمة، وأحاول تجنب التجمعات خوفًا من نوبات الهلع المفاجئة. لكني في ذلك اليوم تجاهلت الأمر، ولم أفكر سوى أننا يجب أن نكون كثيرين، وأن نواجه القمع الذي يلاحقنا حتى في منافينا. كثيرون أيضًا ركنوا أمورهم وتجاوزوا صدماتهم وقلقهم وخرجوا بين الجموع، لتُسجَّل أكبر تظاهرة داعمة لحق الفلسطينيين في الحياة في تاريخ المملكة المتحدة.
ملايين رافضي الحرب حول العالم يوصمون بالإرهاب، وأمثال بريفرمان وسوناك يعتبرون أنفسهم على حق
لم تقتصر الوجوه علينا نحن الشعوب السمراء أبناء جنوب هذا الكوكب. بل بشر من كلِّ الألوان والمشارب كانوا جنبًا إلى جنب. هنا سيدة إنجليزية جاءت إلى لندن للمشاركة مع رضيعتها من بلدتها التي تبعد ساعتين عن وسط المدينة، وهناك عائلة حضرت بكامل أفرادها؛ الجد يهتف والحفيد يحمل العلم. يحترفون تعليم الحق وممارسته كي لا يضيع، غير عابئين بالأصل والجنسية واللون. المهم أن تبقى الإنسانية بخير.
دمي فلسطيني
يحدث أن تسمع هذه الأغنية بين مساحة وأخرى على طول التظاهرة وعرضها، وكأنها تحولت إلى النشيد الشعبي للفلسطينيين يُعرفون من خلاله أينما حلوا. يقول أحدهم إن الأغنية ممنوعة لأن فيها كلمة "دم". يضحك الناس ساخرين ويكملون الدبكة حاملين الأعلام. ودمي فلسطيني.
كم تبدو الحساسية الأوروبية مثيرة للسخرية والاشمئزاز معًا، كلمة "الدم" في الأغنية مرعبة وتصدر لمنعها الفرمانات بينما شلالات الدم المسفوك على الأرض لا تؤرق القلوب المرهفة، طالما ظلَّت هناك خلف البحار بعيدًا عن الحدود.
ليست الكذبة الأولى
ليست هذه المرة الأولى أو الوحيدة التي تكون فيها الحكومة البريطانية منفصلة عن الشارع ومطالبه، وقد علمتنا التجارب في الدول الديمقراطية، أن الديمقراطية نفسها يمكن أن تكون في بعض الحسابات "وجهة نظر".
في فبراير/شباط 2003 خرجت في لندن تظاهرة هي الأكبر على الإطلاق بحسب السجلات الرسمية، بعد أن وصل العدد إلى أكثر من مليون متظاهر، يطالبون بعدم شنِّ الحرب على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، ما تبين بعد فوات الأوان أنه ادعاء كاذب ساقته بريطانيا والولايات المتحدة لتبرير غزو العراق.
واليوم تُصدِّق الحكومة الكذبة وتُسوِّق لحق إسرائيل في الدفاع عن احتلالها لأرض لا حقَّ لها فيها، كما تتهم كلَّ من خالف هذه الرؤية بالإرهاب. ملايين رافضي الحرب حول العالم يوصمون بالارهاب، فيما أفراد مثل سويلا بريفرمان وريشي سوناك يعتبرون أنفسهم على حق!
التاريخ لا يعيد نفسه بل نحن
يقول الكاتب ستيفن بينكر في كتابه أفضل ملائكة لطبيعتنا/The Better Angels of Our Nature، صدق أو لا تصدق، أن جنسنا البشري يعيش ربما أكثر لحظات وجوده سلمية، مبينًا أنه رغم استمرار الحروب والمذابح والإرهاب فإن العنف انخفض كثيرًا على مر التاريخ البشري مقارنة بحقبات تاريخية سابقة، لا سيما الحربين العالميتين.
ومع ذلك، فإن احتمالية تغيُّر هذا الأمر باتت قريبة جدًا، ربما لأن البشر مفطورون على العنف كما تذهب بعض التفسيرات، أو لأن المجتمعات صارت في غربة مع من يديرونها ويتخذون القرارات الكبرى فيها.
أودُّ أن أصدق أنَّ العنف أصبح أقل بالفعل، وأنَّ انتصار القيم الإنسانية هو جواز سفر البشرية إلى المستقبل، وأنه في ظل هذه القيم، يستحيل على دولة قائمة على الفصل العنصري والقتل والتهجير، أن تستمر في الوجود على ما هي عليه، مهما بدا المستقبل بعيدًا.