لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لإخماد النيران التي اندلعت في الشرق الأوسط قبل ثلاثة أشهر، إذ يكشف سير المواقف والأحداث أنَّ واشنطن قررت استغلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لاستعادة نفوذها بشكل كامل على المنطقة، التي سعت إدارة بايدن في البداية إلى فك الارتباط الذي استمر معها لعقود، قبل أن تعيد النظر في هذه السياسة مع توجه بعض الدول العربية نحو إقامة شراكات وتحالفات مع الحلف الروسي الصيني، الأمر الذي يهدد المصالح الأمريكية.
بعيدًا عن الأهداف التي أعلنتها إسرائيل بعد هزيمتها في السابع من أكتوبر، بالقضاء على حماس وإعادة الأسرى وضمان ألا يشكِّل القطاع مصدر تهديد مجددًا، يسعى الحلف الصهيوني، سواء في تل أبيب أو واشنطن، إلى إحكام سيطرة الولايات المتحدة مجددًا على الشرق الأوسط، والحد من أي محاولات للتمدد الروسي الصيني فيه.
لا يمكن وضع الصراعات والحروب الأهلية التي اندلعت في المنطقة، قبل طوفان الأقصى أو بعده، بمعزل عن تحقيق الهدف الأمريكي – الصهيوني. فما يجري في ليبيا والسودان، ودعم إثيوبيا في معركتها بشأن سد النهضة مع مصر ودفعها للخروج إلى البحر الأحمر الذي شهد اضطرابات وتوترات غير مسبوقة خلال الأسابيع الماضية، يأتي في سياق تحقيق هدف تحالف واشنطن - تل أبيب بأن تظل المنطقة في حالة توتر دائم، لتسهيل عملية إحكام السيطرة والإخضاع.
العقبة الكؤود التي من شأنها إفساد هذا المخطط وخلط الأوراق الأمريكية والإسرائيلية، هو وجود حركات المقاومة الفلسطينية تحديدًا، التي ترفض الخضوع لرغبات واشنطن ووكلائها. لذا صدر قرارٌ غير معلن بتصفيتها أو إعلان هزيمتها، فإذ بها تفاجئهم بعملية مباغتة تضعهم في الزاوية وتضرب خططهم من المسافة صفر.
ضرورة هزيمة المقاومة
حاول الأمريكيون منذ بداية العدوان الضغط على فصائل المقاومة لإعلان الاستسلام، لكنها أبت، وخاضت معركة طوفان الأقصى ببسالة مذهلة رغم عدم تكافؤ إمكانياتها مع إمكانيات جيش الاحتلال. ولا يمر يومٌ دون أن توقع في صفوف هذا الجيش خسائر فادحة، دفعت المجتمع الإسرائيلي إلى فقدان الثقة في تحقيق الأهداف المزعومة التي أُعلنت في بداية الحرب، وهو ما زاد الشروخ داخل بنية الدولة العبرية.
"لقد سقطنا في حفرة عميقة"، كان ذلك تعبير ناحوم برنياع كبير محللي صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، عن الحالة التي تمر بها بلاده، مؤكدًا أن أي حديث عن هزيمة حركة حماس لا يعكس الواقع.
برنياع أضاف في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" الأسبوع الماضي "نحن نقف في قاع الحفرة ونسأل الكثير من الأسئلة، إلى أي مدى سقطنا، لماذا سقطنا، وأين العدو الذي أسقطنا وكيف سندمره؟".
وفي محاولته إجابة تلك الأسئلة أشار برنياع إلى أنَّ "الخروج من هذه الحفرة يعني إعادة المخطوفين (الأسرى لدى المقاومة)، واستعادة الأمن والإحساس بالأمان لسكان الجنوب والشمال، وإطلاق سراح جنود الاحتياط إلى منازلهم ومحاولة إنهاء الحرب".
ويرى الكاتب أنَّ وقف الحرب والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، واستمرار حكم حماس للقطاع، يعني أن إسرائيل تعرضت لـ"هزيمة كاملة لا توصف".
لن تقبل الولايات المتحدة بتلك الهزيمة الكاملة، حتى وإن أشعلت المنطقة بالكامل. ليس لأنها تدافع عن وجود حليفتها إسرائيل باعتبارها حارس مصالحها في الشرق الأوسط وحسب، بل لأنَّ هذا السيناريو يهدد مساعيها لإخضاع المنطقة لنفوذها.
خلال جولته الأخيرة إلى المنطقة كرر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن التأكيد على أن بلاده لن تطلب من إسرائيل وقف إطلاق النار، وهو تصريح يحمل في طياته تحريضًا على القتل ويضع الولايات المتحدة جنبًا إلى جنب مع الكيان الصهيوني في مواجهة "العدالة الدولية"، باعتبارها شريكًا في جرائم الحرب وعمليات الإبادة الجماعية.
وبعد تشديد بلينكن خلال جولته على أن بلاده "تسعى لمنع اتساع الحرب"، استهدفت الطائرات والقطع البحرية الأمريكية والبريطانية مواقع عسكرية للحوثيين في اليمن، بدعوى "عدم تعريض حرية الملاحة في إحدى أكثر الطرق التجارية أهمية في العالم"، حسب بيان الرئيس الأمريكي بايدن.
إن أرادت الولايات المتحدة خفض التوتر في مدخل البحر الأحمر ومنع هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية أو تلك التي تتجه إلى مواني إسرائيل، كان عليها أن تضغط على حكومة نتنياهو لإنهاء العدوان على غزة، فالتوتر الذي تصاعد في مدخل البحر الأحمر مرتبط باستمرار العدوان، لو انتهى الأخير لزال الأول، لكنَّ واشنطن لن تقبل بأقل من هزيمة الفلسطينيين واستسلام المقاومة، حتى يبدأ الشرق الأوسط حقبته الأمريكية الجديدة التي تعيق المقاومة تحويلها إلى واقع.
إنقاذُ مخططٍ وسردية
كان من اللافت أن يتحدث بلينكن عن أن إسرائيل لا تزال أمامها فرصة حقيقية لتعزيز العلاقات مع الدول العربية، في وقت يصر فيه نتنياهو ورفاقه من القتلة على تحويل قطاع غزة إلى مكان غير قابل للحياة، ويمارس فيه جيش الاحتلال كل أنواع جرائم الحرب وعمليات القتل الجماعي للفلسطينيين.
لا يوجد أمام المقاومة الآن سوى الصمود حتى ينزل الحلف الصهيوأمريكي من على الشجرة
الوزير الأمريكي الذي اختار تعريف نفسه بصفته "يهوديًا"، قال خلال جولته التي التقى فيها عددًا من القادة العرب وانتهت بقصف مواقع يمنية، إن "السعودية وبلدانًا أخرى لا تزال مهتمة ببناء علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل"، لكنه، وحتى لا يُحرج من قابلهم، أردف أن "القادة العرب يصرون على إنهاء إسرائيل الحرب في غزة والعمل على إقامة دولة فلسطينية".
يعلم هؤلاء القادة مثلما يعلم بلينكن أنَّ نتنياهو لا ينوي إنهاء حربه في غزة حتى لو خسر آخر جندي في جيشه، فالرجل يخوض حربه الخاصة، ويعلم أنه لو تراجع لن يخسر منصبه فحسب بل سيُحاكم ويدخل السجن. كما يعلم هؤلاء أيضًا أنه لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، ولا حتى أحزاب المعارضة، من هو مستعد للقبول بالدخول في مفاوضات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
العدوان التي تمارسه إسرائيل الآن هو وسيلة ضغط لإجبار المقاومة على رفع الراية البيضاء، وترى واشنطن أنَّ تلك الوسيلة هي التي ستمهد لها طريق تنفيذ استراتيجيتها بإخضاع المنطقة، وعليه جرى التفاوض مؤخرًا لبلورة مقترح جديد يقضي بخروج قادة حماس من غزة، مقابل انسحاب جيش الاحتلال من القطاع.
المقترح ناقشه في الدوحة بريت ماكجورك مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، مع رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بعد أيام من اغتيال إسرائيل للقيادي الحمساوي صالح العاروري في بيروت، حسب تقارير إعلامية عبرية. وفيما استعرض مجلس الحرب الإسرائيلي بنود المقترح، رفضت حركة حماس ومعها باقي فصائل المقاومة بشكل قاطع أي مبادرات تتضمن الاستسلام أو تسليم السلاح.
ووفق مصادر قريبة من قيادات حماس، أبدت الحركة استعدادها للقبول بمبادرات تتضمن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بشكل مرحلي، على أن ينسحب الجيش الإسرائيلي بشكل تدريجي من القطاع، ومع نهاية تلك المراحل يتم الاتفاق عن هدنة طويلة الأجل بين فصائل المقاومة وإسرائيل، وهو ما رفضته حكومة نتنياهو والشريك الأمريكي، اللذان يصران على ألا تحصل المقاومة على ما يمكنها تصديره باعتباره انتصارًا مُكمِّلًا لطوفان الأقصى.
لا يوجد أمام المقاومة الآن سوى الصمود والاستمرار في عملياتها البطولية، حتى ينزل الحلف الصهيوأمريكي من على الشجرة، ويُجبر على قبول صفقة لا تشمل إعلان هزيمة أو استسلام الفلسطينيين.
وبالرغم من أنَّ الوصول إلى هذه النتيجة يبدو صعبًا، فإنه ليس مستحيلًا أمام الضغوط التي يتعرض لها شركاء العدوان داخل مجتمعاتهم أو على مستوى الرأي العام الدولي الذي انحاز أغلبه إلى الحق الفلسطيني، لا سيما بعدما المنازلة القانونية الجارية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي أجهزت فيها جنوب إفريقيا على السردية الإسرائيلية، وعززت الرأي العام الدولي الرافض لها.