لو بحثت على موقع وزارة الخارجية الفرنسية عن الفرنك الإفريقي ستجد مقالًا قصيرًا يشرح ماهية هذه العملة بلغة حميمة توحي بأن فرنسا أوجدتها لضمان رخاء مستعمراتها التاريخية.
بعد انتهاء زمن الاستعمار بعقود، استمر الفرنك حاضرًا كعملة كولونيالية، ويعكس تاريخ علاقة فرنسا بالدول المتبنية لهذه العملة، كيف استخدمت السياسة النقدية في سبيل النهب الاستعماري، وهي السردية المضادة التي يقدمها لنا كتاب "آخر العملات الاستعمارية: قصة فرنك CFA"، الذي نشره الاقتصادي السنغالي ندونجو سامبا سيلا، والصحفية الفرنسية فاني بيجو، عام 2021.*
كيف نشأت منطقة الفرنك وأين امتد نفوذها ؟
تنقسم منطقة الفرنك إلى ثلاثة اتحادات نقدية؛ الأول الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا UEMOA، ويضم في عضويته ثماني دول؛ هي بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، وغينيا-بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوجو، والثاني هو الاتحاد النقدي لوسط إفريقيا CEMAC، ويضم ست دول؛ وهي الكاميرون، والكونجو، والجابون، وغينيا الإستوائية، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، والثالث هو الاتحاد النقدي لجزر القمر.
كل بلد من البلدان السابقة له عملته الخاصة، لكنهم أُجبروا على الارتباط بالفرنك الفرنسي (ثم اليورو حاليًا) بسعر صرف ثابت، كما أن هذه الدول الخمس عشرة، والتي تضم أكثر من 187 مليون نسمة، تخضع لمعايير نقدية موحدة تحددها باريس.*
وبدأت إرهاصات فكرة ربط المستعمرات الفرنسية بالفرنك، مع صك فرنسا عملة خاصة بالتداول مع تجار العبيد في جزيرة صغيرة تسمى Gorée تقع قبالة سواحل السنغال، خلال حكم شارل العاشر 1825.*
لاحقًا، صكت فرنسا عدة عملات تابعة لها وأجبرت المستعمرات على استخدامها، كما أنشأت بنوكًا مركزية استعمارية مثل بنك غرب إفريقيا (BAO) مسؤولة عن صك تلك العملات وتداولها في مناطق محددة.
منحت فرنسا مستعمراتها استقلالًا صوريًا بعد أن كبلتها باتفاقيات تُقوض سيادتها
كان هدف فرنسا الأساسي السيطرة على تلك المستعمرات بشتى الطرق، ومنع الشركات غير الفرنسية من الولوج لتلك الأسواق، لكن هذه العملية استغرقت مدة طويلة، بسبب ممانعة الاقتصادات المحلية لاستخدام "العملات الاستعمارية"، ما دفع فرنسا لاستخدام أساليب مختلفة لإنفاذها؛ مثل منع تداول العملات المحلية، أو إجبار السكان المحليين على دفع ضرائبهم بالعملة الفرنسية، وصولًا لاستخدام القوة العسكرية في بعض الأحيان.*
اقتصادات تابعة: آليات الهيمنة والنهب
وفي الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1945 وقّع الجنرال شارل ديجول، رئيس فرنسا في ذلك الوقت، ووزير ماليته رينيه بليفين، ووزير المستعمرات جاك سوستال، مرسومًا بالتأسيس الرسمي للعلاقة النقدية الحالية بين فرنسا والدول المرتبطة بها.*
تزامن المرسوم مع صعود روح الاستقلال وسط الدول المستعمرة، وكان الغرض منه ربط هذه البلدان بفرنسا رابطًا أبديًا. أو كما يقول، ميشيل دوبريه رئيس وزراء فرنسا في مطلع الستينيات "لقد منحناهم استقلالهم ولكن بشروط تلزمهم بتنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بيننا، بحيث لا يمكنهم الحصول على واحدة دون الأخرى".*
وقضى المرسوم بإصدار عملتين، الأولى خاصة بالتداول في مستعمرات فرنسا على المحيط الهادئ، والثانية هي فرنك CFA لمستعمرات فرنسا بإفريقيا.
منحت فرنسا مستعمراتها استقلالًا صوريًا بعد أن كبلتها باتفاقيات تُقوض سيادتها على اقتصاداتها المحلية، وألزمت تلك البلدان بإيداع كامل احتياطاتها من النقد الأجنبي لدى الخزانة الفرنسية، ثم خفضت تلك النسبة إلى 50% خلال العقد الأول من الألفية الجديدة.
خدمت هذه السياسة النقدية مصالح فرنسا بالمقام الأول، فمثلا كان سعر صرف فرنك CFA يرتفع/ينخفض أمام العملات الخارجية (مثل الدولار)، بنفس مقدار ارتفاع/انخفاض الفرنك الفرنسي أمام هذه العملات، وليس بما يعكس أحوال الاقتصاد في هذه البلدان.
أمنت فرنسا حاجتها من مواد استراتيجية نادرة كاليورانيوم عن طريق النيجر
ولم تكن دول الفرنك الإفريقي حرة في تحويل عملاتها إلى عملات خارجية (مثل الدولار)، إلا بإذن من فرنسا وعلى أساس ما تُخصصه من ميزانيتها لتمويل عملية التحويل تلك.
بل إن الفرنك الإفريقي لم يكن قابلًا للتحويل إلا داخل الاتحادات النقدية الثلاث الموجودة في منطقة الفرنك، ولم يدم ذلك طويلًا ففي عام 1993 منعت فرنسا كلا الفرنكين المتداولين في منطقة الفرنك، بالإضافة للفرنك القمري من التداول بين تلك الاتحادات النقدية نفسها.
وأوجدت فرنسا حسابات جارية بينها وبين البنوك المركزية الثلاث في منطقة الفرنك، ما يسمح لها بالتحكم بالسياسات النقدية والمعاملات الاقتصادية لدول المنطقة.
مثلاً ألزمت فرنسا المُصدرين في البلدان التابعة لها بتحويل 80% من عوائدهم بالعملة الصعبة لصالح البنك المركزي خلال شهر من تلقيهم تلك العوائد. بل ودفعت البنوك المركزية الثلاث الموجودة في منطقة الفرنك لاستثمار الـ 50% المتبقية في حوزتها من احتياطاتها النقدية في السندات الفرنسية، أو السندات المقومة باليورو، فتصبح بذلك المتحكم الفعلي في الاحتياطات النقدية لتلك الدول.
كل الطرق تؤدي إلى باريس
كرست هذه السياسات آليات النهب الاستعماري، فجعلت فرنسا تستحوذ على المواد الخام والفوائض التجارية من مستعمراتها، دون تقديم مقابل مكافئ لما كان يمكن أن تجمعه تلك البلدان إذا باعت لغير فرنسا، فمثلاً قدّر أحد التقارير المنشورة في عام 1960 أن فرنسا توفر حوالي 250 مليون دولار سنويًا من خلال سد حاجتها من المواد الخام عن طريق مستعمراتها في منطقة الفرنك.*
بجانب ذلك منحت فرنسا قروضًا لتلك الدول بهدف فتح أسواق جديدة أمام رأس المال الفرنسي، على سبيل المثال؛ حصل تحالف من ثلاث شركات فرنسية على امتياز إنشاء خط مترو في أبيدجان مقابل 1.4 مليار يورو يتم تأمينها من خلال قرض فرنسي لساحل العاج.
وعندما أطلقت مبادرة تخفيف الديون والتنمية C2D، تحت إشراف الوكالة الفرنسية للتنمية AFD، سيطرت الوكالة على تحديد أوجه إنفاق المساعدات المرتبطة بهذه المبادرة، وحددت القطاعات المستهدفة والشركات المسؤولة عن تنفيذ المشروعات الممولة عن طريقها، والتي كانت معظمها فرنسية بالطبع.
حصلت الكاميرون مثلًا على 520 يورو عام 2006 في إطار تلك المبادرة، وُجهت لمشروعات الطرق والبنية التحتية، كانت 88% من الطرق المنفذة موكلة لشركات فرنسية.
بجانب ذلك أمَّنت فرنسا حاجتها من مواد استراتيجية نادرة كاليورانيوم عن طريق النيجر، التي تلبي 30% و100% من احتياجات فرنسا المدنية والعسكرية على التوالي، وبأسعار أقل من السوق العالمي.
المقاومة والرفض
لم تمر عملية الهيمنة الاستعمارية هذه بسهولة فكثيرًا ما قاومت البلدان الإفريقية ذلك الأمر رغم الفوارق الاقتصادية والعسكرية بينها وبين باريس.
كانت البداية مع غينيا، تلك الدولة الصغيرة في غرب إفريقيا التي أعلنت استقلالها عن طريق استفتاء شعبي في 28 سبتمبر/أيلول 1958، وسعى سيكو توريه، رئيس غينيا في ذلك الوقت لإصدار عملة وطنية غينية دون الانسحاب من منطقة الفرنك، وردت فرنسا على هذه الخطوة بدعم الجماعات المتمردة ضد سيكو توريه، لم يقتصر الأمر على ذلك فقام جهاز المخابرات الفرنسية بضخ عملات مزورة في الأسواق مما أدى إلى انهيار الاقتصاد الغيني في نهاية المطاف.*
وفي مطلع الستينيات سلكت توجو المستقلة حديثًا طريق غينيا، وعقدت اتفاقًا مبدئيًا مع فرنسا ينص على مراجعة السياسات النقدية بينهما، واعترفت فرنسا بحق توجو في إصدار عملتها الخاصة في مقابل بقائها ضمن منطقة الفرنك.
وسعت توجو للتقدم أكثر وإقامة علاقة تجارية مع كلٍ من ألمانيا، والولايات المتحدة، وفي 12 ديسمبر 1962، أعلن قائد البلاد، سيلفانوس أوليمبو، قانون إنشاء البنك المركزي التوجولي والشروع في إصدار عملة محلية خاصة بتوجو.
لكن هذه الطموحات انتهت يوم الثالث عشر من يناير/كانون الثاني عام 1963، حين أطلق ضباط خدموا سابقًا في الجيش الفرنسي النار على سيلفانوس أوليمبو أمام السفارة الأمريكية في لومي، ووأَدُوا حلم أمة في مهده.
نبيذ جديد في زجاجات قديمة
علي مدى عقود تظاهر العمال والطلبة والفلاحون في إفريقيا ضد التدخل الفرنسي في بلادهم، ارتفعت وتيرة هذه الاحتجاجات منذ مطلع الألفية.
خلال عامي 2007-2008 شهدت عدة دول إفريقية، من بينها كوت ديفوار، والسنغال، وبوركينا فاسو احتجاجات بسبب ارتفاع أسعار الطعام والظروف الاقتصادية المتدهورة، وطالب عدد من الاقتصاديين والنشطاء على مدار السنوات السابقة بمقاطعة المنتجات الفرنسية، احتجاجًا على استمرار الهيمنة الفرنسية في منطقة الفرنك. هذه الضغوط المتواصلة دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإعلان نيته "تحديث" فرنك CFA.
وفي 21 ديسمبر 2019 أعلن ماكرون في مؤتمر صحفي في أبيدجان عن "إصلاح تاريخي" يشمل ثلاث تغيرات أساسية في مقدمتها التخلي عن إلزامية الاحتفاظ بـ50% من الاحتياطات النقدية لدى الخزانة الفرنسية، ثانياً: سحب التمثيل الفرنسي في مجلس إدارة البنك المركزي لغرب إفريقيا (BCEAO)، ثالثاً: تغيير اسم الفرنك الإفريقي من CFA Franc إلى ECO.
لم تغير هذه الإصلاحات من واقع الأمر شيئا فلا تزال فرنسا هي الضامن لقابلية تحويل هذه العملة الجديدة إلى عملات أجنبية، كما أن مبدأ سعر الصرف الثابت مقابل اليورو لم يمس، بالإضافة لإبقاء حرية حركة رؤوس الأموال كما هي دون قيود. في واقع الأمر لم تكن هذه المهادنة الفرنسية سوى مناورة تحاول من خلالها باريس استخدام أدوات غير مباشرة لضمان استمرار هيمنتها على منطقة الفرنك.
في النهاية لو كان لنا أن نستشرف مستقبل فرنك CFA، يمكننا رؤية أن أمد بقاء هذه العملة لن يطول، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دول منطقة الفرنك تبدو متدهورة، فقد حلت 12 دولة منها من أصل 15 في تصنيف مؤشر التنمية البشرية (HDI).
كما دخل إلى إفريقيا فاعلون جدد في مقدمتهم الصين وروسيا، وحتى دول منطقة الفرنك التي كان تعدادها 31 مليون نسمة فقط عام 1950 في مقابل 41 مليون نسمة لفرنسا، تغير هذا الوضع تمامًا حيث وصل عدد سكان دول منطقة الفرنك عام 2015 لأكثر من 162 مليون نسمة، مقابل 64 مليون لفرنسا.
كل هذا ينعكس في حالة السخط والاحتجاجات المتصاعدة ضد فرنسا وعملتها، التي تجلت بوضوح في إحراق الناشط السياسي الإفريقي KEMI SEBA لـ5000 فرنك إفريقي في أغسطس/آب عام 2017، وتصاعد نبرة الاحتجاجات والمطالبات بتفكيك فرنك CFA، وتحرير الدول الإفريقية من مغبة الكولونيالية الجديدة.
* المعلومات التاريخية في المقال مقتبسة من كتاب "آخر العملات الاستعمارية: قصة فرنك CFA"