قبل نحو ثلاثين عامًا كنت أغطي أحد مؤتمرات القمة الإفريقية التي انعقدت في القاهرة، وإلى جواري الزميلة لمياء راضي من وكالة الصحافة الفرنسية، وهي أكثر دراية مني بالشؤون الإفريقية بحكم ارتباط فرنسا، المستعمر السابق، بالعديد من الدول في غرب ووسط القارة.
توالت الخطابات حتى جاء دور رئيس جمهورية الجابون عمر بونجو. نظرت للمياء ولم نتمالك أنفسنا من الضحك، وتصورنا السيد الرئيس وهو يبيع "البانجو" في ميدان العتبة في القاهرة، حيث انتشر مهاجرون أفارقة يبيعونه هناك في ذلك الوقت، كمخدر رخيص، كما تبادلنا مزاحًا عن الصحف الرسمية، وهي تنشر مقتطفات من خطاب الرئيس "عمر بانجو" عن طريق الخطأ.
كان خطابه باهتًا، وبدا هو زاهيًا متبخترًا كإمبراطور في زي إفريقي تقليدي. عرفت من الحديث مع الزملاء الأفارقة الحاضرين للقمة أنه نموذج للديكتاتور الفاسد، الذي يعتمد استمرار حكمه منذ عام 1967 على القمع وتزوير الانتخابات. ورغم ذلك، كان يحظى بدعم فرنسا والغرب وساد الاستقرار دولته الصغيرة التي يتجاوز عدد سكانها المليونين بقليل، في قارة مضطربة تسودها الحروب والنزاعات والانقلابات. أهلًا وسهلًا، الحال من بعضه رغم بعض الاختلافات.
ثلاثة من "البونجو"
انقطعت صلتي بالجابون منذ ذلك الوقت، ولم تكن من ضمن الدول التي أتابعها كصحفي تخصص في الشؤون العربية والدولية. ولذلك أصابتني الدهشة مؤخرًا مع الإطاحة بالرئيس بونجو في الجابون الأسبوع الماضي في انقلاب عسكري.
المثير أن علي بونجو، المحتجز الآن بلا حول ولا قوة، ظل نموذجًا ينال إشادة الغرب بسبب سياساته الداعمة للبيئة
لم تكن المفاجأة بالطبع هي وقوع انقلاب في دولة إفريقية أخرى، في ظل ما بات يُسمّى "تسونامي الانقلابات العسكرية"، و"وباء الانقلابات"، الذي ضرب عدة دول في غرب ووسط إفريقيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ما لم أتصوره حقًا، أن الرئيس بونجو ما زال يحكم بلاده منذ 65 عامًا. لا بد أن عمره تجاوز المائة عام إذن!
لكن عندما شاهدت الفيديو الذي بثه الرئيس وهو في حالة صدمة، مستغيثًا "بالأصدقاء في كل مكان"، لإنقاذه وإطلاق سراح زوجته الفرنسية ونجله المقرب، راودتني الشكوك، فلم يكن ذلك هو الرجل الذي رأيته يتحدث في المؤتمر الصحفي قبل ثلاثين عامًا!
عدم اهتمامي بشؤون الجابون جعلني أجهل أن الرئيس عمر "بانجو" الأب توفي عام 2009، بعد 42 عامًا في السلطة، ليرث حكمَه ابنُه، علي بونجو، وهو أحد تسعة أبناء اتهموا جميعًا من قبل النيابة الفرنسية بالفساد.
الرئيس عمر وابنه علي، كلاهما ينتميان إلى عائلة مسيحية في الجابون، وقررا هما فقط اعتناق الإسلام من بين أفرادها مطلع السبعينيات، وقيل وقتها إن ذلك كان طمعًا في مساعدات الدول الخليجية الغنية بالنفط، وتحديدًا السعودية والكويت.
ولأنَّ "من شابه أباه فما ظلم"، اتَّبع الرئيس الابن سُنَّة أبيه، وبدأ تجهيز نجله المقرب نور الدين لخلافته، خصوصًا وأن حالته الصحية باتت محل تساؤل منذ تعرضه لجلطة عام 2018، تسببت في ابتعاده عن المشهد نحو عام، جرت خلاله محاولة انقلاب فاشلة.
وبعد أسبوع من الإطاحة بالرئيس بالابن، أذاع التليفزيون الرسمي صورًا لرجال الأمن يقتادون الحفيد نور الدين علي عمر بونجو، وبحوزته أعداد كبيرة من الحقائب معبأة كلها حتى آخرها بالأموال السائلة، ومعه تسعة من كبار المسؤولين في مقر رئاسة الجمهورية، يُواجهون جميعًا الآن تهمًا بالفساد والخيانة والاستيلاء على المال العام.
الجدد مثل السابقين
اختلفت ردود الفعل على انقلاب الجابون، عن تلك التي صدرت في أعقاب انقلاب النيجر، حيث الأوضاع شديدة التوتر، مع تهديدات نيجيريا المتزعمة لتحالف دول الإيكواس بالتدخل عسكريًا لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي للرئيس المنتخب محمد بازوم، ويُحاصر آلاف النيجريين مقر القاعدة الفرنسية، ويهددون بطرد السفير الفرنسي من هناك عنوة. النيجر تستضيف قاعد عسكرية بها ما يزيد عن ثلاثة آلاف عسكري فرنسي وأمريكي، يحاربون تنظيم داعش الإرهابي في منطقة الساحل والصحراء، على عكس الجابون، التي لا يتواجد على أرضها سوى 350 جندي فرنسي فقط، رغم كونها أيضًا مستعمرة فرنسية سابقة.
وعلى عكس النيجر، التي يرفع فيها من يحشدهم قادة الانقلاب في الشوارع أعلام روسيا وتنظيم فاجنر، ويحرقون الأعلام الفرنسية وسط تنامي المشاعر المعادية للمستعمر السابق، وإن كانوا يحاولون كسب ود واشنطن، لم يصدر عن قائد الانقلاب في الجابون ما يوحي بدخوله في فلك تلك الحرب الباردة الجديدة بين فرنسا والولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، على الأراضي الإفريقية.
صحيح أن الاتحاد الإفريقي، صاحب المواقف الحاسمة إزاء الدول التي تشهد انقلابات عسكرية، جمد عضوية الجابون، لكن الأمر انتهى هنا؛ ولم تواجه البلاد أي تهديدات إقليمية مثلما حدث مع النيجر، وكأن الجميع أدرك أن حكم آل بونجو وصل إلى نهايته، ولا بد لهذا البلد أن يفتح صفحة جديدة دون وجود نسل تلك الأسرة النافذة في الحكم، حتى لو كان الحكام الجدد لا يختلفون كثيرًا عن سابقيهم.
فقائد الانقلاب الجنرال أوليجي، رئيس الحرس الجمهوري المكلف بحماية الرئيس ونسله، كان مقربًا للغاية من الرئيس الأب عمر في شبابه، وصاحبه حتى وفاته. وبعد استبعاده في بداية حكم الرئيس الابن علي، بإرساله ملحقًا عسكريًا في المغرب والسنغال، عاد في 2018 مديرًا للمخابرات في الحرس الجمهوري، ثم رئيسًا للحرس الجمهوري نفسه في العام التالي.
طبعًا لن يُسلِّم الجنرال أوليجي السلطة للمعارضة بعد أن حُمِل على الأكتاف ونودي به رئيسًا في الشوارع
وكما واجهت أسرة بونجو اتهامات من قبل القضاء الفرنسي بشأن اختلاس المال العام وتضخم الثروة، نشرت منظمة أمريكية متخصصة في مكافحة الفساد تقريرًا العام الماضي يتهم قائد الانقلاب، البالغ من العمر 48 عامًا، بشراء ثلاث عقارات في ضواحي واشنطن بأموال سائلة تقدر بنحو مليون دولار. وعندما سئل عن ذلك قال إنه لا يحب أن يتحدث عن "حياته الخاصة".
قد لا يتفق الجميع على مصطلح "وباء الانقلابات"، مع الإشارة إلى وجود سبب محلي مباشر في كل دولة أدى لقلب الأوضاع التي كانت تبدو مستقرة لسنوات. في حالة الجابون الأخيرة، السبب المباشر هو تزوير الانتخابات الرئاسية لمنح علي بونجو فترة ثالثة رغم حالته الصحية المتدهورة، ورغم القمع وتزايد اتهامات الفساد ومحاولات السيطرة على الاقتصاد في الوقت الذي تقترب فيه نسبة الفقراء من 40% من إجمالي عدد السكان، وتبلغ معدلات البطالة 21%. يشبه الأمر نسبيًا انتفاضة الجزائر عام 2019 ضد التمديد للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي كان عاجزًا عن الحكم ويُستخدم كواجهة.
المثير أن السيد علي بونجو، المحتجز الآن بلا حول ولا قوة، ظل نموذجًا ينال إشادة الغرب بسبب سياساته الداعمة للحفاظ على البيئة، وكان نجمًا في مؤتمر قمة كوب-27 الأخير في شرم الأخيرة. ولكن عندما تعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية، كانت أجهزته الأمنية حاسمة، فقُطع الإنترنت يوم التصويت، وقبض على العاملين في أكبر منظمات مراقبة الانتخابات، ومُنع دخول المراقبين الدوليين. ورغم كل ذلك، احتفظ بونجو ببعض الحياء، إذ أُعلن فوزه بـ64% من الأصوات مقابل 30% لمرشح المعارضة، الذي طالب قائد الانقلاب بتسليمه السلطة باعتباره الفائز الشرعي في الانتخابات الأخيرة.
طبعًا لن يُسلِّم الجنرال أوليجي السلطة للمعارضة بعد أن حُمِل على الأكتاف ونودي به رئيسًا في شوارع العاصمة ليبرفيل، لتبدأ مخاوف الاستمرار على نفس نهج النظام السابق القائم على شبكة مصالح معقدة وفاسدة، بعد نهاية فرحة التخلص من حكم آل بونجو.
من واقع خبرتنا المصرية، ليس مستبعدًا أن تطفو على السطح في الجابون بعد عدة سنوات حملة "إحنا آسفين يا بونجو"، والمطالبة بنور الدين علي عمر بونجو رئيسًا، تحت شعار "ولا يوم من أيامك يا أبو علي".