تساءلتُ في المقال السابق عن الأسباب التي تجعل الضباط يستمعون إلينا أفضل مما يسمع أحدنا الآخر، واجتهدتُ في الوصول إلى بعض الإجابات المحتملة. وفي سياق رفض استسهال الإجابة، سألت مستنكرًا: ولماذا لا نفعل مثلهم، أو أحسن، بنوايا حسنة تكون مقوية لنا، لا مناهضة؟!
لأن فاقد الشيء لا يعطيه!
كيف يمكنني أن أدرب طفلًا على لعبة تنس الطاولة إذا كنت لم أمسك مضربها من قبل؟ وكيف لي أن أعلم غيري السباحة وأنا لم أنزل البحر في حياتي؟ وكيف لنا أن نمارس مقتضيات الديمقراطية، التي ندعو إليها، على كِبَر ونحن الذين نشأنا نشأة استبدادية سلطوية؟!
متى استمع إلينا آباؤنا وأحسنوا الاستماع؟ ومتى شجّعَنا معلمونا على التعبير عن آرائنا بحرية بعيدًا عن موضوعات "الإنشاء" المسمّاة تعبيرًا؟ كم نذكر أن أساتذة الجامعة استمعوا إلى طالب يخالفهم الرأي دون أن يقاطعوه ويتهكّموا عليه أو يهددوه باستخدام سلطتهم الأكاديمية في عقابه؟ ومتى كان صوت العامل/الموظف مسموعًا من رئيسه؟!
لدى كلٍ منا ما يقوله، ولم يجد من يسمعه. فإذا سنحت الفرصة و"أمسك بالحديدة"، ألا يكون لسان حال تعطّشه للتعبير عن نفسه هو ما قاله "اللمبي" في ستوديو التصوير السينمائي "إدّونا فرصتنا بقى"؟!
ولأن أحدنا لا يضمن أنه إذا ترك "الحديدة" ستعود إليه، فإننا نحاول أن نقول الكلام كله مرة واحدة، ونخشى أن ننسى شيئًا ثم لا تكون ثمة فرصة للتعويض. ولأننا لا ندرك، في الأغلب، وقْع مقاطعتنا على الطرف الآخر، فإننا نتمحور حول ذواتنا المكبوتة ولا ننتصر إلا لها، ولحقها في التعبير، حتى لو اعتدينا على حقوق الآخرين.
سبب آخر.. عدم الثقة!
ربما يكون سيئ الاستماع، أحيانًا، حسن النية، بمعنى أنه لا يقصد الإساءة إلى المتحدث ولا التقليل من شأنه ولا من شأن ما يقول. بعبارة أخرى، ربما تكون المقاطعة وسوء الاستماع سلوكًا دفاعيًا أكثر منه عدوانيًا. فالمتحدث إذا تعددت النقاط التي تستوجب الرد من كلامه، يخشى المستمع أنه لن ينال فرصته الكافية للرد عليه، أو ربما ينسى بعض هذه النقاط.
نحن نفترض أن أي فرصة للحديث هي فرصة استثنائية قصيرة، لن تتكرر، ولن تعوّض
بمجرد أن يستمع أحدنا إلى عبارة لا تعجبه، فإنه يحرص على الرد الفوري، ولا يتمهل حتى يكمل المتحدث حديثه. وربما يكون سبب ذلك كثرة المشاركين في النقاش، وخشية المستمع أن تفوته الفرصة إذا أصغى وانتظر، فسيسبقه إلى المشاركة بالكلام غيره، وغير المتحدث الحالي.
نحن نفترض أن أي فرصة للحديث والتعبير عن الرأي هي فرصة استثنائية قصيرة، لن تتكرر، ولن تعوّض. فلا نتحدث في أمان، حتى لو كان الموضوع آمنًا من الملاحقة والرقابة. دائمًا نتشكك فيمن ينصت جيدًا؛ لماذا يستمع كل هذه المدة؟ لماذا لا ينتهز فرصة السكتات القصيرة لالتقاط الأنفاس ليباغت المتحدث بتعليق أو دعابة أو هجوم أو دفاع؟ هل أفلس المستمع مما يمكن أن يقول أو يرد به أو يضيف؟!
حالة من القلق الدائم تجعل بعض المتحدثين يتلعثمون أحيانًا لأنهم يريدون أن يقولوا كلامًا كثيرًا في وقت قصير، فتختلط الحروف والكلمات. لكن الأسوأ من اختلاط الألفاظ والعبارات هو اختلاط الأفكار والمعاني. فالقلق يؤدي إلى التشويش وضبابية التفكير، وربما وجد أحدنا نفسه يفكر بصوتٍ عالٍ؛ ذلك لأنه لا يضمن إذا استغرق وقته الكافي في التفكير الصامت أن يجد الفرصة ليعبّر حينها.
تخرج الأفكار ناقصة ومشوّشة، لأن المستمع استعجلها قبل أوانها. إن لم يستعجلها صراحةً، فإن سلوكه في الاستماع الرديء أدى الدور نفسه.
المتحدث متّهم والمستمع متربص
لكن افتراض حسن النية وتقديم حسن الظن في رديء الاستماع، دائم المقاطعة، لا يجعلنا نغفل أن هناك سوء قصد متعمد من بعض المستمعين. فالغرض، المفترض، من الاستماع هو حسن الفهم لما يقوله المتحدث. لذلك، فإن "الاستماع الفعال" هو الذي يشجع المتحدث على توضيح فكرته، ثم يعيد صياغة ما قاله تأكيدًا لحسن استيعاب المستمع لما قال.
يخفي أحدنا مشاعره، بل يدفنها طبقات بعضها فوق بعض
لكننا، نحن الدعاة إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ومنها الحق في حرية التعبير، قد ابتُلينا في أوساطنا بالكثيرين من المستمعين المتربصّين. والمتربص، ببساطة واختصار، هو من يضع المتحدث في موضع المتهم سلفًا، ويعمد إلى استنطاقه بما يدينه أو يضعف موقفه، بالحق أو بالباطل.
فتسجيل المواقف الاستعراضية والتطهّرية، والرغبة في "التعليم على" المتحدث، وليس "تعليمه"، والنزعة الجماعية إلى "التحفيل" على الخصم، حتى لو كان زميلًا موثوقًا، والالتفاف على القهر السياسي العام الذي أخرس الألسنة عن الحديث في الأساسيات بالبحث عن مساحات للانتصار الوهمي.. كل هذه الدوافع تدعو المستمعين إلى التريص والترصد وتصيد الأخطاء والزلات غير المقصودة لتُصنع منها خطايا وجرائر.
أسوأ أنواع التربص ليس التشكيك في نية المتحدث، بل رفض الاستماع لمن يريد أن يعترف بخطئه ويتراجع عنه. فهو ليس فقط تربصًا، بل ضربًا من ضروب المصادرة وسد الأفق وقطع الأمل. وكأن الاستبداد قد عشش في النفوس، وباض، ورقد فوق بيضه، ثم فقس، وفرّخ!.
الثمن فادح والتكلفة باهظة
ربما يرى البعض مشكلة سوء الاستماع كمشكلة سلوكية فردية، حتى لو انتشرت فإنها تظل في مرتبة متأخرة في أجندة الأزمات العاجلة للأوساط المدنية والحقوقية. لكني أجادل، على ضوء خبرتي الشخصية والمهنية والتطوعية، ومعايشتي الطويلة لأوساط ودوائر متنوعة، بعضها متقاطع والآخر متنافر ومتخاصم، أن مشكلة سوء الاستماع أخطر بكثير مما يُنظر إليها به.
فذوو الاستماع السيء يهدمون داخلنا ما تعجز السلطة الاستبدادية عن الوصول إليه. إنهم يزرعون بذور الشقاق العميق الممزوج بالشعور بالرفض غير المبرر والضِّيق وعدم الارتياح. فليس شائعًا أن يجهر أحدنا أنه يبغض فلانًا أو يرفض التعامل معه لأنه دائم المقاطعة له. وكأننا نستنكف أن نعلن أننا ضحية مقاطعة، كأنها وصمة ذكورية تقدح في فحولتنا التي تجعلنا نقطع حديث من يقطعنا.
يخفي أحدنا مشاعره، بل يدفنها طبقات بعضها فوق بعض، ولا يفكّر أنه مشحون بكل هذه الشحنة لمجرد سلوك "عادي" اعتاده منذ طفولته ومراهقته على يد أبويه ومعلميه وأساتذة جامعته ورؤسائه في العمل. ثم تأتي قشّة تافهة فتقصم ظهر البعير وتفجّر براكين الغضب، فتنقطع الأواصر إلى الأبد، وتضعف الروابط، وتتفكك الكيانات الداعية إلى "التحالف" و"الائتلاف" مع غيرها. ذلك، لأن سوسة سوء الاستماع قد نخرت في بنيتها وقوّضت هيكلها.
أما الجريمة في حق المستقبل، فهي ما يقترفه سيئو الاستماع أمام أعين الناشئة والشباب الجديد في الأوساط والدوائر الداعية إلى الديمقراطية، التي تعني، بالضرورة، تداول الآراء بحرية قبل تداول السلطة بسلمية. فإذا كان المخضرمون من الدعاة إلى حرية التعبير، كحق من حقوق الإنسان، وقدامى الدعاة إلى الديمقراطية هم أول من يصم آذانه عن الاستماع الفعال إلى متحدثيهم، ولو كانوا زملاءهم ورفاقهم، فمِمّن يتعلم دعاة الديمقراطية حديثو العهد بالنضال وشباب الحقوقيين؟ وبمن يثقون؟!