قلت في المقال السابق إني نذرتُ ما بقي من عمري من أجل تفكيك الاستقطاب الإسلامي العلماني وتجاوزه. ليس فقط لأنني أرفض الثنائيات في المطلق، وإنما أيضًا لأن ذاك الاستقطاب العبثي تحديدًا لم يُرتِّب إلا كل شر منذ اندلاعه في زمن التحرر الوطني من الاستعمار، وحتى يونيو/حزيران 2013 وما بعدها.
يقتات طرفا أيّ استقطاب على تطرف الطرف الآخر؛ بحيث تكون التعبئة على أي جانب هي، بالضرورة، تعبئة مضادة على الجانب الآخر. لذلك، يرحب المتعصبون بتعصب خصومهم لأنه يخدم أغراضهم، ولا يزعجهم أكثر من الحوار البنّاء وفتح قنوات التفاهم.
مهما حاول العقلاء الذين قد تكون لبعضهم تجربة، عميقة أو سطحية، مع أي من الطرفين، بناء جسور التفاهم، ستظل الخصومة، التي قد تصل إلى درجة العداوة قائمة من الناحيتين. ولا يزال المخلصون يرفضون أن يستسلموا لحقيقة أنه ثمة من لا يستمد قيمة وجوده في الحياة إلا من تمترسه على أيٍّ من جانبي الاستقطاب. فالمعركة، عند هؤلاء، تصير أقرب إلى صراع وجود صفري على طول الخط.
وفي ظل مقاومة "بناة الجسور" لقادة الاستقطاب وجماهيره، فإنهم قد يندفعون بحسن نواياهم إلى محاولات للتوفيق بين ما لا يمكن التوفيق فيه. فإذا لم ينتبهوا إلى ذلك، تحوّل التوفيق إلى تلفيق وترقيع.
التقاطع لا يعني التطابق
وفي الثنائية الاستقطابية التي أرمز إليها بــ"ثنائية المصحف وسيداو"، لا يزال المتفق عليه بين طرفي هذا الاستقطاب البائس، وما يمكن أن يُتفق عليه بالحوار، أوسع بكثير من المختلف فيه. فإذا أضفنا إلى المتفق عليه، ظاهرًا، بعض ما قد يلتبس لكنه في باطنه مما يمكن الاتفاق عليه، سنجد أن مساحة الاختلاف تكاد تتلاشى، لكنها أبدًا لا تختفي.
سيظل بين المواثيق والعهود والتوصيات الدولية التي صدرت عن الاجتماع الإنساني المعاصر، من ناحية، وأية منظومة دينية ومنها الشريعة الإسلامية، من ناحية أخرى، مساحات لا يمكن الزعم بالوفاق فيها، ولا حتى احتمال الوئام. والمهم في هذا الأمر، أن محاولات التلفيق، مهما افترضنا فيها حسن النوايا، سيكون لها أثر عكسي يؤجّج الصراع ويزيد وقود الاستقطاب؛ ذلك لأن المتشددين، على الطرفين، سيعتبرونها مؤامرة لتمييع الفروق ولخسارتهم قطاعات من جمهورهم الذي يتبارون في حشده وتعبئته.
لذلك، وجب الإقرار بأنه ما من سبيل إلى إثبات المنفي، ولا نفي الثابت. ووجب، من باب الاتساق مع النفس، أن يتمايز كل طرف بأرضيته في بعض النقاط، وألا يُضيَّع الوقت والجهد في محاولات بناء جسر خشبي يصل بين ضفتي محيط فاصل بين قارتين.
فإذا أخذنا اتفاقية "سيداو"، كمثال بسيط، ثم توصيات مؤتمر السكان والتنمية بدءًا من دورة انعقاده في القاهرة عام 1994، كمثال أكثر وضوحًا، في مجال مناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة ثم تمكينها ودعمها، فإن ثمة نقاطًا وبنودًا لا تتصل مضامينها بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية إلا على سبيل النكتة والمزاح. ولا ينفي هذا أن المشترك بينهما، نظريًا، واسع وعريض، ويستحق النضال من أجل انتزاع المساحات فيه، ربما لعقود مقبلة.
وبغض النظر عن الخلفيات التي أنتجت بعض النصوص، التي يراها الإسلاميون تآمرية ويراها الحقوقيون رد فعل على انتهاكات واسعة ربما لم تعرفها مناطق العالم كلها بالدرجة ذاتها أو بالنوعية نفسها، فإن الحديث عن ضمان تنوع أنماط الأسرة، مثلًا، سيظل محل افتراق وتمايز بين الأرضيتين. وهنا يجب الانحياز.
أنحاز إلى الأرضية المدنية التي تسمح بالتنوع الديني والاجتماعي؛ وكل من يتمسك بهذه الأرضية فهو مني وأنا منه
المسجد لا يسع المدينة.. لكن العكس صحيح
على مستواي الشخصي، الذي لا أحب أن يكون مادة متاحة في الفضاء العام، أصوم نهار رمضان وأقوم ليله وأحرص على الاعتكاف في عشره الأواخر. وفي المسجد يكفيني القرآن للتعبد والتدبر والتخلق بأخلاقه دون أزمات معضلة بين ظاهر نصوصه وتعقيدات الحياة المعاصرة.
على باب المسجد أخرج إلى المعترك الإنساني الذاخر بالتنوع والتناقضات والصراعات. وأجد رفقة المسجد متفاوتين في درجة اصطحابهم لما قرأوه أو التزامهم بما سمعوه، أو حتى قالوه بلسانهم، في بيت الله. وأذكر من حديث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قوله "وما أمرتكم به فأتوا به ما استطعتم".
فهمت من ذلك أن الشريعة لا تُطبق كقائمة مهام ينبغي إدراج علامة صح أمام ما تؤديه منها، وإنما هي النموذج والمثال، المختلف في فقهه بالفهم البشري اختلافًا كبيرًا، الذي ينبغي أن يتطلع إليه من يعتبر نفسه من المسلمين المتدينين، في حدود الاستطاعة.
وأرفض أن أعتبر عدم الاستطاعة رهينًا بالقهر والقمع من ناحية، أو بالعجز والقصور من ناحية أخرى. فربما يكون من الحكمة واللياقة ألا يستطيع المقتدر أن يفعل شيئًا ما ممكنًا له مراعاة لمصلحة أكبر. وقد كنت في السجن من رافضي الجهر بالقراءة في صلاة الفجر مراعاة للنائمين من المسلمين وغير المسلمين، وأظن أني في ذلك أقرب إلى روح الشريعة من المتشنجين من أجل "تطبيقها".
فإذا سلّمنا بأن الوطن الكبير، كوكب الأرض، والوطن الصغير، مصر، يتشاركه المسلم مع غير المسلم، والمتدين مع غير المتدين، وجب علينا أن نتساءل عن الأرضية التي ينبغي أن ندير خلافاتنا عليها.
لا أعلم مسجدًا وسع مدينة، لكني أعلم أن المدن تسع المساجد والكنائس والمعابد، ومعها المدارس والجامعات والمقاهي والملاهي والنوادي والمسارح والشواطئ، وما بين كل ذلك من شوارع وأرصفة وأسواق.
فهل ندير خلافاتنا في المسجد تحت راية المصحف وحده؟ وهل سيسع المسجد كل هذا القدر من التنوع؟ أم أن المدينة تسع رواد المساجد ومعتكفيها مع زوار الكنائس ورهبان الأديرة مع غير المتدينين وغير المؤمنين، مهما كانت اختلافات الهيئات والمظاهر؟
أحمل مصحفي في المسجد، ككتاب وراية. لكني على بابه أضعه في جيبي الأيسر لِصْق قلبي، وأنطلق في المدينة مع رفاق ورفيقات قد ألتقي بهم في المسجد أو لا أراهم قريبًا منه أبدًا. فإذا اختلفنا، لا أرفع المصحف، ولا أتنكّر له. بل أحمله في عقلي ووجداني وسلوكي، قدر الإمكان، وأقاتل من أجل الحفاظ على المساحة المدنية التي ندير فيها الاختلاف؛ كي لا يرفع المسيحي إنجيله في مواجهتي، أو يرفع الشيوعي المانيفستو، أو يرفع العدميون أصوات شخيرهم وشخرهم... ثم ترفع الجماهير أياديها بالأحذية في وجوهنا جميعًا!
بوضوح وصراحة، أنحاز إلى الأرضية المدنية التي تسمح بالتنوع الديني والاجتماعي؛ كي أكون عادلًا في الدفاع عن حقي في التمسك بمعتقدي وإعلانه. وكل من يتمسك بهذه الأرضية فهو مني وأنا منه. أما من أراد أن يدير الصراع، ولا أقول "الخلاف" هنا، على أرضية دينية فهو مني في موقع "الآخر"، حتى لو كان مسلمًا مجاورًا لي في المسجد.
لستُ ممن يرفعون المصحف في زمن الاستقطاب. لكني أؤمن به، وأقرؤه، وأتقن تلاوته، وأتدبره، وأتعلم علومه وعلوم أدوات علومه، وأحفظ ثلثه، وأتعبّد به لمن قال فيه "لا إكراه في الدين"، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "لست عليهم بمسيطر"، "وما على رسولنا إلا البلاغ المبين"، وهو القائل "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".