يقدم هذا المقال تساؤلات، من دون استعجال للوصول إلى إجابات. بل هي أسئلة أطرحها كأحد المهتمين بعلاج الأمراض الاجتماعية المزمنة التي يعانيها شعبنا. ولأني مؤمن بأن التشخيص السليم هو شرط العلاج الناجع، فإن التساؤل عن كيفية التشخيص لا تقل أهمية أبدًا عن سؤال العلاج.
يشكو كثيرون، بين ما نشكو، من أن الأطباء والمعالجين النفسيين في مجتمعاتنا يتأثرون بثقافتهم وخلفياتهم ربما أكثر من تطبيقهم لما تعلموه في كليات الطب وتدريبهم المهني، فنجدهم ينصحون مرضاهم أو طالبي مشورتهم بنصائح اجتماعية ودينية، لا نفسية ولا طبية. فإذا كان تأثير الثقافة والتنشئة الاجتماعية في الأطباء والمعالجين أقوى، أحيانًا، من تكوينهم المعرفي، فهل علماء الاجتماع في منأىً عن ذلك؟
الحداثة وما بعدها وما قبلها
في الشهر الأول من سجني، مررت بموقف كان له موقع مميز في ذاكرتي وتفكيري النقدي. وهو من المواقف المضحكة المبكية، التي لا تخلو من الهزلية. ففجأة، تذكرت زملائي الباحثين المتحمسين لأطروحات المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، ونقده للحداثة، خصوصًا نقده للدور الرقابي لدولة الحداثة على مواطنيها.
تذكرتهم ضاحكًا وأنا أستمع إلى ضابط شرطة سابق، مدان في قضية جنائية حولته إلى سجين، وهو يتمنى أن يتم تزويد السجن بكاميرات مراقبة تنقل لضابط المباحث كل ما يجري فيه، عوضًا عن اعتماده على "المرشدين".
أوضح لي الضابط السجين سبب رجائه بأن الكاميرا ليست طرفًا في نقل الوقائع، وليست ذات مصلحة مع الشخص أو ضده في موقف مساءلته من قبل إدارة السجن، أما "المرشد" فهو سجين مثله، وذو مصلحة، وغير مؤتمن، وغالبًا ما يكون كاذبًا أو متعمدًا للأذى.
فضحكت من حماسة الزملاء الذين يناقشون "ما بعد الحداثة" في مجتمعات "ما قبلها"، التي لا يرجو فيها المواطن/السجين تخفيف رقابة أجهزة الدولة الحديثة، فضلًا عن إلغائها، بل يطمح في أن تكون رقابة نزيهة ومحايدة، مسلّمًا بأمر وجودها وبقائها وشمولها ودوامها.
ليس المقصود أن نرى المجتمعات تمر بمراحل محددة سلفًا في تطورها، أو أننا ينبغي لنا أن ندخل طور الحداثة أولًا، بكل مشاكله التاريخية، ثم ننقده نقدًا ما بعد حداثي. فلكل مجتمع تجربته في التطور والاستجابة لتحدياته ومشكلاته، مع التقاطع والتشابه، وليس التطابق، مع ما حوله من مجتمعات.
الفكرة هنا هي فخ "عولمة" العلوم الاجتماعية، الناشئة أساسًا في مجتمعات الحداثة الأوروبية/الغربية، ما يجرُّ بعضَنا إلى الانفصام عن الواقع، رغم الاجتهاد الحثيث من أجل الحفاظ على "الالتحام بالجماهير" في نضال تحررها من السلطوية والاستبداد؛ أي أن نكون مثقفين عضويين بحسب مصطلح أنطونيو جرامشي.
الهاربون إلى أدبيات ما بعد الحداثة إنما يفرّون من النقد الثقافوي أكثر من كونهم يناهضون الاستبداد والقهر الحداثي
يستدعي زملاؤنا، بل أساتذتنا أيضًا، من أدبيات نقد الحداثة الأوروبية، تلك التي أفرغت الحريات والديموقراطية والمساواة من كثير من مضامينها، ما لا يمكن أن ينطبق على مجتمعات أخرى، وهي المجتمعات الأم لهؤلاء المثقفين والباحثين، التي لم تعش تجربة الحداثة والثورة الصناعية الرأسمالية.
عاش المجتمع المصري مرحلة قصيرة زمنيًا من محاولات "التحديث" و"التصنيع"، تلك التي كانت في سياق دولة التحرر الوطني من الاستعمار، ثم ما لبثت أن ابتلعتها التقلبات الاقتصادية والسياسية، محليًا وإقليميًا ودوليًا.
فإذا كان النقد العام المطلق للدولة الحديثة، التي استُغلت أبنيتها ومؤسساتها الدستورية من قبل دولة التحرر الوطني أبشع استغلال شمولي، بغرض الهيمنة والسيطرة، قد احتيج إليه في خطاب "تجذير" ثورة يناير، لتعلية سقف الآمال والمطالب، فإن ذلك مما ثبت عدم جدواه ولا تماسكه المنهجي. وهو مما يستحق وصفه بــ"التشخيص الخاطئ".
فهذا النقد "ما بعد الحداثي" لم يجد آذانًا صاغية سوى في دوائر محدودة الحجم والتأثير.. محدودة لدرجة التقزم. أما الغالبية العظمى من الجماهير فكان لها خيال سياسي مختلف، إجمالًا وتفصيلًا.
وقبله فخ الخصوصية والأسلمة
وإذا كان النقد السوسيولوجي ما بعد الحداثي موضع تساؤل، فلا ينبغي أن نغفل أنه رد فعل منهجي فكري على فعل سابق عليه، أراه أشد خطأً في الفكر والمنهج؛ وهو دعوى الخصوصية الثقافية.
فلا يمكنني رؤية الاتجاه إلى استنساخ أدبيات ما بعد الحداثة إلا كرد فعل نافر ومشمئز من دعاوى الخصوصية الثقافية، التي طالما رُفِعت في سياق رفض ما تتفق عليه الحضارة الإنسانية المعاصرة من قيم حقوقية وديموقراطية.
وإذا كان ثمة ما يسمى بتعريب العلوم، فإنه لم يتخطّ المستوى اللغوي للتدريس وكتابة المراجع، وليس إنتاجًا عربيًا أصيلًا للمعرفة. فلم يبزغ في العقود الماضية مشروع يحاول أن يترجم دعوى الخصوصية الثقافية إلى إنتاج معرفي سوى مشروع إسلامية المعرفة، الذي دشنه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بقيادة مؤسسه الراحل إسماعيل الفاروقي.
يستحق مشروع إسلامية المعرفة مزيدًا من العرض النقدي، لكني أكتفي هنا، لاعتبارات المساحة، بما سمعته من ثاني رئيس للمعهد وخليفة مؤسسه، الدكتور طه جابر العلواني، حيث كان في أواخر أيامه في مرحلة مراجعة شاملة لحياته وأفكاره ومشروعاته.
حدثني العلواني عن مشروع إسلامية المعرفة، وهو الذي كان على رأسه يوجّه الملايين من الدولارات من عوائد أوقاف المعهد والتبرعات شرقًا وغربًا، وكان ممتعضًا فقال "هذا مشروع مليء بالترقيع"! وقد هالني استعماله لفظ "الترقيع"، الذي جاء متفوقًا على وصف "التلفيق"، الذي كثيرًا ما يُستعمل للتهكم على ادعاء "التوفيق" بين مختلفيْن يصعب، أو يستحيل، التوفيق بينهما.
أما السؤال عن الأسباب التي دعت العلواني إلى تقويم مشروعه السابق بهذا الوصف فهو مما تطول إجابته، ويكثر الجدال فيه، خصوصًا مع الأفاضل الذين أفنوا أعمارهم وراء هذا السراب.
فالسبق الذي أحرزه بعض علماء المسلمين في القرون الوسطى في بعض مجالات المعرفة النظرية والتطبيقية لا يعني أبدًا أن الحضارة الإسلامية هي التي أسست لكل العلوم والمعارف المعاصرة، ولا حتى لأمهات الحقول المعرفية الكبرى قبل تشظيها إلى تخصصات دقيقة فرعية.
والهاربون إلى أدبيات ما بعد الحداثة إنما يفرّون، في رأيي، من النقد الثقافوي، أي المرتكز على دعوى الخصوصية الثقافية، أكثر من كونهم يناهضون مشكلات الاستبداد وقهر الدولة الحديثة.
فهم، من ناحية، يرفضون الدراسة الاستشراقية، بمعنى الاستعلاء الغربي، لمجتمعاتنا. ومن ناحيةٍ أخرى هناك ما يزيد توترهم وحنقهم؛ فهم يرفضون أن يكون البديل ثقافويًا، سواء كان بادّعاء أسلمة المعرفة، أم بزعم الخصوصية "القومية" أو "الوطنية"، مما يحمل مدلولات عنصرية غير علمية.
خطوة للوراء: الاستشراق والاستغراب
يتفق الفريقان آنفا الذكر، رغم افتراق مساراتهما، على موقفيهما النقدي من الدراسات الاستشراقية، سواءً التي أجراها باحثون غربيون عن مجتمعاتنا أم التي أجراها باحثون محليون ولكن بالمناهج الأكاديمية الاستشراقية، الموروثة من زمن الاستعمار، أو التي تعتبر امتدادًا لهذه الحقبة.
والموقف من الاستشراق يستحق تناولًا مطولًا أيضًا؛ لنتساءل عن أطروحة إدوارد سعيد التي راجت في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، حتى صار وصف المستشرق وصفًا سلبيًا في عمومه، بخلاف الأكاديميا الأوروبية التي لا تزال تستعمل مصطلح الاستشراق كحقل معرفي، قد يضم باحثين متقنين أو مسيئين.
وإذا كان إدوارد سعيد هو الوجه العروبي العلماني في مواجهة الاستشراق، فينبغي أن نساءل أطروحة محمود حمدي زقزوق، وجذورها عند محمود شاكر، في الجانب الإسلامي التراثي من هذه المعركة الاستقطابية التي اصطف في جحافلها الزاحفون.
وسط تلاطم أمواج بحر الظلمات، انتفض حسن حنفي ليقدم مقترحًا بتأسيس علم "الاستغراب"، أي العلم الذي يدرس به الشرقيون الغربيين، ردًا على الاستشراق المعروف. وكأن العلوم تنشأ بقرارات ومقترحات!
فإذا كان الأكاديميون الغربيون أنفسهم ينقدون مناهجهم، سواء من ناحية التحيز العنصري الكامن وراء بعض فرضيات الباحثين، أم من ناحية المركزية الأوروبية التي أنتجت معارف وعلومًا وليدة بيئتها المكانية والزمانية، مما يعجز عن بحث إشكاليات مجتمعاتنا أو تفسيرها، فإن تساؤلاتنا ينبغي أن تكون مختلفة.
العالم يتغير، ومراكز الثقل الاقتصادية والثقافية تتحرك وتنتقل، وهو ما يعني بالضرورة نشوء مناهج جديدة في البحث في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. والتحدي، في رأيي البسيط، ليس أن نسأل الأسئلة الصحيحة أو الخاطئة، بل أن نسأل أسئلتنا نحن، لا أسئلة غيرنا!