فاتني الكثير من متابعة الأحداث في سنوات سجني، لكن حدثًا بعينه أطل برأسه عليّ في زنزانتي يخبرني بكل تطوراته، ويضيف معلومة مهمة ساعدتني كثيرًا في بلورة مراجعاتي الاجتماعية السياسية. كان الحدث هو مقتل باحث الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني في مصر، وما تلا ذلك من تصعيد وأزمة، لم تتجاوزها العلاقات المصرية الإيطالية حتى الآن.
بعد أن استغرقت وقتي في الانفعال الإنساني بتلك المأساة، بدأت أستوعب ما يتسرب إليّ من معلومات، مع مراعاة فرق السرعة في تحديثها في مكان معزول عن السوشيال ميديا والإنترنت عمومًا، إلى أن بلغتني المعلومة المحورية، بالنسبة لي.
بعيدًا عن التفاصيل الكثيرة، والاتهامات الموجهة إلى السلطات المصرية ونفيها، والوعود بالتعاون القضائي وعدم تنفيذها، فلا شيء مما يشغلني في تلك القضية أهم من تأملي الطويل في بداية "التحول"؛ كيف تحول باحث دكتوراه، أراد- بصدقٍ ونُبْل- أن يكون "مثقفًا عضويًا" بتقديمه المساعدة إلى مبحوثيه/مصادره، إلى هدف أمني للاشتباه والملاحقة؟ والإجابة المؤلمة المؤسفة، غير الصادمة لي، هي أن المبحوث/المصدر الذي أراد أن يساعده الباحث هو من اتهم لاحقًا بالوشاية به لدى السلطات.
يمكننا أن نتساءل عن الدافع وراء ذلك، وعن الخطاب التعبوي الذي استنفر في "المواطن الشريف"، بحسب تعبير الدعاية السلطوية، الحس الوطني الشعبوي الذي أفقده الارتباط بأي التزام أخلاقي إنساني. مثل تلك التساؤلات المهمة لتحليل جانب مهم في الاجتماع السياسي لم أتوقف أمامها كثيرًا في السجن، لأني كنت، وسط الجنائيين، غارقًا في مستنقع من الوشايات العجيبة.
ما هو أكثر من الركوب المجاني
في حقل دراسة الحركات الاجتماعية تستعمل بعض النظريات مصطلح "الركوب المجاني"، ويُقصد به وصف أنصار الحركات الاجتماعية من غير أعضائها، حيث ينتفعون من حراك الأعضاء من دون مخاطرة ولا أعباء. لكن تجربتي الذاتية، التي أحاول أن أستخلص منها ملاحظات عامة وموضوعية، توحي بأن الأمر متجاوز تفشي ثقافة الركوب المجاني في المجتمع المصري، إلى ما هو أبعد من ذلك.
أضرب على ذلك مثالًا معبرًا بسجين جنائي كان من القلة التي تعتمد على المياه المعبأة، التي يرجو كل المساجين أن يأمنوا على صحتهم بها من المياه العمومية في الصنابير، لكن ثمنها ليس متوفرًا لأغلبهم. نفدت المياه المعبأة من كانتين السجن، وتأخر وصول صناديق المياه. وبدأ مخزوني ومخزون النزلاء الآخرين ينفد.
إن كانت الاستفادة من "تسليم" الإنسان إلى السلطة أكبر من الاستفادة المشكوك فيها منه، فلا مانع من تسليمه إلى جلّاده
بادرتُ بكتابة طلب، أشبه باستغاثة عاجلة، موجهة إلى مأمور (آمر) السجن، وطلبت من المعتمدين على المياه المعبأة التوقيع الجماعي عليه. بدأت بذلك السجين، المحبوس في قضية أموال عامة، وكان موظفًا عموميًا مرموقًا في شركة حكومية سيادية (أدين لاحقًا وخسر وظيفته بحكم قضائي مخل بالشرف)، حيث توسّمت فيه حرصه على مصلحته المباشرة، ومستوى تعليمي واجتماعي أعلى كثيرًا من البقية. لكنه رفض، في حين وقّع الآخرون كلهم. تعذّر في رفضه بأن مخزونه يكفيه، ولا حاجة ملحة لديه في شراء صناديق جديدة، فلتأتِ المياه المعبأة وقتما تأتي.
كنت السجين السياسي الوحيد في سجن مزرعة طرة، حينئذٍ، ولم يكن لدى إدارة السجن أكبر من حرصها على تفادي أي مشكلة مرتبطة باسمي. توفرت صناديق المياه في وقت قياسي، ونودي على من يريد أن يخرج إلى الكانتين. ومن المعتاد أن يتم تقسيم السجناء إلى مجموعات متتالية، حيث يتحركون بصحبة أحد الحرس. كان الخروج هذه المرة مرتبطًا بالمياه تحديدًا، فهل يتوقع القارئ من كان أول الخارجين من الزنزانة؟!
لم يؤخر نفسه إلى المجموعة التالية متيحًا الفرصة لمن تشجعوا وكتبوا أسماءهم على "طلب" أشبه بــ"استغاثة". لم يكن في الأمر شبهة احتجاج أصلًا، لكنه حرص على الانسحاب من أي تحرك جماعي من أجل "حقه" في "شراء" مياه صالحة للشرب.
لو كان خرج، مثلًا، في المجموعة التالية ليرى إن تبقى له شيء بعد حصول المطالِبين على مطلبهم، لكان "راكبًا مجانيًا". لكنه زاحمهم في الحصول على ما ارتعدت فرائصه أن يعلن حاجته إليه، رغم وجود هذه الحاجة فعلًا.
هنا، ليست الأزمة في الركوب المجاني، وإنما في الاستغلال الانتهازي لتحرك المطالبين بحقوقهم وحقوق الجميع، باعتبار أن المستغل الانتهازي هو جزء من هؤلاء "الجميع"، فقد قامت الثورة "من أجل الشعب"، وكل مواطن هو من الشعب، حتى أعضاء النظام الذي قامت الثورة ضده.
مثال فردي قد يُردّ عليه بعشرات الأمثلة النقيضة، فلا تُبنى عليه قاعدة ولا يستدل به على شيء ذي اعتبار، لولا أنه ليس مثالًا فرديًا… بالمرة! فالخط متصل، بل وثيق الصلة، بين صندوق المياه المشار إليه في المثال الآنف وبين البائع الجائل الذي وشى بالمغدور جوليو ريجيني.
فإن كانت الاستفادة المحتملة من "تسليم" الإنسان إلى السلطة، حتى لو تطوعًا، ولو من غير دليل ولا قرينة، أكبر من الاستفادة المشكوك فيها منه، فلا مانع من تسليمه إلى جلّاده، ولا يشفع له محاولته مساعدتي أو إفادتي.
لست أرى في حالة الواشي بجوليو ريجيني تصرفًا فرديًا منبت الصلة عن السياق العام. ذلك السياق الذي لا تقتصر فيه المفاصلة على افتراق الخيال السياسي للثوار عن "الخيال السياسي" لمجتمعاتهم المحلية الصغيرة، ومجتمعهم الكبير، بل تمتد إلى "السلوكيات" العدائية والغادرة بهؤلاء الحالمين بالتغيير، ثوريين كانوا أم إصلاحيين.
وما أكثر الشواهد على ذلك، التي شملت، فيما شملت، وشاية الآباء والأمهات بأبنائهم من الثوار والنشطاء، في فترة الاستقطاب المجنون في عامي 2013 و2014.
متلازمة الوصاية والوشاية
لا أتهم الشعب المصري في مجمله بأنه مستغل وانتهازي، فهذا مما لا يمكن ادّعاؤه علميًا ولا ثقافيًا، إلا في الملاسنات الشعبوية. لكني أقول إنه، بمجتمعاته المختلفة المتنوعة، من الشعوب التي تنتشر فيها ثقافة "الركوب المجاني" في جانبها السلوكي.
هل كنا، نحن ثوار يناير، فيما رفعنا من شعارات وما طمحنا إليه من حقوق ندرك أننا أعضاء في مجتمع سيفرز عددًا مهولًا من محترفي الوشاية؟
وأنا في ذلك بعيد كل البعد، لدرجة التناقض، عن النقد الثقافي الاستعماري الذي يعيب، مثلًا، على أشعار الغزل العربي عمومًا، والشعر الغنائي المصري خصوصًا، عبارات من أمثال "قولوا لحبيبي"، باعتبارها، من وجهة نظر استشراقية، دلالة على الكسل وعدم المبادرة والاتكال على الغير، حتى في شؤون الحب.
أجادل بأن ثقافة الركوب المجاني المستشرية في مصر، وربما غيرها من البلدان، ذات أسباب "مادية" موضوعية. لأن "التذكرة" التي يتجنبها الراكب المجاني في الديمقراطيات الغربية قد تكلفه جانبًا من وقت راحته، وبعض الجهد الإضافي، وربما بعض الأموال. أما في مجتمعاتنا المنكوبة بالاستبداد الطامح إلى الشمولية، فما يدفعه الفاعلون في المجال العام، خصوصًا إذا واجهوا السلطة واصطدموا بها، يشمل سنوات وعقودًا من أعمارهم وأعضاء من أجسادهم، وربما دماءهم وأرواحهم، فضلًا عن أقواتهم واستقرارهم العائلي.
وفي هذه النقطة تحديدًا، ينبغي ألا ننسى أن "علم" الحركات الاجتماعية، كفرع من علم الاجتماع السياسي، إنما هو وليد الحداثة الأوروبية، التي لم ترَ ما يستحق وصف "الحركة الاجتماعية" إلا نمطًا معينًا من التجمعات البشرية، التي تشكلت في سياق التطور الاجتماعي المصاحب للثورة الصناعية، وهي التنظيمات العقلانية ذات القيادات الواضحة والخطاب المطلبي المضطرد الموجه إلى السلطة.
وهو ما وضع أدبيات هذا "العلم" في مأزق مزمن جعلها عاجزة عن رؤية التنظيمات الإسلامية، سواءً سياسية أم جهادية، كحركات اجتماعية، باعتبارها تنظيمات غير حديثة/حداثية، مهما كان انتشار قواعد بعضها والتحامها بالجماهير غير المسيسة.
وهو ما حدا ببعض علماء الاجتماع إلى الاجتهاد في تقديم أطروحات نظرية مبتكرة لتفسير "الحراك"، لا "الحركات"، في مجتمعات الشرق الأوسط. ومنهم الإيراني الأصل، الأمريكي الجنسية، آصف بيات، صاحب كتاب "اللاحركات الاجتماعية"/Social Non-movements، الذي وضع فيه خلاصة عشر سنوات من البحث والتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
إن قيام السلطة الاستبدادية بالهندسة الثقافية للمجتمع عملية معقدة، وأكثر تركيبًا من قدرة أدهى العقول الشريرة على التنبؤ بمآلاتها، وتفوق في تعدد عواملها وكثرة تفاعلاتها قدرة أي طرف على التحكم الكامل في مخرجاتها.
وأظن أن العقلاء من قيادات أجهزة السلطة لا يسعدهم ولا يرضيهم أن تتعمق هذه الثقافة السلوكية التي تبدّد أي مردود مرجو من خطط الحشد التعبوية في أوقات الخطر والأزمات. ولكن، منذ متى وصوت العقل مسموع لدى الاستبداد الطامح إلى الشمولية؟!
النتيجة العملية هي ترحاب السلطات الاستبدادية بانتشار ثقافة الركوب المجاني، التي تزيد الهُوّة وغياب الثقة بين الفاعلين والمستفيدين من الفعل. وهي حالة مَرَضية في مجتمعاتنا المأزومة، لأن الراكب المجاني، عندنا، لا يصمت عن النقد والنقض واللوم والتأنيب والتوبيخ.
فهو ليس راكبًا مجانيًا ممن ينطبق عليه المفهوم "العلمي" للمصطلح، في إطار "منطق الفعل الجمعي" الذي صكه الاقتصادي الأمريكي مانكور أولسن، بل هو راكب من نوع خاص، لا يكتفي بأن يدفع غيره ثمن التذكرة، بل قد يسرقها منه ثم يشي به إلى مفتش القطار كي ينزل به العقاب.
هي حالة مَرَضية أشبه بالمتلازمة التي يقترن فيها وشاية المجتمع بوصاية السلطة، فلا تعد تعرف أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ لكن الأكيد أنهما متلازمان، وغيابهما كذلك مرتبط. فالمجتمع الذي لا يشي أفراده بعضهم على بعض لا تحكمه سلطة وصائية، والسلطة الديمقراطية ذات الشفافية والمحاسبة وسيادة حكم القانون لا تحتاج إلى مجتمع تسوده الوشاية.
فهل كنا، نحن ثوار يناير، فيما رفعنا من شعارات "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، وما طمحنا إليه من انتزاع حقوق "لكل الناس"، مدركين أننا أعضاء في مجتمع سيفرز عددًا مهولًا من "المواطنين الشرفاء"، محترفي الوشاية المرحِّبين بسلطة الوصاية، الذين سيُسلموننا إلى الخصوم تسليم البائع الخسيس للباحث المغدور؟!