في 2015، قبل اعتقالي بشهور قليلة، سبقني الباحث والكاتب هشام جعفر. تذكرت حينها أول مرة رأيته فيها عام 2009، في الجلسة الختامية لمؤتمر التجديد والإصلاح الإسلامي في القرنين الأخيرين في مكتبة الإسكندرية.
وبينما كانت الأصوات المتضامنة معه -ومن بينها مجلس الكنائس العالمي الذي أصدر نداءً للإفراج عنه لمعرفتهم الجيدة به في سياق فاعليات الحوار والدعوات إلى التسامح والعيش المشترك- تخفت سريعًا، رأينا وسمعنا من يُبرر تجاهله بكونه مسؤولًا سابقًا عن مؤسسة "إسلام أون لاين".
الجلسة التي عرفت فيها هشام جعفر، ترأسها إسماعيل سراج الدين. قد يُقال في حق سراج الدين أي شيء وكل شيء، عدا أنه يقبَل بأن يقدم بنفسه متحدثًا متطرفًا أو مؤيدًا للتطرف أو التشدد. فإن تسلَّلت بعض الأسماء المثيرة للجدل ضمن حضور فعاليات مكتبة الإسكندرية، أو حتى إلى منصات بعض جلساتها، فهل يمكن أن يلتبس الأمر على سراج الدين في ضيف يشاركه المنصة؟
تواطؤ الأهواء
عند اعتقال جعفر كنت على سفر، لكني بقيت متصلًا بالأوساط "المدنية" في مصر عبر السوشيال ميديا والعلاقات المهنية. وبدأت أنتبه إلى أن هناك تواطؤًا متعمدًا على تجاهل ذكر هشام بما يليق بوزنه وتاريخه وعلاقاته الإنسانية والمهنية بطيف واسع التنوع من المجتمع المدني المصري.
تُصدر المنظمات الحقوقية المستقلة بياناتها الفردية والجماعية التزامًا بموقفها الأخلاقي من حيث التضامن مع الإنسان، من حيث كونه إنسانًا، دون تمييز. لكن بعد البيانات الرسمية، يتحرك النشطاء بدوافعهم الشخصية، وينحازون إلى من يرون أن تضامنهم معه واجب ملزم، فلماذا لم يكن هشام جعفر واحدًا من هؤلاء؟
يظهر التناقض جليًا حين يتعرض أحد رموز العمل المدني المشهورين إلى انتهاك أو مساءلة، فنجد التضامن معه قويًا ومؤثرًا، إن لم يكن في إخراجه من محنته، فعلى الأقل لتحسين ظروفه فيها. فإذا تساءلنا عن تفسير هذا التفاوت، لم نجد إجابة أكثر إقناعًا من ضرورة اختلاف توقعاتنا للتضامن مع شخص معروف التوجهات، عن توقعاتنا لحالة شخص قد يورّط المتضامنين معه تضامنًا أعمى في مشاكل. وهذا أمر يحتاج إلى مزيد من الشرح.
في الوسط المدني فرسان وفارسات، يتضامنون بنزاهة ضمير مع المختلف معهم قبل المتفق. وفي لحظات الاستقطاب، يتعرض هؤلاء إلى اللوم من زملائهم الحركيين وأقرانهم الأيديولوجيين؛ لماذا يتضامنون مع خصومهم والمحرضين ضدهم؟
يردون بأنهم يريدون حق الإنسان، من حيث كونه إنسانًا، بغض النظر عن تصنيفه. والمعتقلون تُنتهك حقوقهم الجنائية، من حيث تحديد مدة الحبس الاحتياطي التي لا ينبغي أن تكون عقوبة في ذاتها، ثم الحق في محاكمة عادلة.
فإذا نتج عن تضامن المحامين الحقوقيين، مثلًا، خروج بعض الأسماء غير المشهورة، ثم تورّط أحدها في عمل عنيف أو إرهابي، فإن اللوم القاسي يقع على من تضامن وضغط من أجل خروجه، رغم عدم معرفته بالغيب. لذلك، تفهّمت، مع مرور السنين، لماذا تنفجر طاقات الزملاء وراء أسماء معينة، ويشوبها التردد أو الفتور مع أسماء أخرى، أو للأسف الشديد؛ "أعداد" أخرى من الأسماء!
رغم كل الإشكاليات والنقد الذي يمكن توجيهه إلى المنطق السابق، فهو مفهوم ومعقول. حتى لو لم يكن مقبولًا. أما غير المفهوم فهو أن تُستبعد أسماءٌ محددة، بدرجةٍ ما من التواطؤ أو عدم الاكتراث، رغم اليقين في توجهات أصحابها السلمية والديمقراطية، وبلوغهم من العمر ومرورهم بتجارب ترجّح أنهم لن يغيّروا طريقهم بعد تلك المحنة العارضة.
تجاهل مريب لاسم توفيق غانم
من بين كل الأسماء المعروفة، والموثوق في توجهاتها السلمية، أتعجب لتجاهل اسم الأستاذ توفيق غانم، المعتقل منذ 21 مايو/أيار 2021. كثيرون لا يعرفون توفيق غانم، كونه شخصية غير جماهيرية، لكن أحدًا من المنخرطين في العمل العام في مصر، خصوصًا المخضرمين من قبل الثورة، لا يعرف توفيق غانم وأدواره المهمة التي أدّاها في زهد عن الأضواء.
إضافة إلى أدواره السياسية التي لعبها في الكواليس، بانيًا الجسور بين مختلف التيارات السياسية في لحظات الاصطفاف والائتلافات، فإن توفيق غانم صحفي مصري ذو خبرة طويلة في إدارة المؤسسات الإعلامية، وصاحب مسيرة امتدت لأكثر من 30 عامًا، شغل خلالها مناصب قيادية متعددة في منظمات إعلامية بارزة، وكان صاحب فكرة إنشاء قناة الجزيرة الوثائقية.
أبرز محطاته المهنية كان منصب المدير التنفيذي لشركة ميديا إنترناشونال بين عامي 1999 و2010، وهي الشركة التي أنشأت قناة أنا تي في، وموقع "عشرينات" للشباب العربي، وبوابة "إسلام أون لاين" الرائدة، التي أراد لها توفيق غانم قبل تأسيسها أن يكون اسمها "إنسان أونلاين"، وفق ما أخبر به أحد المقربين مهنيًا من غانم، كاتب هذه السطور، وكان حاضرًا اجتماعات اختيار اسم الموقع قبل إطلاقه.
تضامَنَتْ مع غانم العديد من المنظمات المحلية والدولية، لكن تلاميذه المنتشرين والمؤثرين، لم يقوموا بواجبهم بعد!
في عام 2010، وقعت مؤامرة غادرة على مؤسسة "إسلام أون لاين"، تم الاستيلاء على الشركة الأم في قطر. وقامت الإدارة السلفية الجديدة بمحو الأرشيف الثري الزاخر بمحتوى فريدٍ شكّل وعيًا معاصرًا لقطاع عريض من جيل شباب عربي ضجر من الحركات والجماعات الإسلامية، من دون أن يفقد أواصره مع الإسلام نفسه.
في عام 2012، انضم غانم إلى وكالة الأناضول الإخبارية كرئيس للمكتب الإقليمي في القاهرة، حيث أسس خدمة اللغة العربية للوكالة. كان رئيس تحرير الأناضول العربية حتى استقالته في عام 2015. كان انحيازه إلى قرار إغلاق مكتب وكالة الأناضول في القاهرة حرصًا على سلامة الصحفيين، حيث لم يُمنح التصريح الرسمي لعمل الوكالة في مصر، ولم يُرفض كذلك، فكانوا تحت تهديد دائم.
كنتُ متابعًا كيف تم إنهاء عمل الزملاء في الوكالة بطريقة كريمة، مع حفظ حقوقهم المالية كاملة، بشكل تفتقده منظمات حقوقية، كثيرًا ما تواجه اتهامات بهضم حقوق العاملين فيها. وكان مدير تلك العملية هو توفيق غانم، الذي قام طوال مسيرته المهنية بتدريب ودعم العديد من الصحفيين الذين يشغلون مناصب بارزة في الصحف المصرية الرائدة، وقنوات التليفزيون الإقليمية والدولية، ووكالات الأنباء.
لم يكن استثمار غانم الرئيسي فيما يكتب، بل فيمن يُمكَّن من صحفيين وإعلاميين يدينون له بفضل كبير. وأظن أن أقل الواجب عليهم أن يذكروه بالخير، ولو من دون إبداء التضامن معه، وهو الذي ناهز السبعين من عمره وامتدَّ اعتقاله لأكثر من سنتين وشهرين، حتى كتابة هذا المقال.
للأسف، فاتني التعلم من الأستاذ توفيق، لكني تعاملت مع تلامذته وتعلمت منهم. لم تجمعني به فرصة عمل من قبل، ولم أحظَ بمشورته المهنية كما حظي كثير من الزملاء. لكن بُعد العلاقة الشخصية لم يقلل من عميق احترامي لمسيرته، وشديد تضامني مع حقوقه المنتهكة في محبسه.
ما لا أحب أن أسمع
عندما تواصلت مع أسرة توفيق غانم، سمعتُ ما لم أحب أن أسمع. فالشيخ الستيني الذي ناهز السبعين احتجز في مكان غير معلوم من 21 إلى 26 مايو/أيار 2021، ثم ظهر أمام نيابة أمن الدولة العليا بالتهمة المعروفة المكررة؛ "الانضمام إلى جماعة إرهابية". ذلك الاتهام الذي وجّه ظلمًا إلى الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني، بل حتى بعض المسيحيين.
تم التعنت معه في بداية محبسه، حيث لم يُسمح لعائلته بزيارته أو تسليم أدويته، رغم معاناته من عدة أمراض مزمنة، بما في ذلك السكري. لم يُسأل غانم عن تفاصيل متعلقة بالاتهام، بل ركز التحقيق معه على مسيرته المهنية كصحفي وآرائه الشخصية. وحُرم من التواصل مع محاميه الخاص، على الرغم من تقديم عدة طلبات بذلك.
بعد بضعة شهور في سجن التحقيق في طرة، تم نقل غانم في ديسمبر/كانون الأول 2021 إلى سجن أبو زعبل، حيث الزنازين الضيقة والزحام الشديد والحرمان من التريض، وحيث تدهورت صحته وفقد كثيرًا من وزنه، وحيث المعاناة في كل تفصيلة من تفاصيل المعيشة والزيارة والطعام والاستحمام والعلاج، حتى الماء والهواء!
تضامَنَتْ مع غانم العديد من منظمات حقوق الإنسان وحرية الصحافة المحلية والدولية، وطالبت السلطات المصرية بالإفراج عنه فورًا. لكن تلاميذ غانم المنتشرين والمؤثرين في المؤسسات الإعلامية المصرية والعربية والعالمية، على اختلاف توجهاتها وملكيّاتها، وعلى اختلاف اختياراتهم عن اختيارات أستاذهم، لم يقوموا بواجبهم بعد!
ليس لتوفيق غانم انتماء سياسي لحزب أو جماعة، وليس له "شلة"، وليس له من يشترط خروجه كي يشارك في الحوار الوطني. لكني أراهن على ضمائر زملائه وتلامذته في وسط الصحافة والإعلام وفي العمل المدني والمبادرات السياسية الجامعة.