حرروا العدالة من الإشراف القضائي على الانتخابات
نزاهة الانتخابات تضمنها الإرادة السياسية لا توريط القضاة في لحظة مرتبكة
خدعوك فقالوا إن لا إشراف قضائيًا على انتخابات مجلس النواب الحالية، وذلك بعدما نالت البيانات المتناقضة الصادرة من أندية أعضاء الجهات والهيئات القضائية وقرارات الهيئة الوطنية للانتخابات ببطلان التصويت والفرز في 19 دائرة، من هالة التقديس التي يريد البعض فرضها. فالإشراف القضائي "كامل" بمستويات مختلفة، بإدارة أعضاء هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية، القضائيتين وفقًا للدستور، لجميع اللجان الفرعية والعامة على مستوى الجمهورية.
خدعوك أيضًا بقولهم إن الإشراف القضائي على الانتخابات انتهى في 2024 بموجب الدستور، والحقيقة أن الدستور جعل الهيئة الوطنية للانتخابات قائمة بشكل كامل على إدارة العملية الانتخابية، ويتولى القضاة تسييرها بصفتهم القضائية، في مجلس إدارتها وإدارتها التنفيذية. ويسمح لها الدستور بالاستعانة بأعضاء من الهيئات القضائية في جميع أنواع الانتخابات والاستفتاءات بعد 2024. ويتيح لها قانونها الدفع بأعضاء القضاء العادي ومجلس الدولة في لجان المتابعة على مستوى المحافظات.
بل إن رئيس الجمهورية وجه في مارس/آذار 2023 بدراسة توصية "الحوار الوطني" لإدخال تعديل جديد على قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، يُرسِّخ الإشراف الكامل من أعضاء جميع الجهات والهيئات القضائية على إجراات الاقتراع والفرز "بنظام قاض لكل صندوق". مما يعبر عن اتجاه الدولة نحو جعل الإشراف قضائيًا محضًا وبصورة دائمة.
وبالمناسبة، فالمواطن العادي لا يعرف بالضرورة الفوارق الدقيقة بين الجهات والهيئات القضائية واختصاصاتها، ولا بين قضاة المنصة بالمحاكم العادية ومجلس الدولة، أو بين النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، فضلًا عن إسباغ الدستور الصفة القضائية على الهيئتين الأخيرتين، بما يتجاوز أي خلافات سابقة على توصيفهما.
كما إنهم خدعونا أيضًا وهم يدَّعون بأن الإشراف القضائي هو الضمانة الوحيدة أو الأهم لنزاهة العملية الانتخابية. ذلك لأنه لم يعصم الانتخابات بأنواعها؛ رئاسية أو برلمانية أو حتى الاستفتاءات، من اتهامات التزوير والتلاعب والتضييق واستخدام المال السياسي والإعداد المسبق للمشهد الانتخابي.
من ضمانة إلى "شمّاعة"
الاجتراء الشعبي على نشر تجاوزات المرحلة الأولى من الانتخابات الحالية في "الريلز" و"التيك توك"، ثم حالة الاضطراب الواسعة عقب البيان السياسي العاصف لرئيس الجمهورية، لوَّثت صورة الإشراف القضائي ونالت من هيبة القضاء في النفوس، وأجرت الاتهامات على الألسنة بعدما كانت في السابق محدودة ومكتومة.
شاهدنا أولًا مقطع فيديو لعضو هيئة قضائية يفتح الصناديق قبل انتهاء مواعيد الاقتراع فاستُبعدت. ثم أُعلنت نتائج اللجان العامة دون حضور وسائل الإعلام في معظمها. ثم بدأ التراشق بالبيانات وتقاذف المسؤولية عبر وسائل الإعلام وعلى صفحات السوشيال ميديا، ونشر شائعات وأكاذيب حول طبيعة الإشراف بالمخالفة للواقع. وجرى تداول مقاطع مسموعة لأعضاء بالهيئات القضائية تُحمّل "الوطنية للانتخابات" مسؤولية إصدار تعليمات تسببت في جدل واسع بشأن العملية الانتخابية، وتحديدًا في مسألة اطلاع مندوبي المرشحين على بيانات الحصر العددي للجان.
لقد تحوَّل إشراف أعضاء الهيئات القضائية -بعد بيان الرئيس وقرار بطلان 19 دائرة- من ضمانة مشهودة تفتخر بها الدولة، إلى "شمّاعة" لتعليق أسباب بؤس المشهد، مقترنةً بوصمة سياسية ستظل تطارد البرلمان القادم مهما بلغت حدود النزاهة والشفافية في مراحل الانتخاب القادمة، لا سيما وأن القرار التاريخي بإلغاء العملية برُمِّتها كان مطروحًا في لحظة أمام "الوطنية للانتخابات".
تناسى الجميع أن الإشراف على الانتخابات، سواء كان المشرف عضو جهة أو هيئة قضائية، أو موظفًا حكوميًا، أو مواطنًا عاديًا، هو مجرد عنصر واحد من عناصر العملية الانتخابية، وأن ما يحدث خارج اللجنة الفرعية وقبل موعد الاقتراع وبعده أهم بكثير، مما يحوّل الإشراف إلى ترس واحد في ماكينة عملاقة اسمها "الإرادة السياسية".
الهندسة التشريعية للسياسة
والحقيقة أن الإشكاليات المتعددة التي فجرتها الأحداث الأخيرة لا تعود إلى سوء مستوى الإشراف، بل إلى قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 45 لسنة 2014 وقانون الهيئة الوطنية للانتخابات رقم 198 لسنة 2017، اللذين يمثلان "هندسة تشريعية" لا تقل آثارها خطورة عن "الهندسة السياسية" للمقاعد بين أحزاب الموالاة، مع الاعتذار للهندسة وما يُفترض فيها من إتقان.
لم تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات أسباب إبطال الدوائر التي أبطلتها، رغم أن قانونها يتيح لها ذلك
فلنأخذ على سبيل المثال مسألة حضور مندوبي المرشحين. سنجد أن قانون مباشرة الحقوق السياسية الحالي منذ أصدره الرئيس السابق عدلي منصور قبل انتخاب البرلمان، يتضمن نصوصًا تُميّز بين مندوبي المرشح ووكلائه. فالمندوب له أن يحضر الاقتراع وفتح اللجنة وغلقها فقط. أما حضور الفرز في اللجنة الفرعية وتسليم كشف الحصر العددي وتسجيل الاعتراضات عليه ومتابعة الإجراءات في اللجان العامة فهي حكر على المرشح نفسه أو من يُحرر لهم توكيلًا بهذا الغرض في الشهر العقاري.
ومع ضعف الثقافة القانونية والانتخابية وصعوبة إجراءات التوكيل قياسًا بتعيين المندوبين، يؤدي هذا التمييز التحكمي في القانون بين المندوب والوكيل إلى تغييب وكلاء معظم المرشحين في الغالبية العظمى من اللجان. أي أن المشكلة هنا ليست في الممارسة بل تكمن أساسًا في التنظيم الذي قُصد به تقليل عدد المتواجدين لحظة الفرز، وعدد الحاصلين على بيانات الحصر العددي، في مخالفة لمبدأ الشفافية الواجب توافره في الانتخابات.
مثال آخر: عملية التظلمات والطعون، منظمة بإجراءات ومواعيد متسارعة ومُحاصَرة بشروط تضيّق من الصفة والمصلحة وتمنع عموم الناخبين من التدخل فيها.
ومثال ثالث: الجرائم الانتخابية المختلفة وعلى رأسها الرشاوى والسمسرة في الأصوات والابتزاز والتهديد، حدد قانون مباشرة الحقوق السياسية لها عقوبة تصل إلى الحبس سنة على الأقل، لكنه لم يرسم طريقًا ناجعًا لتحريك الاتهامات بشأنها، مكتفيًا بمنح سلطة مأمور الضبط القضائي لرؤساء اللجان ومسؤولي "الوطنية للانتخابات" ودون أن يرتب أثرًا انتخابيًا على ارتكاب تلك الجرائم باستبعاد المرشح أو الحزب.
دولة القانون تدفع الثمن
وزاد الأمر غموضًا أن "الوطنية للانتخابات" لم تعلن الأسباب التفصيلية "الجوهرية" لإبطال الدوائر كل على حدة، رغم أن قانونها يتيح لها ذلك ونشره في الجريدة الرسمية، خاصة وقد أعلنت أنها لم تستجب فقط لبعض التظلمات بل أبطلت بعض الدوائر بناء على ملاحظاتها والتفاوت في الأرقام بين اللجان الفرعية والعامة!
دفع الإشراف القضائي وحده ثمن هذا الغموض. وهنا أمامنا فرضيتان:
الأولى أن هناك مخالفات جسيمة ارتكبها عضو هيئة قضائية من موقعه كرئيس لجنة عامة أو رئيس لجنة فرعية، وهنا من المهم الإعلان عن ذلك، وعن الإجراءات التي اتُخذت ضده، حتى يؤمن الرأي العام بأن القضاء يُطهّر نفسه بنفسه ويتصدى للتجاوزات الداخلية.
والثانية أن المخالفات خارجة أصلًا عن سلطات أعضاء تلك الهيئات بسبب ممارسات من المرشحين أو أجهزة أخرى خارج اللجان، ومن الواجب أيضًا إعلان ذلك حتى لا يُحمَّل القضاء بذنوب آخرين.
قلل المشهد بكل تفاصيله شعور المواطنين العام بالعدالة والنزاهة، متسببًا في أضرار جسيمة يجب البحث سريعًا عن حلول لها؛ وعلى رأسها إنهاء عهد الإشراف القضائي على الانتخابات.
المغزى من الاستقلال
المسألة هنا تتعلق بصون العدالة وبناء دولة القانون، وليس بـ"هيبة" الجهات والهيئات القضائية بذاتها ولا بـ"حصانة ومزايا" أعضائها. بل على هؤلاء أن يكونوا في طليعة المطالبين بالابتعاد عن المشهد الانتخابي المرتبك سياسيًا وتشريعيًا، وأن ينتزعوا المعنى الحقيقي للاستقلال بأداء رسالتهم كاملة بالفصل في الأنزعة وأعمال الرقابة والتحقيق وغيرها، لصالح الوطن والمواطن.
يدّعي البعض أن الإشراف القضائي هو الحل الوحيد وأنه أفضل من غيره وليس له بديل. وبنظرة سريعة على التاريخ القريب نكتشف أن هذا النوع من الإشراف هو "اختراع مصري" بتعبير أحد أبرز القضاة الذين عملوا في هذا المجال على الإطلاق وهو الراحل المستشار حاتم بجاتو، الأمين العام للجنة الانتخابات الرئاسية 2012، وقد كان مؤيدًا لاستمرار الإشراف القضائي في المدى المنظور وإن رأى أن الوقت سيحين للعدول عن ذلك.
وبتدبّر مواد الدستور 208 و209 و210 وأعمالها التحضيرية، نتبيّن الهدف الحقيقي وراء إنشاء هيئة "مستقلة" للانتخابات، بخلق كيان مستدام وبناء كوادر تستطيع إدارة الاستحقاقات الانتخابية لسنوات بكفاءة تكتسبها بالدراسة والتدريب، بتكاليف أقل على المدى البعيد، وتقليل الاعتماد على أعضاء الجهات والهيئات القضائية بعد مرور 10 سنوات من الدستور، وقصر وجود القضاة على تشكيل مجلس إدارة الهيئة.
والحكمة من تلك الفترة الانتقالية كانت إفساح المجال الزمني لوضع أسس استقلال واستدامة ذلك الكيان، لكن هذا لم يحدث، واتجهت الحكومة ومعها البرلمان إلى استسهال الحل كالعادة وانتداب أعضاء الجهات والهيئات القضائية لتشكيل الجهاز التنفيذي للهيئة الذي يمثل عمودها الفقري، ثم في أعمال الإشراف واللجان العامة والفرعية.
بدائل متاحة في انتظار قرار سياسي
يحتّم الظرف الأخير إعادة النظر في ذلك كله، بالبدء في إعداد كوادر تابعة للهيئة بصورة دائمة أو مؤقتة من شباب الخريجين المتفوقين في كليات الحقوق وغيرها داخل الجهاز التنفيذي، والدفع بهم تدريجيًا في الأعمال المكتبية والبحث ثم المتابعة والرقابة والضبطية القضائية على الجرائم الانتخابية. ثم استحداث التعديلات التشريعية واللوائح اللازمة لاستقلالهم وحمايتهم وحوكمة عملهم، وضبط علاقتهم بباقي الجهات المساعدة الأمنية والحكومية، وإتاحة الاستعانة بممثلي منظمات المجتمع المدني وموظفي الدولة وربما طلبة الجامعات، بضوابط معينة لتعويض أي نقص.
وإذا توافرت "إرادة النزاهة" فسوف نكتشف الإيجابيات بمرور الوقت وتراكم الخبرات، وأتوقع منها: تقليل مراحل الاقتراع التي كانت تزيد أحيانًا لمراعاة العدد المتاح من القضاة وأعضاء الهيئات القضائية لنظام قاضٍ على كل صندوق، وتقليل النفقات بوقف المكافآت الاستثنائية للإشراف وتكاليف الإقامة، وتفرغ الجهات والهيئات القضائية لممارسة وظيفتها الدستورية بمعزل عن القيل والقال.
أعادت الانتخابات الحالية تذكيرنا بخطورة التداخل بين القضاء والسياسة على معنى العدالة وممارستها، خصوصًا بعد تغيير نظام تعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية ليصبح باختيار رئيس الجمهورية، وخرجت الأمور عن السيطرة بعدما طالت الاتهامات الصريحة أو الضمنية هيئات كاملة فانتفض أعضاؤها غضبًا.
وأمامنا الآن طريقان لا ثالث لهما: قرار سياسي من أجل النزاهة المطلقة بالانقلاب على كل المقدمات التي أدت إلى لحظة الارتباك الراهنة، أو محاولة كيّ الجرح بالوقت والرهان على النسيان وهذا لن يفيد.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.

