لم تنتهِ أزمات المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب بإلغاء نتائج 19 لجنة فرعية بسبب المخالفات، بل امتدت لتكشف عن صدع أعمق داخل المؤسسات القضائية، بين القضاء العادي من جهة، وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة المشرفة على الانتخابات من جهة أخرى.
فما إن أُسدل الستار على المخالفات الميدانية، حتى اندلعت "حرب بيانات" بين نادي قضاة مصر، الذي يضم في عضويته أعضاء القضاء العادي والنيابة العامة، والذي أعلن عدم مسؤوليته عن الإشراف على الانتخابات، وبين هيئتي النيابة الإدارية و"قضايا الدولة" اللتين ردتا ببيانات دفاعية، ما حوّل الأزمة من مجرد تقييم انتخابي إلى صراع علني حول المسؤولية والهيبة بين أجنحة "الأسرة القضائية".
تنصل.. وكلمات محسوبة
وكان نادي القضاة أكد في بيانه الصادر بالتزامن مع قرار الهيئة بإلغاء الانتخابات في عدد من اللجان، أن القضاة وأعضاء النيابة العامة لم يتولوا الإشراف على الانتخابات التي جرت مؤخرًا لعام 2025، وذلك التزامًا بأحكام الدستور التي تنظم مشاركة القضاة في الاستحقاقات الانتخابية وفقًا لما يقرره القانون، مثمنًا توجيهات رئيس الجمهورية، إلى الهيئة الوطنية للانتخابات، التي شددت على ضرورة ضمان وصول الإرادة الحقيقية للناخبين واتخاذ القرارات المناسبة في حال تعذر ذلك.
وفيما وجَّه بيان نادي القضاة الشكر إلى هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة "لما بذلوه من جهد كبير في الإشراف على العملية الانتخابية"، لم يثن ذلك الشكر أعضاء الهيئتين عن اعتباره تنصلًا وإلقاءً بمسؤولية المخالفات الانتخابية على عاتقهم، حسبما أكد مصدران قضائيان بارزان داخل الهيئتين لـ المنصة.
وجاءت أول ردود الفعل الغاضبة إزاء ذلك البيان من الإسكندرية وبالتحديد من النادي البحري للنيابة الإدارية هناك، في بيان شديد اللهجة، حصلت المنصة على نسخة منه، مهاجمًا ما وصفه بـ"نرجسية بيان نادي القضاة، وقسوة الهيئة الوطنية للانتخابات"، معتبرًا أنه انطوى على "تلميحات إلى نجاتهم وترفعهم" عن مهمة الإشراف الانتخابي.
كما ألقى النادي البحري باللوم المباشر على الهيئة الوطنية للانتخابات في أزمة عدم تسليم محاضر الفرز لوكلاء المرشحين، مؤكدًا أن هذا الإجراء كان تكليفًا مباشرًا من الهيئة التي "تنصلت منه أمام وسائل الإعلام، وهو ما وضع المشرفين في موقف حرج".
وفي دفاعه عن أداء أعضاء النيابة الإدارية، أكد البيان أنهم أدوا واجبهم الوطني في ظروف قاسية، واصفًا جهودهم بأنها "جهاد المحاربين".
وأرجع البيان أي سلبيات أو أخطاء فردية إلى"تعليمات مباشرة، وبسوء تنظيم التنقلات والإقامة وامتداد العمل اللا إنساني" من قبل المنظمين. واختتم البيان رسالته بنبرة تحدٍ، داعيًا من لم يشارك في الإشراف إلى عدم انتقاد من تحملوا المسؤولية، قائلًا "فليزهوا من ساروا على درب الوطن، ولينزوي من تخلّى أو أُخليت ساحته، ورفعت عنه مشقة الجهاد، دون أن يرجم المجاهدين بدنس الكلم".
غضب عارم
وحول الطبيعة القانونية للنادي البحري للنيابة الإدارية، قال المتحدث الرسمي باسم النادي المستشار عمرو عبد الوارث، الوكيل بهيئة النيابة الإدارية، إنه نادٍ اجتماعي يمثل كافة أعضاء النيابة الإدارية بمختلف أنحاء الجمهورية، مؤكدًا أن ما جاء بالبيان الصادر عنهم يمثل انعكاسًا واضحًا لحالة "الغضب العارم" التي أحدثها بيان نادي القضاة في صفوف أعضاء هيئة النيابة الإدارية "ويعبر عما في صدورهم".
ولم يختلف الموقف كثيرًا داخل هيئة قضايا الدولة، إذ عبّر مصدر قضائي بارز على درجة نائب رئيس الهيئة لـ المنصة عن حالة استياء واسعة داخل الهيئة من بيان نادي القضاة دفعت رئيسها المستشار حسين مدكور، لإصدار بيان داخلي لتهدئة الأعضاء وحثهم على استكمال مهامهم الوطنية.
وفي بيان رئيس الهيئة، الذي حصلت المنصة على نسخة منه، دعا مدكور القيادات والأعضاء إلى "تجاوز الضجيج وصغائر الأقوال على السوشيال ميديا"، مؤكدًا أن العلاقة بين مؤسسات القضاء "وطيدة ويسودها المودة"، وأنها تعمل تحت مظلة المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية.
واعتبر المصدر، الذي فضل عدم نشر اسمه، البيان الصادر عن نادي القضاة "مستفزًا ولا مبرر له"، مؤكدًا أن الدستور ينص بوضوح على أن هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية هما من يشرفان حاليًا على الانتخابات، وبالتالي فإن بيان نادي القضاة يبدو وكأنه محاولة للتبرؤ من العملية الانتخابية وإيصال رسالة ضمنية بالتنصل مما شهدته الانتخابات من تجاوزات.
ضرورة مؤسسية
لكن مصدرًا قضائيًا ثالثًا على درجة رئيس بمحكمة الاستئناف بالقضاء العادي، أكد لـ المنصة، وجود ضرورة مؤسسية لصدور بيان نادي القضاة، موضحًا أنه من المنظور المؤسسي "كان لا بد لنادي القضاة أن يُصدر هذا البيان للدفاع عن سمعة وهيبة القضاء".
وأوضح المصدر الذي فضّل عدم نشر اسمه "كان لازم نادي القضاة يعمل كده عشان يقول يا جماعة إحنا مالناش دعوة، لأن المخالفات دي بتهز الثقة في القضاء، لأنه فيه مشكلة لما تقول إن القاضي كان بيزور وبيعمل وبيهبب العك ده، ما ينفعش مؤسسة زي دي تتضرب بهذا المنظر وتسكت".
وأضاف أن البيان جاء كرد فعل على الانطباع العام بأن "القضاة هم من يشرفون على الانتخابات"، وهو انطباع خاطئ لا يفرِّق بين الجهات القضائية التي تضم القضاء العادي والنيابة العامة والهيئات القضائية الأخرى ممثلة في هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة.
وفي المقابل، انتقد سكرتير نادي النيابة الإدارية عمرو عبد الوارث ذلك الاتجاه، مؤكدًا أنه يخرق "الثوب القضائي" الذي حرصت هيئة النيابة الإدارية على الحفاظ عليه حتى في أحلك الظروف "انتخابات 2010 وما شهدته من تزوير كان أحد الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة شعبية أشرف عليها القضاة وحدهم في اللجان العامة دون أدنى مشاركة من أعضاء النيابة الإدارية، وعمرنا ما اتكلمنا ولا قولنا حاجة".
سبب المشكلة
إلى ذلك انتقد نائب رئيس هيئة قضايا الدولة الذي تحدثت إليه المنصة، محاولة إلصاق مسؤولية المخالفات الانتخابية بالمستشارين المشرفين على الانتخابات، و"التغاضي في المقابل عن المخالفات التي حدثت خارج اللجان من رشاوى ودعاية انتخابية وغيرها"، وهو ما أكد عليه عبد الوارث بقوله "لو كنا عملنا محضر لكل راجل أو ست غلبانة بتسألنا عن البون بعد التصويت، كان الإقبال على الانتخابات هينعدم".
وفي شهادته على ضعف الإقبال، كشف نائب رئيس هيئة قضايا الدولة عن تجربته الشخصية في إحدى لجان منطقة الوراق، حيث لم يحضر سوى 102 ناخبين فقط من أصل 8000 ناخب مسجلين باللجنة، وعلى النقيض كان المشهد العام خارج اللجنة "إقبال مصطنع"، موضحًا وجود تناقض صارخ بين الحشود التي يتم حشدها خارج اللجان وفراغها من الداخل، مرجعًا ذلك إلى ممارسات مثل توزيع أموال أو "كراتين" للتأثير على الناخبين.
وحول مخالفة عدم تسليم محاضر الفرز للمندوبين، أكد المصدر أنه لم يتلقَ تعليمات رسمية بذلك، لكنه أشار إلى أن بعض زملائه تحدثوا عن وجود مثل هذه التعليمات، منتقدًا بشدة عزوف النخب والمتعلمين والشباب الجامعي عن المشاركة، معتبرًا ذلك "تقصيرًا خطيرًا" ونتيجة لحالة الإحباط وفقدان الثقة، ومحملًا سياسات سابقة مسؤولية تخريج "جيل لا يهتم بالمشاركة السياسية".
ومع ذلك يقلل المصدر من آثار مخالفات عدم تسليم المحضر الورقي لمندوبي المرشحين "ليست أزمة، ولكن الأزمة في التأكد من تطابق الأرقام المعلنة في اللجان الفرعية مع تلك التي تصل إلى اللجان العامة. وقال "المسألة ليست حكاية محضر اتسلم ولا ما اتسلمش، الحكاية هي هل الأرقام التي وصلت للجنة العامة هي نفسها أرقام اللجان الفرعية؟ لو هناك شك، يمكن فتح الصناديق ومراجعة الأوراق. إذا وُجد خلل، فهنا تكمن المشكلة الحقيقية".
وأضاف المصدر أن غياب مندوبي معظم المرشحين عن اللجان كان سببًا رئيسيًا في عدم تسليم المحاضر. وضرب مثالًا بلجنته التي قال إنها "ضمت 27 مرشحًا، لم يحضر عنها سوى مندوب واحد فقط، والذي رفض استلام المحضر بعد علمه بأن مرشحه لم يحصل سوى على 48 صوتًا".