تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
انتخابات مجلس النواب

الانتخابات والناس.. في ذكرى البطاقة الوردية

هل نذكُر أن جوهر الثورتين اللتين يعترف بهما الدستور كان كسر الاحتكار السياسي؟

منشور الاثنين 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

قبل عشرين عامًا شاركت في التصويت بالانتخابات البرلمانية لأول مرة. سافرت إلى مدينتي دمياط لأستخرج "بطاقة الانتخاب الوردية" التي كان القانون يشترط الحصول عليها للتصويت، ويدوّن فيها أمين اللجنة تاريخ كل اقتراع. لم أفهم أبدًا سر اختيار اللون، لكني أذكر كيف كنت وأصدقائي نتعامل معها بحرص وفخر شديدين، وبغض النظر عن خسارة مرشحينا المفضلين، حتى أن بعضنا كان يغلّفها!

لكن البطاقة الوردية في الواقع كانت أبسط أدوات الاحتكار السياسي، والتلاعب بإرادة الشعب بالتمييز بين مواطن وآخر على أساس "حتة ورقة" في صورة إجراء إداري بحت، فضلًا عن تعرضها للتلف والفقد، مما يقلل بالضرورة عدد الناخبين.

وبعد ثورة يناير 2011 كنت شاهدًا خلال عملي في تغطية لجنة التعديلات الدستورية الثانية برئاسة المستشار طارق البشري على المفاوضات التنفيذية والقانونية المستفيضة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة والمحكمة الدستورية ومجلس الدولة لاتخاذ خطوة اعتُبرت "تاريخية" بإلغاء العمل بالبطاقة الوردية والاكتفاء ببطاقة الرقم القومي لضمان تصويت كل من له حق الاقتراع، وتعظيم نسب المشاركة.

وطوال العقدين السابقين شاركت في جميع انتخابات الرئاسة ومجلسي الشعب والشورى ثم النواب والشيوخ واستفتاءات الدستور وتعديله. حتى في أصعب الظروف وأضعف المعارك كنت أحرص على التصويت، فضلًا عن متابعة فترة الدعاية الانتخابية ثم الوجود في محيط لجان الاقتراع بمناطق مختلفة لقياس ما نصفه إعلاميًا "نبض الجماهير" والوقوف على مشاعر الناس وآرائهم إزاء المرشحين والأحزاب وإدارة العملية الانتخابية.

وأعتقد جازمًا أنني لم ألمس أبدًا مثل هذا الفتور المميز لانتخابات مجلس النواب التي انطلقت داخل مصر اليوم. ولم يُفلح إدخال "تيك توك" و"ريلز فيسبوك" سوق الدعاية في زيادة الاهتمام بـ"المعركة" على الأرض، بل أنتج عشرات المقاطع الرائجة، معظمها يثير السخرية والاستهجان.

احتكار المشهد لمصلحة من؟!

سكرينشوت من فيديو متداول للمرشح المستقل في دار السلام بسوهاج محمد خلف الله، في جولة دعائية بسيارة تسلا 3 نوفمبر 2025

وكما لاحظتُ من مشاهداتي المباشرة تراجع عدد الحضور في الندوات الانتخابية لمرشحي الفردي بدائرتيْ الهرم والدقي. تخبرنا مقاطع الفيديو على صفحات المرشحين بأن عدد مرافقيهم في كثير من الأحيان يفوق أعداد الناخبين المهتمين، رغم كل محاولات الحشد العجائبية، كوقوف أحدهم على جرافة لودر، ودخول آخر قرية في سوهاج بسيارة تسلا سايبرتراك بعد أشهر من استخدام الشرطة القطرية لها في تأمين موكب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالدوحة!

أما مرشحو القائمة الوطنية الوحيدة التي تنافس نفسها على نصف مقاعد المجلس، فقد تسببت دعايتهم الفردية والحزبية، التي تركزت في إعلانات الطرق ولافتات الشوارع وأعمدة المونوريل، في إرباك المواطنين. سمعت من الأقارب والأصدقاء أسئلة عدة تعكس الخلط بين الفردي والقوائم، لأن دعاية مرشحي القائمة تفسح المجال الأكبر للشخص وحزبه وليس للقائمة، فبدا وكأن العديد من المرشحين ينافسون بعضًا بالرقم والرمز ذاته!

قد يظن البعض أن هذه الأسئلة صادرة عن أشخاص غير مكترثين ولا يجوز القياس عليهم. لكن الواقع أسوأ بكثير حتى في الأوساط المتصلة بالمجال العام. وجولة سريعة بين التعليقات على معظم المنشورات الإخبارية والمعلوماتية عن الانتخابات في الصفحات الإخبارية عبر السوشيال ميديا تعطينا فكرة عن أسباب التجاهل والعزوف، وفقدان الأمل في التمثيل الحقيقي للناس والتعبير الصادق عن مشاكلهم.

وليس من مصلحة مصر دولةً ومجتمعًا أن يشيع التسفيه لأي خطاب جاد بشأن الانتخابات النيابية، فحساسيتها ليست محل جدل، خاصة لما قد يتبعها من تشكيل برلمان بصوت واحد وربما تُطرح فيه تعديلات دستورية خطيرة.

انهيار مروّع للمنافسة

من أمام لجنة المدرسة الثانوية التجارية الفندقية بالهرم في أول أيام انتخابات مجلس الشيوخ، 4 أغسطس 2025

الأرقام تؤكد هذه الحالة، فبعيدًا عن النصف المحسوم للقائمة، يتنافس على النصف الآخر (284 مقعدًا) 2645 مرشحًا فقط بتراجع هائل عن انتخابات 2020 حيث تنافس فيها 3964 مرشحًا على عدد المقاعد ذاته. أي أن معدل المنافسة تراجع من 13.9 إلى 9.3 مرشح لكل مقعد.(*)

وهناك مناطق رئيسية بأرقام أكثر بؤسًا. كالجيزة أكبر محافظات المرحلة الأولى، ترشح بها في الانتخابات الماضية 371 مرشحًا مقابل 170 فقط هذا العام، على نفس عدد المقاعد 25 للفردي. أي أن معدل المنافسة تراجع من 14.84 إلى 6.8 مرشح لكل مقعد!

وفي محافظة مطروح التي تتسم بأقل عدد للناخبين وبطبيعة قبَليّة وعائلية خاصة تنخرط مع التداخلات الحزبية، كان يتنافس 27 مرشحًا في الانتخابات الماضية، تراجعوا اليوم إلى 15 فقط، على مقعدين للفردي. أي أن معدل المنافسة تراجع من 13.5 إلى 7.5 مرشح لكل مقعد!

تتكامل هذه الأرقام مع مشاهد السوشيال ميديا والسرادقات الخالية لتؤكد أن العزوف هو العنوان الأبرز، سواء عن التنافس أو الاهتمام.

الناس لم يفقدوا "الشغف" فجأة بل نتيجة حتمية للمقدمات من تشكيل القائمة الواحدة بتنسيقات وتحالفات بين قوى الموالاة التامة (لا نستطيع التمييز بين برامجها) وأحزاب الحيز المتاح، ثم التنسيق بينهم مع بعض النواب السابقين لتركيز المنافسة في الدوائر، ثم الاستبعادات المتتالية لنواب سابقين ومرشحين واعدين لأسباب قانونية وإجرائية.

وإلى جانب انهيار التنافسية، هناك تجليات أخرى لحالة الاحتكار السياسي تلك كبروز خطاب مخالف لأبسط قواعد المنطق وأدبيات النظم السياسية حول العالم يروّج للقائمة المغلقة المطلقة باعتبارها النظام الأنسب للناخب المصري، وكأن هذا الناخب ما زال في طور الطفولة، ولم يخض منذ ثمانينيات القرن الماضي جميع أنواع الاستحقاقات حتى المختلطة بين الفردي والقائمة النسبية بما تتضمنه من قواعد معقدة نوعًا ما للعتبة والتمييز الإيجابي لبعض الفئات.

ونلحظ كذلك الغياب التام لاستطلاعات الرأي على أسس علمية قبل وبعد الاستحقاقات المختلفة، لقياس معدلات التنافسية والإقبال على الأساس الجغرافي والعمري، بهدف إشراك النخب والمواطنين في وضع نظام انتخابي عادل يضمن التمثيل الجماهيري، لتكون الممارسة الديمقراطية قناة مثالية للمعارضة والرفض وتداول الآراء، فضلًا عن دمج ملايين الشباب الذين لم يعرفوا شيئًا اسمه حق الانتخاب حتى في المدارس والجامعات.

المؤسف أننا نعيش المشهد بكل تفاصيله بعد سنوات معدودة من ثورتين، يعترف بهما الدستور، كان جوهرهما الانتفاض ضد الاحتكار السياسي بكل صوره وآثاره. فهل لا يعلم القائمون على هندسة المشهد بالأضرار الجسيمة لهذا الانسداد؟!

دراسة حكومية ضد الاحتكار السياسي

أسأل بجديّة، لأن كيانًا حكوميًا هو المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أجرى دراسة تفصيلية قبل انتخابات 2020 بنحو عام شملت استطلاع رأي واقتراح أفكار للنظام الانتخابي، على ضوء انتخابات مجلس النواب 2015 التي أجريت بنظام مختلط بأغلبية 448 مقعدًا للفردي و120 مقعدًا للقوائم المطلقة المغلقة.

وأسفرت الدراسة عن تبني توصية باتباع نظام القائمة النسبية، مع إبراز العديد من السلبيات للقائمة المغلقة المطلقة. غير أن ما حدث في الواقع هو الرجوع إلى الخلف بزيادة مقاعد القوائم المطلقة المغلقة إلى 50%.

وفق دراسة حكومية فإن غالبية المفحوصين طالبوا بإجراء جوار مجتمعي واسع وحقيقي حول شكل النظام الانتخابي

أَعلنت مقتطفات من الدراسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ونُشرت كاملة ورقيًا فقط بعد تأخير طويل عام 2023، واعتمدت على عينة معتبرة من النواب والسياسيين والأكاديميين والخبراء والمتخصصين وأعضاء المجالس القومية المتخصصة ونشطاء المجتمع المدني، فخرجت الأرقام والآراء ناسفةً لصلاحية النظام الانتخابي الحالي لتعدد عيوبه.(**)

عبّر 44.6% من المبحوثين عن عدم رضاهم على الجمع بين الفردي والقائمة المطلقة المغلقة، بينما كان نحو 30% راضين إلى حد ما. وتمثلت أسبابهم في أن ذلك النظام لم يأت بنواب ذوي أداء فعّال، ولا يضمن تمثيلًا متنوعًا للقوى السياسية، ويهدر عددًا كبيرًا من الأصوات نتيجة فوز القوائم بالأغلبية المطلقة (50%+1)، ولأن مساحة الدوائر الشاسعة (في حالة القوائم) لا تتيح للناخبين التعرف إلى المرشح.

ودعا نحو 70% منهم إلى تغيير النظام الانتخابي إلى نظام مختلط بين القائمة النسبية والفردي (36.3%) أو إلى القائمة النسبية وحدها (21.9%) أو النظام الفردي وحده (20.2%) بينما أيّد أقل من 22% الإبقاء على القائمة المطلقة المغلقة ضمن النظام المختلط مع الفردي.

وطالبت الغالبية العظمى بما يقترب من 90% بإجراء جوار مجتمعي واسع وحقيقي حول شكل النظام الانتخابي، يضم الخبراء والنواب والحزبيين وممثلين للمجتمع المدني والنقابات وأساتذة الجامعات. بينما اتفق الغالبية على ضرورة تشكيل لجنة فنية متخصصة من الخبراء لوضع مشروع جديد.

واتفق معظم المشاركين في الدراسة على أن "النظام الانتخابي" بالتعريف له مجموعة من الوظائف أبرزها أنه أهم آليات تمثيل المواطنين، ويشجعهم على الانتخاب إذا كان سهلًا ومفهومًا، وأن يحقق العدالة وتكافؤ الفرص، وأنه عامل مهم لتعزيز فاعلية الحياة السياسية.

لاحقًا؛ مضت الأمور في الطريق المعاكس تمامًا لنصل إلى المشهد الاحتكاري الحالي: لا بطاقة وردية. نحو 70 مليون ناخب لهم حق التصويت بالرقم القومي. اقتراعٌ في الداخل والخارج. تكاليف عالية للطباعة والتأمين والإشراف والإدارة. عشرات الأحزاب ومئات الملايين تُنفق على الدعاية. وفي المقابل فجوةٌ واسعة تفصل بين الناخبين والانتخابات بمعناها الحقيقي، وتبدو غير قابلة للجسر!


(*) اعتمدت المقارنات على الكشف النهائي لعدد المرشحين لانتخابات مجلس النواب 2020 المتاح على موقع الهيئة الوطنية للانتخابات، وقوائم المرشحين المتاحة لانتخابات 2025 المتاحة على الموقع ذاته.

(**) نُشر استطلاع الرأي في كتاب ضمن إصدارات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وشمل أيضًا توصيات بشأن النظام الانتخابي لمجلس الشيوخ الذي كان وقتها سيُشكل لأول مرة بعد استحداثه في التعديلات الدستورية الأخيرة، أبريل/نيسان 2019.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.