تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
هل هناك أفكار جاهزة سلفًا لدى جهات أو أطراف تجدُ في ازمة الانتخابات البرلمانية ستار دخان ملائمًا للعبة "الاستغلال والتمرير"؟

موسم أفكار العبث بالدستور

كيف وجد البعض في الزلزال الانتخابي فرصة للعبة الاستغلال والتمرير؟

منشور الاثنين 8 كانون الأول/ديسمبر 2025

في كتابها المهم "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، قدمت الكاتبة الكندية ناعومي كلاين تشريحًا للنهج السلطوي في استغلال الأزمات، سواء كانت حقيقية أو مفتعلة، لإنتاج واقع جديد بسياسات مختلفة تلبي أهداف هذه الأنظمة، على طريقة المنظّر النيوليبرالي الشهير ميلتون فريدمان الذي يرى في المشاكل الكبرى وسيلةً لتحقيق ما كان السياسيون يعتبرونه مستحيلًا.

يمكن وصف تلك اللحظة بـ"الفرصة الذهبية" حيث تتلقف السلطة (أو دعاة النيوليبرالية في الحالة الاقتصادية) الكارثة وتتعامل معها سريعًا بأفكار مُجهَّزة سلفًا لكنها كانت صعبة الإنفاذ، ثم يروّجون لهدف معلن ذي طبيعة إصلاحية، يخفي وراءه هدفًا آخر هو مربط رجائهم الحقيقي. مثل تمرير خصخصة شاملة لنظام التعليم أو الصحة تحت شعار التطوير وعلاج أسباب التدهور.

والحقيقة أن مصر تحظى بتاريخ طويل من ممارسات "الاستغلال والتمرير" يسبق بعقود طويلة وقائع سردتها كلاين لنقد الأفكار النيوليبرالية، منذ الانقلابات الدستورية في عهد الملك فؤاد، وحل الأحزاب وقمع الإخوان والشيوعيين وإنشاء المحاكم الاستثنائية في السنوات الأولى من عمر ثورة يوليو، ثم وضع بذور الانقلاب على الاشتراكية في عهد السادات، وتقليص برامج الحماية الاجتماعية وخصخصة القطاع العام وديمومة حالة الطوارئ في عهد مبارك.

الارتباك.. نقطة انطلاق

يطرح ارتباك إخراج المشهد الانتخابي في 2025 أسئلة حول مشروعية مجلس النواب المقبل

هذه الطريقة صالحة للاستدعاء دائمًا في خضم الأزمات الكبرى. ومن أمثلتها الحاضرة: تغيير نظام تعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية في الدستور، بصورة أهدرت نهائيًا السلطة الذاتية لأعضاء تلك الجهات والهيئات في اختيار رؤسائهم أو اتباع نظام الأقدمية المطلقة.

والآن يتوفر عنصر الأزمة. مشهد سياسي مرتبك زلزله بيان رئيس الجمهورية الذي ألقى بظلاله على انتخابات مجلس النواب الأكبر والأطول في تاريخ مصر، لتحفل بقرارات وأحكام إلغاء الدوائر والإعادات، وبالطعون أمام مجلس الدولة ومحكمة النقض، وبتراشق الاتهامات في الحقل القضائي، وسط مطالب بإلغاء العملية كليًا، وتقلّبات عنيفة ربما ينتج عنها تغير موازين القوى في الشارع السياسي قريبًا، على خلفية النتائج المتواضعة لأحزاب الموالاة في مواجهة المستقلين.

فهل هناك أفكار جاهزة سلفًا لدى جهات أو أطراف تجدُ في الأزمة السياسية ستار دخان ملائمًا للعبة "الاستغلال والتمرير"؟

الإجابة في اعتقادي: نعم. فمن بين آلاف الأصوات التي يضج بها المشهد الحالي وتنادي بالإصلاح السياسي وفتح المجال العام ووقف الترسيم المسبق للاستحقاقات الانتخابية، يمكن تمييز مجموعة من الأفكار المقحمة على تيار النقاش السائد، وتلقى رواجًا مفتعلًا في دوائر معينة، وبعضها يكاد يتطابق مع مقترحات كانت قبل أسابيع قليلة مجرد "همهمات" حبيسة الجلسات الخاصة، لا ترقى للتداول كأفكار متماسكة.

القضاء الموحّد يطل برأسه

نبدأ بما يخص القضاء. فبعد بيانات نادي القضاة والنادي البحري للنيابة الإدارية حول الإشراف القضائي على الانتخابات وتداول مقاطع مسجلة منسوبة إلى أعضاء بهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، تنتقد الهيئة الوطنية للانتخابات، والإعلان عن استبعاد بعض أعضاء الهيئتين من الإشراف بسبب تجاوزات حدثت في لجانهم بالمرحلة الأولى، بعد كل ذلك بدأ البعض يروج عبر حسابات على السوشيال ميديا ومجموعات خاصة لفكرة القضاء الموحد.

حفلت مجموعات السوشيال ميديا عقب البيان الرئاسي بمقترحات ومطالب غرائبية وغير دستورية

يقترح أصحاب هذه الفكرة –منذ ما قبل الانتخابات، بحسب مصادر رفيعة المستوى- إلغاء مجلس الدولة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، ودمجها جميعًا في القضاء العادي، وتوحيد نظام وإجراءات التعيين من الخريجين والخريجات الجدد والترقية، من خلال مجلس أعلى واحد مع مراعاة الضوابط المستحدثة المتعلقة باجتياز دورة تدريبية في الأكاديمية العسكرية، وذلك كله بموجب تعديل دستوري قادم.

يُبشّر مروجو المقترح بأنه يحقق المساواة بين أعضاء الجهات والهيئات، ويضمن التنسيق المطلق في التعيينات والترقيات والرواتب والمزايا المالية، ويقلل التكاليف والخلافات. لكن "القضاء الموحد" في حقيقة الأمر يضرب فلسفة استقلال السلطة القضائية في مقتل، ويحوّلها تدريجيًا إلى هيئة تنفيذية مثقلة بالأعباء الداخلية ويسهُل التحكم فيها بشكل مركزي من قبل السلطة -أي سلطة- ليصبح استقلال القاضي تمامًا في عمله محضَ وهم.

يُهدر "توحيد القضاء" التراكم المهني للقاضي في مجاله، جنائيًا كان أو مدنيًا أو إداريًا بما يؤثر سلبًا على العدالة المنشودة، حيث يصعب التقاطع أو الخلط بين جميع أنواع المنازعات بين المواطنين وبعضهم أو ضد الدولة، وبين التحقيق الجنائي والإداري، وبين أعمال الإفتاء للجهات الحكومية والدفاع عن مصالحها. فكل مسار له طبيعته ومتطلباته المعرفية والذهنية، خاصةً في النظام القانوني المصري وبعد ثمانين عامًا من استقرار الهيكل الحالي.

مستصغر الشرر في الدستور

وفيما يخص الدستور ذاته؛ نجح البعض في استدراج معارضي النظام الانتخابي الحالي إلى حديث لا معنى له عن "ضرورة تعديل الدستور" بحجة أنه المتسبب في "توريطة" القائمة المغلقة المطلقة، وأن أي طريقة أخرى ستكون باطلة، بسبب ضرورة مراعاة التمييز الإيجابي للمرأة والعمال والفلاحين والشباب والمسيحيين وذوي الإعاقة والمقيمين بالخارج، وفق المواد 102 و243 و244 من الدستور.

يتناقض هذا الادعاء -الذي بات ذائعًا بين السياسيين والصحفيين- مع حقيقة نص الفقرة الأخيرة من المادة 102 التي تجيز الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي بالكامل، أو القائمة دون تحديد طبيعتها ما إذا كانت مغلقة أو مفتوحة، مطلقة أو نسبية، أو "الجمع بأي نسبة بينهما".

كما يتناقض مع تجربة انتخابات مجلسي الشعب والشورى 2011، إذ جرت بتخصيص ثلث المقاعد للقوائم النسبية المغلقة على مستوى المحافظات، مع مراعاة تمييز المرأة والعمال والفلاحين فيها، وقد وُضعت القوائم بالفعل بطريقة تضمن ذلك ولا تهدر أصوات الناخبين في الوقت ذاته.

ونلاحظ هنا أن المحكمة الدستورية العليا حكمت لاحقًا بحل مجلس الشعب، ليس لعيبٍ في القوائم النسبية، بل لأن القانون مكّن مرشحي الأحزاب من المنافسة على المقاعد الفردية التي كانت تمثل الثلث، بينما اقتصرت المنافسة في القوائم على الأحزاب.

الصفحة الثامنة من عدد جريدة الشروق يوم 10 ديسمبر 2014

أي أن المسألة تتعلق قبل كل شيء بإرادة سياسية لوضع نظام انتخابي ديمقراطي، والاستفادة من الغطاء الواسع المتوافر في الدستور، لرسم تفاصيله بصورة مغايرة للحاصل الآن، بالتكامل مع تعديل الدوائر الانتخابية على مستوى القوائم والفردي لتسهيل دمج الفئات المطلوب تمييزها، دون السقوط في فخ عدم الدستورية.

لقد كانت هناك محاولات جادة في هذا الإطار، أبرزها الوثيقة المبدئية لمؤتمر جريدة الشروق السياسي عام 2014 التي توافقت عليها المعارضة بكل أطيافها، وطالبت بتخصيص 40% من المقاعد للفردي و40% للقوائم النسبية و20% للقوائم المطلقة المغلقة لاستيفاء التمييز الإيجابي.

غير أن تلك المسألة في نظر مروجي تعديل الدستور ليست إلّا وسيلة لفتح الباب أمام تعديلات أكبر وأخطر، ربما لا تقف عند مدة الرئاسة أو إعادة الانتخاب كما يتكهن البعض، بل قد تمتد إلى مواد الحقوق والحريات المحظور أساسًا الانتقاص منها وفق المادة 226 من الدستور، خصوصًا تلك التي "أتعبت" الحكومة والبرلمان عند مراعاتها في قانون الإجراءات الجنائية، كالمادة 54 المنظمة لحالات وضوابط وإجراءات القبض والتفتيش والتحقيق.

من خلف ستار الدخان

أما على المستوى السياسي؛ فقد حفلت مجموعات السوشيال ميديا في فترة الهجوم الشديد على الانتخابات عقب البيان الرئاسي، بمقترحات ومطالب تبدو غرائبية وغير دستورية وتهدم أبسط قواعد الدولة الحديثة بمعناها المجرد، لكنها نجحت في ترك انطباع عام باحتمالية تحققها، وبأنها منطقية وربما تنتج واقعًا سياسيًا أفضل.

تنوعت تلك المقترحات بين: إلغاء الانتخابات وتأجيلها لفترة يحتفظ خلالها رئيس الجمهورية بسلطتي التشريع والرقابة، وحل الأحزاب السياسية حديثة الظهور بعد ثورة يناير، وإسناد الإشراف على الانتخابات للمؤسسة العسكرية.

يصعب بشدة تصور أن تلك الأفكار انتشرت بصورة "لا إرادية" أو "اعتباطية" لأنها انتشرت متزامنة عبر منصات شتى، وطُعِّم بعضها بأفكار إيجابية لإكسابها بعض المصداقية، كالتصدي للرشاوى الانتخابية وإلغاء القائمة المطلقة! على طريقة "حط أبو قرش على أبو قرشين".

في مقاله الأخير بـ"المصري اليوم"؛ أصاب الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، كبد الحقيقة وهو يحذر من خطورة ذلك، قائلًا إنه "يستشعر في ثنايا الحديث عن فشل العملية الانتخابية تربُّصًا بالدستور والبرلمان وبفكرة المشاركة الشعبية من الأصل"، معربًا عن خشيته من "استغلال الموقف للعبث بالدستور وإهدار مكانته، وللمزيد من إفساد صورة الأحزاب والعمل السياسي في أذهان الناس".

إن إغراق السوشيال ميديا ووسائل الإعلام بتلك الأفكار أحد أشكال "بالونات الاختبار" أو "خلق الضوضاء" لاستنزاف الطاقة العقلية للمواطنين في متابعة ستار دخاني من الجدل والتراشق، فتتوه الحقائق، وتتخلّف الأولويات، ليسهل فيما بعد استغلال "الفرصة الذهبية" ثم تمرير أفكار مسبقة الصنع وفقًا لتحليل "عقيدة الصدمة".

السؤال البديهي: كيف يمكن مواجهة تلك الممارسة السياسية الناجحة لقرون مع المصريين وغيرهم من شعوب الأرض؟

لا توجد إجابة حاسمة. لكن وسيلة التصدي الوحيدة المتاحة هي إنقاذ الوعي العام من التشتت والضجيج المفتعل، بعمل جماعي يسلط الضوء على مواطن الخلل الحقيقية، ويستشرف الذرائع لقطع الطريق مبكرًا أمام حمَلة المباخر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.