نزاهة الانتخابات بين "أريحية الهيئة" و"فيتو الرئيس"
كفل الدستور للهيئة الوطنية للانتخابات أعلى درجات الاستقلال والحياد، وكلَّفها دون غيرها إدارة الاستحقاقات الانتخابية في جميع مراحلها، بدءًا من إعداد قاعدة بيانات الناخبين وتحديثها، واقتراح تقسيم الدوائر وتحديثها، وتحديد ضوابط الدعاية والتمويل والإنفاق الانتخابي، مرورًا بالرقابة على العملية الانتخابية، وصولًا إلى إعلان النتائج.
وضمانًا لاستقلالها الكامل، ولعدم ولاية أي جهة مهما كان شأنها على أعمالها، نصَّ الدستور ومواد قانون الهيئة على أن يُشكَّل مجلس إدارتها من عشرة أعضاء من القضاء والجهات والهيئات القضائية، يُنتدبون بمعرفة تلك الجهات، ثم يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية؛ ما يعني أن اختيار الأعضاء يتم "دون تدخل من السلطة التنفيذية" منعًا لتضارب المصالح، وتقتصر صلاحيات رئيس الجمهورية على إصدار قرار التشكيل.
وعليه، فإن الهيئة الوطنية للانتخابات، بتشكيلها وصلاحياتها التي كفلها لها الدستور والقانون، أقرب ما تكون إلى هيئات المحاكم، لا سلطان عليها سوى القانون، ولا يجوز لأي طرف أيًا كان منصبه أن يتدخل في عملها أو يؤثر على رأيها أو يفرض وصاية على أحكامها؛ فإذا حدث ما يمس استقلال قراراتها، أو قدَّرت هي أن حكمًا من أحكامها شابه تأثير أو هوى، بات لزامًا عليها أن تتنحى استشعارًا للحرج، صونًا لحيادها واحترامًا لمكانتها.
أريحية الهيئة
قبل أسبوعين؛ استبق الرئيس عبد الفتاح السيسي إعلان نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات بساعات، ببيانٍ طالب فيه الهيئة الوطنية للانتخابات بـ"التدقيق التام عند فحص الأحداث والطعون المقدمة لها، وأن تتخذ القرارات التي ترضي الله سبحانه وتعالى وتكشف بكل أمانة عن إرادة الناخبين الحقيقية".
وأشار الرئيس في بيانه الذي نشره عبر فيسبوك، إلى ما وصله من أحداث وقعت في بعض الدوائر، تخضع في فحصها للهيئة الوطنية دون غيرها، "وهي هيئة مستقلة في أعمالها وفقًا للقانون".
ودعا الرئيس الهيئة ألَّا تتردد في اتخاذ القرار الصحيح عند تعذُّر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية، سواء بالإلغاء الكامل لهذه المرحلة من الانتخابات أو إلغائها جزئيًا، كما طلب بشكل مباشر أن تُعلن عن الإجراءات المتخذة تجاه ما وصلها من مخالفات في الدعاية الانتخابية.
بيان الرئيس يُعدُّ سابقةً في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية؛ إذ لم يسبق أن تصدر دعوة علنية من رأس السلطة التنفيذية، بتوجيه هيئة مستقلة كفل لها الدستور إدارة العملية الانتخابية، بالتدقيق وفحص طعون ومراجعة ما جرى من مخالفات وتجاوزات.. إلخ.
فور نشر البيان الرئاسي؛ انتشرت على السوشيال ميديا دعوات تطالب الرئيس بإعادة النظر والتدخل لوقف ما جرى من تجاوزات ومخالفات فيما تبقى من الدوائر، وبإلغاء المرحلة الأولى من الانتخابات برمتها، وكأن رئيس الجمهورية هو صاحب القرار.
وخلال ساعات قليلة من البيان، وقبل 24 ساعة فقط من إعلان نتائج المرحلة الأولى، عقد رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات مؤتمرًا صحفيًا، أكد فيه أن "الهيئة مستقلة ولها كامل الهيمنة على العملية الانتخابية".
وبعد يومين من إعلان نتائج المرحلة الأولى، شدد مدير الجهاز التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات المستشار أحمد بنداري على أن قرارت إلغاء نتائج الانتخابات في 19 دائرة في محلها، بعدما منح بيان السيسي الهيئة "أريحية" لإصدارها.
بنداري قال "إحنا كهيئة قرارنا صادر بما يرضي الله وإحنا متخذينه وما بنخافش.. بس أكيد القرار له تداعيات، لكن سيادة الرئيس لما طلَّع البيان إدَّى أريحية للهيئة إن هو شايف إللي إحنا شايفينه"، مشددًا على إلى أن البيان الرئاسي يؤكد على استقلال الهيئة والفصل بين السلطات.
وتساءل؛ "هل يعقل إلغاء 19 دائرة في 6 ساعات؟ القاضي لا يخشى إلا الله، والهيئة اتخذت هذه القرارت قبل البيان الرئاسي".
.. وفيتو الرئيس
أثّر بيان الرئيس، وتوجيهات الهيئة الوطنية للمشرفين على العملية الانتخابية، على حجم التجاوزات في الجولة الثانية؛ إذ تراجعت عمليات الحشد القسري وشراء الأصوات أمام اللجان، وسُمح لوكلاء المرشحين وممثلي وسائل الإعلام المصرح لهم بحضور الفرز والحصر العددي في اللجان الفرعية.
وبينما كان الرأي العام منشغلًا بما يجري في بعض الدوائر الساخنة؛ تحدث السيسي مجددًا عن مجريات العملية الانتخابية، ليؤكد أن موقفه إزاء بعض الملاحظات على عملية التصويت كان بمثابة "فيتو" ، اعتراضًا على بعض الممارسات وعدم رضاه عنها.
تقاعس الهيئة فتح الباب للتشكيك فيها، ولهجوم المرشحين وأنصارهم عليها
"فيتو" الرئيس فتح الباب مجددًا للحديث عن التداخل بين أعمال وصلاحيات السلطة التنفيذية والهيئة الوطنية للانتخابات، التي من المفترض أنه لا سلطان ولا وصاية لأحد "أيًا كان موقعه" على قرارها. لا سيما في ظل تاريخ من الثقة الشعبية في الإشراف القضائي على الاستحقاقات الانتخابية، باعتباره الضمانة الأهم في ذهن الناس لنزاهة العملية الانتخابية.
هذا المشهد وما جرى فيه من خلط، يُعيدنا إلى مقال الكاتب الصحفي الصديق محمد بصل في المنصة، الذي دعا فيه إلى ضرورة مراجعة مبدأ "إشراف القضاة" على الانتخابات، لأن نزاهتها وتعبيرها عن إرادة المواطنين بحق، تحتاج في الأساس إلى إرادة سياسية.
هذه الإرادة هي التي ستفتح الباب لمراجعة قوانين الانتخابات، وترفع يد السلطة التنفيذية بكافة أجهزتها عن العملية الانتخابية، وتفتح المجال العام بما يسمح بحرية حركة للأحزاب والمرشحين، وإتاحة مساحات بمنصات الإعلام أمام جميع المتنافسين، ثم منح الجهة المشرفة وبالقانون الولاية على كامل إجراءات العملية الانتخابية على أن تكون أجهزة ومؤسسات الدولة ذات الصلة خاضعة لها، وأن يكون لها الحق في إصدار قرارات حاسمة بشطب مرشحي المال السياسي وغيرهم من المخالفين، ومجازاة موظفي الدولة المعنيين حال مخالفتهم.
الحديث عما يجري من تزوير وشراء أصوات وغيرها من مخالفات، تحوَّل من مجرد كلام مرسل إلى قرارات وأحكام قضائية نهائية وباتة. فحتى كتابة هذه السطور؛ ألغت الهيئة الوطنية والمحكمة الإدارية العليا نتائج 48 دائرة انتخابية من إجمالي 70 شملتهم المرحلة الأولى، وأحيل إلى محكمة النقض 68 طعنًا، ما يعني أن أساس العملية الانتخابية كله ثبت أنه مُفكك ومهلهل، ما يستدعي إعادة النظر في كل ما جرى، والشروع في وضع أسس دستورية وقانونية وسياسية سليمة لبناء المؤسسة التشريعية.
إن امتناع الهيئة الوطنية للانتخابات عن تقديم محاضر الفرز المطلوبة لصناديق اللجان الفرعية إلى المحكمة الإدارية العليا، حتى تتمكن الأخيرة من البت في الطعون المقدمة لها، يُعدُّ إخلالًا من الهيئة بواجبها القانوني، حسبما جاء في حيثيات حكم الإدارية العليا في الطعون الانتخابية. هذا التقاعس فتح الباب للتشكيك في الهيئة، ولهجوم المرشحين وأنصارهم عليها.
لا نلوم هنا أي طرف، لكننا نبحث عن كيفية وضع ضمانات لنزاهة وشفافية الاستحقاقات الانتخابية بما يحقق إرادة الناخبين ويحافظ على استقلال مؤسسات الدولة، وفي الوقت ذاته يصون العدالة ويحافظ على هيبة واستقلال الهيئات القضائية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
