
احتكار البرلمان وترقيع "الكُهَن"!
لا سبيل لانتشال الدولة من دائرة الفشل والإهمال والتردي والفساد سوى بتفعيل آليات الشفافية والمساءلة والمحاسبة، فبدون تلك الآليات تظل مؤسسات ومرافق البلاد مجرد "كُهَن" لا يصلح معها لا الرتق ولا الترقيع.
منَح الدستور البرلمان سلطة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ومساءلتها ومحاسبتها وسحب الثقة منها إذا اقتضى الأمر. لكن إذا كانت السلطة النيابية التي أُوكلت لها تلك المهام تعاني من خلل بنيوي في التكوين، فهل يمكن أن تكون مؤهلةً لممارسة أدوارها الدستورية من تشريع إلى رقابة أو حتى مناقشة أزمات الدولة ومشاكلها بشكل موضوعي وجاد؟
منذ أن عرفت مصر صناديق الاقتراع قبل أكثر من قرن ونصف، ومعظم البرلمانات يجري تستيف مقاعدها سلفًا. فرغم اختلاف الأدوات والآليات، أدارت أجهزة السلطة التنفيذية وهندست معظم الاستحقاقات الانتخابية وفق كتالوج واحد. لكن الفارق أن بعض الأنظمة كانت تتيح شكل من أشكال المنافسة المحسوبة بما يسمح بهامش للمعارضة، تمارس فيه مع بعض وسائل الإعلام واجب النقد والمساءلة تجاه معظم مؤسسات الدولة، عدا تلك التي توصف بأنها سيادية.
هذا الهامش، على ضآلته، كان يفتح نافذة أمام دائرة صانع القرار ليتابع ويتعرف على اتجاهات الرأي العام التي لا ترصدها بدقة تقارير الأجهزة المعنية، ويمنح في الوقت نفسه المجتمع مساحةً للتنفيس وأملًا في التغيير.
لكن بعد تأميم هذا الهامش، واحتكار المجال العام بالكامل، أصبح الأصل هو تفصيل المجالس النيابية على مقاس السلطة حتى صارت ذراعًا لها، تنوب عنها لا عن الناس، وتُشرِّع لصالحها، وتتغاضى عن مثالبها.
الاستمساك بـ"الكُهَن"
في نهاية عام 2021 وبعد سلسلة من حوادث السكة الحديد قَتلت أكثر من 30 مصريًا، وخلال افتتاح مصنع كيما أسوان، انفعل الرئيس عبد الفتاح السيسي على الهواء مباشرة وهو يقول لوزير النقل كامل الوزير "مابيقولش ليه؟ مابيقولش ليه؟ خايف. خايف حتى لو كانت البلد تخرب، عشان الكرسي، يقعد هو، ونخرب فيها ونخليها كُهَن. بلد كُهَن".
وأضاف السيسي "سكة حديد تعبانة وطرق تعبانة ومواني تعبانة، كله تعبان... مافيش، مش فكرة إرادة، لا لا، الناس كانت عارفة كويس العلاج. العلاج عايز فلوس. ولما تحط الفلوس اللي هتاخدها من البنوك، تقدر ترجعها. تقدر ترجعها".
انفعال الرئيس وتصريحاته بَدَوا حينها إشارةً إلى تركة نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي ترك المرافق العامة تغرق في الأزمات، دون أن يضع خططًا لإصلاحها، ما ورَّث الأنظمة اللاحقة دولةً مثقلةً بالعجز والإهمال.
في السنوات العشر الماضية ضخت السلطة مليارات الدولارات في إعادة تأهيل المرافق العامة القائمة، وفي إطلاق مشروعات قومية جديدة، بعضها كنا في حاجة إليه والبعض الآخر كان يمكن تأجيله لعقود دون أن يشعر المواطن بأي نقص.
لم تجد السلطة مبررًا يقنع المواطن بإنفاقها الملياري على مشروعاتها القومية، في الوقت الذي بخلت فيه على المرافق العامة الحيوية التي ظلت تتخبط داخل دائرة التردي والفساد والإهمال.
لم تُساءل الحكومة عن تأخر تطوير وضعف أداء مؤسساتها المهملة عمدًا منذ عقود، فالجهة المسؤولة عن الرقابة والمساءلة والمحاسبة، غُيِّبت على النحو الذي يعلمه الجميع، فظل السوس ينخر في أساس تلك المؤسسات، ولم تفلح التعليمات والتوجيهات الفوقية في وقف تفشيه.
غياب المحاسبة والمساءلة أنتج نوعًا من "الاسترخاء البيروقراطي" تجاه ما يجري من تدهور وتراجع، وحصَّن المسؤولين من النقد؛ فظلت "الكُهَن" على حالها، وظل المسؤولون يدورون في حلقة مفرغة من الإنكار، يرفضون الاعتراف بالإخفاق حتى لو كانت من تداعياته وفاة العشرات على طرق الموت أو في غرف الاختناق.
الانكشاف الذي فضحته حوادث الطريق الدائري الإقليمي وحريق سنترال رمسيس لم يكن مجرد خلل عابر أو صدفة قدرية، بل عرض واضح لتغييب كل أدوات الرقابة والمحاسبة. فما من حكومة أمنت العقوبة، إلا وأساءت التصرف.
حين تُفصَّل قائمة انتخابية واحدة على مقاس المحاسيب يتحوُّل المجلس إلى مكتب خدمات
بعد أن شهدت انتخابات برلمان 2015 محاولات عدد من رموز الحزب الوطني المنحل العودة إلى المشهد السياسي، سُئِل السيسي عن "عودة رجال نظام مبارك من الأبواب الخلفية لإدارة الدولة المصرية" في حواره مع صحيفة الشرق الأوسط، ليجيب بالقول إن "الشعب المصري يتمتع بوعي غير مسبوق وبأكثر مما تتصور، ولن يسمح بالعودة للخلف وأنا معهم، ولا تنسى أن الشعب دفع فواتير التغيير".
قبل عشر سنوات تعهد السيسي بعدم السماح بعودة النظام الذي دفع المصريون فواتير تغييره في 2011. وقبل أربع سنوات حمَّل نظامَ مبارك مسؤولية ما أصاب الدولة ومؤسساتها ومرافقها العامة من ضَعف وتراجع وانهيار، وتعهد بالعمل على إصلاح ما فسد.
لكن مشهد انتخابات برلمان 2015 وما تلاه حتى اليوم أثبت أن النظام لم يغادر، بل عاد بشكله ومضمونه تحت أسماء مختلفة. فحين تُفصَّل قائمة انتخابية واحدة على مقاس المحاسيب، وتُهندس العملية السياسية لتُنتج برلمانًا بلون واحد، تغيب التعددية، ويختفي النقد، وينتهي الدور الرقابي، ويتحوُّل المجلس إلى مكتب خدمات تابع للحكومة.
لم يكن أحد يتخيل أن يُغلق باب الترشح في انتخابات مجلس الشيوخ المرتقبة، ولا تتقدم للمنافسة سوى قائمة انتخابية واحدة، تضم الموالاة والمعارضة. من يهندسون العملية الانتخابية لم يراعوا حتى الشكل الذي كانت الأنظمة السالفة تراعيه.
دولة تعمل دون برلمان يسائل حكومتها وصحافة تراقب مؤسساتها لن تنجح في أي مواجهة. وإذا استمرت حالة الانغلاق وإغلاق مساحات النقد والنقاش وتداول الرؤى وتفعيل آليات المحاسبة البرلمانية والمساءلة المجتمعية، بينما يحيط بنا عدوٌ لا يخفي مخططاته مترقبًا لحظة اضطرابٍ لينقض، فإن بلادنا ستدفع ثمنًا غاليًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.