بهدف التوافق على "رؤية المرحلة القادمة والتباحث حول الخريطة السياسية في ظل وجود الكثير من الاستحقاقات الانتخابية خلال الفترة المقبلة"، دعا حزب مستقبل وطن نهاية عام 2019 عددًا من الأحزاب السياسية للمشاركة فيما أُطلق عليها حينها جلسات الحوار الوطني للأحزاب السياسية.
أحزاب المعارضة التي شاركت في ذلك الحوار؛ طالبت بالتوافق أولًا على مجموعة من "الضمانات والقواعد" التي تمثل إطارًا مرجعيًا للمناقشات، وشروط لخوض الاستحقاقات الانتخابية التي كانت على الأبواب حينها.
كانت أول الضمانات التي طالبت بها أحزاب المعارضة قبل انطلاق جلسات حوار "مستقبل وطن"، الإفراج عن كوادر الأحزاب الذين تم حبسهم إثر سعيهم لتأسيس تحالف انتخابي أطلقوا عليه "تحالف الأمل" لخوض انتخابات البرلمان.
أما الضمانة الثانية فكانت الاتفاق على نظام انتخابي عادل يسمح بتمثيل كافة أطياف المجتمع ويتسق مع مبدأ التعددية والتنوع، وتمسكت أحزاب المعارضة برفض نظام "القائمة المطلقة المغلقة" التي تهدر نحو نصف أصوات الناخبين وتجعل البرلمان بغرفتيه منبرًا للصوت الواحد والرأي الواحد.
فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي أبدى حينها مخاوفه من أن يكون الغرض من مشاركتهم في هذا الحوار هو "تجميل المشهد وصناعة ديكور يوحي بأن أحزاب المعارضة شاركت فى مناقشات تعديلات قوانين الانتخاب، مثلما حدث مع التعديلات الدستورية".
ورغم ذلك شارك زهران ومعه عدد من قادة الأحزاب فى هذا الحوار، عسى أن يكون لدى السلطة وذراعها النيابي رغبة صادقة فى الإصلاح كما بشر بعضهم "ما زلنا نحمل الأمل فى أن تنجو بلدنا من أزمتها وتعود لرشدها، وترجع لمسار التحول الديمقراطي الذي ابتعدت عنه كثيرًا في السنوات السابقة، بكل أسف"، قال زهران في الجلسة التحضيرية الأولى للحوار.
ممثلو أحزاب الوفد، والمصرى الديمقراطي الاجتماعي، والتجمع، والمحافظين، والمؤتمر، والإصلاح والتنمية، والعدل اتفقوا بشكل مبدئي مع أحزاب الموالاة على تشكيل لجنة من خبراء السياسة والقانون لوضع مقترحات لتعديل قوانين الانتخابات بما يضمن تمثيل ملائم لكل القوى الوطنية في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وعد ممثلو مستقبل وطن ببحث طلبات أحزاب المعارضة وعرضها على "أصحاب القرار"، وبعد مداولات مطولة وأخذ ورد، انتهى الأمر بتقدم حزب الأغلبية بمشروع لتعديل قوانين الانتخاب تضرب فكرة التمثيل العادل أو الملائم في مقتل، ومرَّر البرلمان التعديلات المقدمة التي تم تفصليها خصيصًا على مقاس الموالاة ليستمر البرلمان بغرفتيه ذراعًا للسلطة التنفيذية وصوتًا لها، يمرر ما تريد ويغض الطرف عن أخطائها وإخفاقاتها.
وأد وتسويف
وكما جرى وأد الطلب الخاص بتعديل قوانين الانتخاب، تم التسويف في الطلب الثاني الخاص بإخلاء سبيل كوادر الأحزاب المحبوسة احتياطيًا على ذمة عدد من القضايا، حتى خرج بعضهم على دفعات قبل أن تبدأ جلسات الحوار الوطني الجديد الذي دعا له رئيس الجمهورية نهاية أبريل/نيسان 2022.
ورغم ما أبداه قادة الأحزاب والتيارات السياسية التي شاركت في هذا الحوار من صلابة ورفض لكل محاولات الالتفاف على شروطهم، قَبل هؤلاء في النهاية بالفتات الذي عُرض عليهم، وانضموا مع خصمهم السياسي في قائمة "دعم مصر" التي تشكلت على أساس نظام القائمة "المطلقة المغلقة" التي أعلن المشاركون من أحزاب المعارضة مرارًا رفضهم لها، لأنها تهدر إرادة أكثر من نصف الهيئة الناخبة التي تمثل المصريين.
لم تضع المعارضة في حساباتها قبل دخولها حوار 2019 التجارب السابقة
الأغلبية البرلمانية التي صمَّمت قانون انتخابات مجلس النواب على أساس نصف للفردي والنصف الآخر لنظام القائمة المطلقة المغلقة لم تلتفت لمشروع قانون آخر تقدمت به كتلة "25-30"، وصادرت حتى على حق نواب المعارضة في إبداء الرأي على مشروع القانون الذي قدمه النائب عبد الهادي القصبي رئيس ائتلاف دعم مصر.
نواب السلطة في البرلمان الماضي أصروا على غلق الطريق أمام نظام القوائم النسبية، بهدف تهميش الأحزاب وقطع الطريق على أي فرصة للتقدم نحو الإصلاح الديمقراطي التدريجي القائم على المنافسة بين البرامج السياسي، وهو الطريق الذي يحول دون اندلاع الثورات أو الانفجارات الاجتماعية.
الإقصاء والتهميش يناقضان فلسفة الدستور القائمة على المشاركة والتعددية الحزبية وتداول السلطة، وهو ما يعني أن السلطة ونوابها وأحزابها لا يقيمون وزنًا للدستور الذي وافق عليه أغلبية الشعب المصري، وقاموا هم بتعديله ليضمن استمرارهم وبقائهم في مناصبهم.
لم تضع المعارضة في حساباتها قبل دخولها حوار 2019 التجارب السابقة، إذ دارت مساجلات ومناقشات شبيهة حول النظام الانتخابي الأمثل قبيل انتخابات 2015، وانتهت بحسم الأمر لصالح القائمة المطلقة المغلقة بدعوى أن نظام القائمة النسبية قد يحكم عليه بعدم الدستورية رغم أن النص الدستوري أجاز أي نظام انتخابي "يجوز الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي، أو بالقائمة أو الجمع بينهما بأي نسبة".
أخشى من متابعة أولى جلسات المحور السياسي في الحوار الوطني في نسخته الجديدة لعام 2023، أن يتكرر ما جرى في النسختين السابقتين (2014 و2019)، وتُستخدم أحزاب المعارضة والشخصيات العامة المشاركة في تجميل المشهد وإضفاء شرعية التوافق على النظام الانتخابي الذي تسعى السلطة إلى تمريره.
معظم من تحدث في تلك الجلسة من ممثلي السلطة وأحزاب الموالاة وبعض أحزاب المعارضة التي دخلت في حظيرة النظام انحازوا إلى نظام "القائمة المطلقة" لأنها وحدها، من وجهة نظرهم، القادرة على تحقيق النص الدستوري الذي ألزم الدولة بتمثيل ملائم للمرأة والشباب والعمال والفلاحين والمصريين بالخارج في البرلمان.
تجارب الماضي أثبتت أن النظام الفردي في الانتخابات يأتي بنواب من رجال أعمال وأعيان ورؤوس عائلات قادرون على حسم المعركة الانتخابية عبر المال السياسي دون برنامج انتخابي يقدم حلولًا للأزمات والمشاكل. لم يكن على أجندة تلك الفئة من النواب تشكيل حكومة، أو المشاركة في وضع وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية، والموازنة العامة، أو حتى مراقبة أعمال السلطة التنفيذية.
يسعى هؤلاء إلى تقديم وتسهيل بعض الخدمات لأبناء دوائرهم وتحصيل ما دفعوه مقابل مقاعدهم النيابية، ينحازون إلى السلطة التي تحقق لهم ما يسعون إليه، يبدلون الولاءات من نظام إلى نظام، بوصلتهم الوحيدة هي المصلحة الخاصة.
أما النظام المختلط الذي يجمع بين الفردي والقائمة المطلقة، الذي تم اتباعه في الاستحقاقين الانتخابيين الأخيرين فأنتج برلمانًا يمثِّل السلطة ويحافظ على بقائها ويحقق مصالحها، إذ أن تشكيل القوائم المطلقة القادرة على الحصول على نصف أصوات الناخبين صار حكرا على الأجهزة التي تهندس العملية الانتخابية برمتها، ودوائر الفردي الواسعة لا تناسب سوى أصحاب الأموال والقدرات الهائلة، ولا عزاء للأحزاب أو الكوارد السياسية والخبرات القانونية.
من يظن أن الحوار الوطني الذي بدأت جلساته قبل أيام قد يحدث تغييرًا جذريًا في النظام السياسي بما يفتح الباب أمام مشاركة حقيقية ومنافسة انتخابية حرة ونزيهة ينتج عنها تداول سلمي للسلطة فهو حالم. فالسلطة القائمة باقية ومستمرة في سياستها وتوجهاتها، ولا يوجد أي مؤشر على أنها تنوي مراجعة ما جرى السياسات التي أوصلتنا إلى من نحن فيه.
الحدود الدنيا التي يمكن أن تحول جلسات ومناقشات هذا الحوار من "مكلمات" تهدف إلى صناعة مشهد ديكوري إلى نتائج مقبولة، هي أن يتم توسيع هامش الحرية وتحسين المناخ السياسي القائم بما يسمح بوجود صحافة حرة تنقد وتراجع دون خوف من الملاحقة والسجن، وبما يتيح وجود نواب يمثلون المعارضة بغرفتي البرلمان لفرملة القرارات والقوانين التي تتصادم مع مصالح المواطنين، وذلك لن يتأتى إلا بتعديل الممارسات والتشريعات المسيطرة على المنظومة الإعلامية، وتعديل قوانين الانتخابات البرلمانية وكف يد الأجهزة التي تتدخل في إدارة الاستحقاقات الانتخابية.
لو تحقق هذان الهدفان: إتاحة فرصة لصناعة محتوى صحفي به الحد الأدنى من الحرية والتنوع، وتشكيل برلمان به الحد الأدنى من التعددية والتمثيل الحزبي، يمكن حينها القول إن البلاد وضعت قدمها على أول طريق الإصلاح الديمقراطي، أما إذا انتهت الجلسات برفض كل مقترحات المعارضة والتشبث بما هو قائم فلنبشر جميعًا بسوء نهاية.