هل نحن أمام انتخابات رئاسية بجد؟ الإجابة بالقطع لا.. طيب هل أحد من المحسوبين على المعارضة أو السلطة ادَّعى أو ورد على لسانه ما يفيد بأنه يرى هذه الانتخابات حقيقية، بمن فيهم مرشحي الرئاسة المحتملين؟ الإجابة أيضًا لا. هل نما إلى مسامعك أنَّ مواطنًا في أقصى الصعيد أو أعماق الدلتا يأخذها على محمل الجد؟! لا نافية.
من هنا ينطلق حديثنا.
نحن أمام إجراء اضطراري بحسابات السياسة في بلادنا. فمعنى الإجراء وأفقه، والسياق الاجتماعي والاقتصادي الذي يحدث في إطاره، يحددان مستقبله ونتائجه.
سقف المفاجآت محدود باتساع التجارب السابقة ومعاصرة أحداثها، ولكنَّ أحدًا لا يقرأ الماضي القريب جيدًا، ولا بشكل سطحي، وربما لا يعرفه لحداثة سن أو منصب، وهنا مكمن القلق.
أنهار كثيرة جرت في الأرض بعد 2011. وصار لزامًا لتوقع المستقبل تدبر هائل للماضي، وفهم عميق للحاضر، واقتراب كبير من الواقع، لأنَّ التاريخ لا يعيد نفسه، والصور الجديدة ستكون نتاج حاضرها. سهل أن تشاهد وتعرف، صعب أن تفهم وتتنبَّأ.
منع الإرادة يختلف عن تزويرها
بداية، لم تعرف مصر في تاريخها الحديث في أي انتخابات منعًا مسبقًا لإرادة الناخبين، ولكنها عرفت واختبرت في أغلب الاستحقاقات تزوير الإرادة لاحقًا في أعقاب التصويت، والفرق هنا شاسع. في الثانية يظل باب الاحتمالات مفتوحًا لدى الجمهور، يصطفي كلٌّ منهم الذريعة التي يتجرع بها شربة التزوير، وينام بها مرتاح الضمير.
يظل احتمال أنَّ المرشح الفلاني لم يجمع الأصوات الكافية واردًا، تمامًا كاحتمال أنَّ الآخرين استعملوا نفوذهم بعيدًا عن سلطة الدولة المركزية بنظرية "الراجل حلو واللى حواليه وحشين"، ومعهما احتمال قوة المرشح المنافس ونفوذه المادي داخل الدائرة.
في النهاية مرهم تلييس الجراح موجود، بل قد يلوم النفر من هؤلاء نفسه لأنه كان سلبيًا ولم يشارك من الأصل، وربما كل دائرته القريبة، وبالتالي يصبح الكلام عن التزوير مشوبًا بالخجل من الذات وعدم المصداقية، فربما بالفعل اختار الجميع السلبية، وبالتالي نجح من لا يرغبون أو مرَّ الاستفتاء الذي لا يحبذون، صار بشكل أو بآخر شريكًا في الضغينة.
المنع المسبق للإرادة ليس له سوى معنى واحد، أما التزوير فاحتمالاته كثيرة.
الوظيفة في مواجهة السياسة
الانتخابات هي موسم استنفار طاقات الدولة كموظف عمومي كبير؛ استدعاءٌ لماكينة تستيف الأوراق وتدوير الأحداث، داخل الأنابيب الإدارية المصمتة المصممة بعناية لتبتلع الغرباء وغير المرضيِّ عنهم داخل متاهاتها. محفوظات عتيدة من اللوائح والقوانين، واتصال بالشبكات الاجتماعية الضخمة والمتشعبة في كل أحياء القرى والمدن عن طريق الجمعيات الأهلية، سواء المدنية منها أو السلفية، الحكومية أو الخاصة.
كلُّ ما هو سياسي في مصر تضعضع وتعضعض وتآكل. لم تعد هناك نواة صلبة سياسية تدير وتفكر
قنوات مفتوحة وأواصر ممدودة مع المهنيين من خلال نقاباتهم وتجمعاتهم، معرفة ودراية وأحيانًا إدارة لخريطة البلطجية المعششة في أركان الوطن، والذين بلغوا مؤخرًا مبلغًا لم يصلوا إليه قط، فصار منهم رؤساء تنفيذيين لشركات كبيرة ونجوم مجتمع ومسؤولين بأندية (مش موضوعنا دلوقتي)، وأبواق مفتوحة في طبلة أذن الناس من خلال الدعاة الموظفين في الزوايا والمساجد، روافد لا تنضب للمال من كل حدب، وعلاقات مصالح مع حائزيها.
كل هذا جميل، كله رائع، كان موجودًا دائمًا، يتغير شكله فقط مع تغيُّر الأنظمة وأولوياتها، ولكنَّ الثابت دائمًا أنَّ الدولة كانت مرتكزة إلى نظام سياسي يدير وينظم عمل تروس الدولة الموظفاتية. حتى المسؤولين الأمنيين كان لديهم ذلك الحس السياسي في توجيه التعليمات، واستخدام الروابط والمجندين والأصدقاء، والذي كان يحكم أيضًا إدارة عداواتهم وعلاقاتهم بخصومهم، وهو بالضبط ما تفتقده السلطة الحالية منذ نشأتها وسريانها في العشرية الأخيرة.
فكلُّ ما هو سياسي في مصر تضعضع وتعضعض وتآكل. لم تعد هناك نواة صلبة سياسية تدير وتفكر، لم يعد هناك إعلاميون وصحفيون بفهم سياسي، أو أمنيون بروح سياسية، أو مسؤولون بعقل سياسي، أو مخبرون بحس سياسي، أو رجال أعمال بقلب سياسي، أو أحزاب بها سياسيون، أو فكرة سياسية، نقابة، تجمع أو جمعية، سفلية، علوية، مكتب أمن دولة، قسم شرطة، أي شيء، أي حاجة، لم يعد في مصر كائن وحيد الخلية يحمل جينًا سياسيًا.
هنا مكمن الخطر، هنا منبع الأذى. فاتحاد الموظفين الأمني/الشهر عقاري قد يمنع إجرائيًا شخصًا ما من الترشح، ولكنه لن يُخرِج المشهد، لن يضع خيارات تحقيق هذا المنع ثم يختار من بينها أحسنها مستخدمًا أفضل الأدوات. لن يتوخى الحذر ولن يترقب النتائج، لن يرهق نفسه في التفكير للحظة واحدة في تأثير الطريقة المستخدمة على جموع الجماهير وحالة البلد ومستقبل النظام والدولة، فكل ما سبق هو مهمة السياسيين، وفي غيابهم تتخذ القرارات علاولة، وتصير نتائجها في علم الغيب، فالموظف مُهندَّسٌ على تستيف أوراقه، ويُحاسب على ذلك وحسب، وفقط، وبس.
مشهد قديم
في عام 2007 ومع تأسيسنا حزب الجبهة الديمقراطية، انضم عدد كبير من الشباب للحزب. لم يكن الأمر أيديولوجيًا بقدر ما كان نافذة للتعبير عن الرغبة في التغيير، ووسيطًا سياسيًا لغرض احتجاجي.
بُني الحزب تنظيميًا بقدر معقول، ولكنه لم يتمكن من ممارسة السياسة كما يعرفها العالم. وفي سياق متصل مارس شباب الحزب وكباره أفعالًا احتجاجية سلمية في إطار مؤسسي وقانوني يُسمَّى الحزب، فالأجواء المسيطرة الحاكمة لا تُمكِّنك كحزب من نزول انتخابات، وإنما الاعتراض على إدارتها وسياقها، ولا تُمكِّنك من طرح وتنفيذ أفكار وسياسات بديلة، وإنما فقط الاعتراض على ما يُنفَّذ منها.
أحمد الطنطاوي بالنسبة لهم ليس مرشحًا رئاسيًا، ولكنه كان مرشحًا احتجاجيًا
أنت على مسافة كبيرة من المشاركة وفي مساحة إجبارية للاعتراض، وفي سياق أوسع لاحقًا سُمِّيَّ الإطار الجامع لنوبة الاحتجاج الجديدة بالجمعية الوطنية للتغيير، التي تأسست مع الطلة الأولى لعام 2010 لتضمَّ أحزابًا سياسية وشخصيات عامة، وتأسس في كنفها شباب الجمعية الوطنية للتغيير وحملة طرق الأبواب، وكانت بالمصادفة تعقد أغلب اجتماعات أمانتها العامة في مقر الحزب الرئيسي في المهندسين.
قد يبدو لك عزيزي القارئ أنَّ الجمعية الوطنية للتغيير، بشبابها وشيوخها، تجمع جديد، ولكن الحقيقة أنها كانت شكلًا جديدًا لتجمعات قديمة تمارس أفعالًا مستحدثة، فالأَنْوِية الرئيسية للجمعية وشبابها كانت من التجمعات القائمة بالفعل لأحزاب الجبهة والغد والتجمع والكرامة وغيرها، مع ما أضيف إليها من مجموعات استجدَّ حضورها إلى العمل العام لاحقًا، مع حملة دعم البرادعي، التي نفخت أبواق عزمها مع عودته من الخارج في مستهل عام 2010.
صورة حديثة
تمر السنوات، وينغلق الباب أمام العمل السياسي بضبَّة ثقيلة ومفتاح، وتتعثر بل وتنتهي كل المحاولات المدنية لبناء مشروعات سياسية حزبية في ظل إغلاق تام للمجال العام بعد 2015، وتنزلق من رحم الأزمة والقفلة حملة انتخابية لمرشح محتمل لا تريده الدولة أن يصبح رسميًا.
يلتقط غرباء في المركز والأطراف الإشارة دون نداء، فرغم عزوف عموم الناس عن السياسة طوال السنوات الفائتة، وابتعاد السياسيين عنها أيضًا، يقرر بعض هؤلاء الناس تبنِّي هذا المرشح بالذات والعمل في حملته والسعي لجمع التوكيلات له، وهم يعلمون جيدًا أنَّ المخاطر ستحيط بهم من كل جانب، وأنهم عرايا من أي حماية، بل ومستباحون تمامًا في أيِّ لحظة طوال فترة مشاركتهم في الحملة.
مواطنون يحتشدون لتأييد أحمد الطنطاوي أثناء مساعيه جمع توكيلات ترشحّه لانتخابات الرئاسة
من تطوعوا يعرفون جيدًا الغرض من العمل الذي يقومون به، بمعنى إدراك طبيعة اللحظة وفهم السياق العام الذي تدور الأمور في حدوده، فهذه ليست انتخابات، ولو كانت كذلك لكرسوا جهودهم للتصويت لأحد المرشحين الذين سيحملون صك الرسمية بتوكيلات نواب البرلمان، ولكنهم قرروا ممارسة فعل الاحتجاج السلمي من خلال الحملة، وإجراءات جمع التوكيلات المتعثرة والممنوعة تقريبًا.
إنه مجرد فعل احتجاجي يمر من خلال إجراء سياسي، يرفعون به أصواتهم عالية لعلَّ وعسى أن يصل لمسامع حكيم، كما أن أحمد الطنطاوي بالنسبة لهم ليس مرشحًا رئاسيًا، إذ لم يكن عاقل في مصر يتصور أنه سيصبح مرشحًا رسميًا، ولكنه كان مرشحًا احتجاجيًا، أو بمعنىً آخر صوت احتجاجي في صورة مرشح رئاسي يحظى بحصانة ترشحه، ولهذا وقع اختيارهم عليه بالذات لدعمه، وهو يعلم وهم يعلمون أن الأمر كله سينتهي خلال أسبوعين مع غلق باب الترشح واستبعاده، ولكن بالنسبة لأعضاء الحملة الذين هم من عموم الجمهور، فالرسالة وصلت؛ لدينا مشكلة كبيرة معكم وعليكم أخذها على محمل جاد.
لم ألتقِ أحدًا من حملة أحمد الطنطاوي، ولكنّي أعرفهم جميعًا، أعرفهم جيدًا، التقيت بصورهم من قبل في كلِّ محافظات مصر. شباب وشيوخ بعيدون عن المركز وما يمثله وما يضمنه، ليسوا في بؤرة صنع قرار، ولا تشملهم أي دائرة حماية، ولا قلب مجموعة. لا سيطًا ولا غنىً، بل وعيًا متقدًّا حللت به راداراتهم الأحداث، فبادروا بالفعل والقول.
رسائل قديمة حديثة
ليست المرة الأولى التي يقرر فيها المصريون إرسال جوابات مصمتة محملة بلوم أو احتجاج أو صراخ أو اعتراض أو زهق أو ملل أو كيل طفح عبر إجراءات انتخابية. فعلوا ذلك مرارًا وتكرارًا في مرات سابقة لعل أهمها وأبرزها وأكثرها سطوعًا وجلالًا تصويتهم العقابي ضد أعضاء الحزب الوطني في انتخابات مجلس الشعب عام 2005، حتى اضطرت الدولة وقتها التدخل بعنف مفرط لحسم نتائج الجولتين الثانية والثالثة بعدما صدموا من نتائج الجولة الأولى.
ولم يمر وقت طويل حتى تحوَّر هذ التصويت العقابي إلى احتجاجات عمالية متتالية في 2006 و2007، ثم أحداث المحلة 2008، وتضامن وتعاطف ومساندة لكل حركة وفعل احتجاجي بداية من كفاية وصولًا للجمعية الوطنية للتغيير. ولكنَّ نظام مبارك صمَّ آذانه تمامًا عن أصوات الناس، وهندس أحمد عز، مندوب جمال مبارك في إدارة شؤون الحزب الوطني، انتخابات 2010 لتأتي بمجلس شعب مكتنز عن آخره بنواب الحزب الوطني، وما حدث بعد ذلك يعرفه الجميع.
مستقبل قديم يدق أجراس الخطر
لا أعتقد أن أحمد الطنطاوي مشروع سياسي سيكتمل مساره بحزب أو ما شابه، ولا أراه مثقلًا بتجربة تنظيمية تعينه على الاستمرار، ومثل كثيرين غيري لا أراه يحمل من الأفكار ما يجعله جاذبًا لبناء مشروع، بل على العكس تمامًا؛ طبعة جديدة لسيرة قديمة، قوامها الاحتجاج السلمي المغلف بريش سياسي وإجراءات انتخابية.
ليحذر الجميع، فمنع إرادة الناس لن يمر. أكرر: لن يمر. آجلًا أو عاجلًا لن يمر
لم تعرف مصر سوى هذه السيرة بعد 1952، حيث حاربت كل الأنظمة التي حكمت مصر كل ما هو تنظيم سياسي مدني، ثم تعاونت أو تسامحت أو تعامت أو ساندت ودعمت التنظيمات السياسية الدينية، فصارت كل الأحزاب والتنظيمات ذات الصبغة المدنية في نهاية الأمر إلى ذات المصير؛ احتجاجًا من خلال آليات سياسية، لأنه غير مسموح لها بممارسة سياسية حقيقية.
نهايته؛ مخطئ من يعتقد أو يتعامل مع هذه الانتخابات بطريقة تمرير الوقت أو التجاوز، مخطئ من يظن أنَّ العين الحمراء التي يمكن أن تُطلق شرارها بعد الانتخابات ستعيد الأمور إلى سيرتها الأولى. مخطئ من يتصور أن مصلحة النظام ستتحقق بغض الطرف أو إنكار الحالة التي وصل لها الناس والبلد، وتعس من يتجاهل الإشارات، فهي لم تكن واضحة جلية صارخة في تاريخنا الحديث كما هي الآن.
وليحذر الجميع، فمنع إرادة الناس لن يمر. أكرر: لن يمر. آجلًا أو عاجلًا لن يمر. وأوجه كلامي للسلطة، لمن يعمل فيها، لمن يتواصل معها، لمن يهمه أمرها، لمن يعنيه أمر الوطن، لمن يعنيه أي شيء في هذه البلد؛ مصالحه، سلطته، الاستقرار، الأمان، الاقتصاد، الاجتماع، المواطن الفقير، الغني؛ الآن وبعد هذه الإجراءات، وبعد هذه التصرفات، وبهذا الواقع، وبالتراكم الحديث والقديم، هناك خطر كبير محدق على الأبواب يطل برأسه من كل ثقب.
نحن في خطر، هناك خطر، يوجد خطر، وعليكم المبادرة بعلاجات وإصلاحات وتغييرات حقيقية وصادقة ونوعية وكبيرة، أكرر: صادقة وحقيقية ونوعية وكبيرة.