على مقهى بسيط يتصاعد منه دخان الأراجيل وبخار الشاي الأسود، تحت محطة قطار بقرية نائية، يسأل فلاح بصوت جهوري عن موعد "الاستنخاب" الرئاسي، فيلتفت إليه الجالسون دون عناية، ولا يجيبه أحد.
لم ينطق الرجل الكلمة كالمثقفين والنشطاء السياسيين والمتعلمين عمومًا، "انتخابات"، إنما استخدم لغة أهل القرى حين يتحدثون عن مختلف أشكال الاقتراع التي تمر بها البلاد، بما فيها الاستفتاءات مضمونة النتائج.
توقفت عند اللفظ الذي تفوه به الرجل، فوجدته يصيب عين الحقيقة دون أن يدري قائله، الذي لا يعرف على الأغلب أن حرفي "الألف" و"السين" إن دخلا على فعل، يمكن أن يدلّا على الجبر والإكراه والعنوة، أو التطويع القسري لتصرف أو سلوك. لم يكن الرجل يدرك هذا بالطبع، إنما تحدث بما تهديه الفطرة للسان، وصار ساريًا في العقل الجمعي للمصريين.
فالمصريون على مدار السنين لم يعرفوا "انتخابًا" بالمعنى الذي يعكس إراداتهم الحرة إلا مرات قليلة، معزولة، تفصل بينها أزمنة طويلة من الإكراه، الذي يعود مرة إلى تهديد السلطة ذات العين الحمراء، وأخرى إلى التزام العائلة الممتدة أو القبيلة، وثالثة إلى العوز، حيث يجدون في بعض الرشى الانتخابية، مالية أو عينية، فائدة عابرة، هي في نظرهم أفضل من العدم.
يرى خبراء وقطاع من المواطنين، أن المرشحين الثلاثة يخوضون السباق مع السيسي وليس ضده
في فترة ما قبل يوليو 1952 لم يتمكن المصريون من فرض اختيارهم بالتصويت للوفد، حزب الحركة الوطنية وضمير الأمة المصرية وقتها، سوى لفترة محدودة، وصل فيها هذا الحزب إلى الحكم، ثم أُسقط سريعًا، ليرميه "تزوير الانتخابات" بعيدًا عن المكان الذي كان يجب أن يشغله على الدوام.
طقس فلكلوري حزين
بعد يوليو/تموز 1952 تحولت الانتخابات إلى شيء من الفلكلور الحزين؛ ترى الناس محتشدين لأداء طقسه، دون أن يثمر ذلك ما يعبر عن موقفهم أو يحقق مصالحهم، لتظل انتخابات البرلمان عام 1976 والرئاسة عام 2012 حدثين استثنائيين، ليس بوسعهما تقديم أي شيء من طبابة لجرح نازف على الدوام، بسبب طعنات الاستبداد التي تتوالى بلا هوادة.
يضاف إلى هذا ما كان يستطيع بعض الناخبين بدوائر معينة تحقيقه، حين يلتفون حول مرشحهم، مقتنعين به ومستعدين للدفاع عنه في مواجهة التزوير والتلاعب. وكانت أجهزة الأمن نفسها تقف عاجزة، أو متخوفة من إثارة اضطراب، إن تم إعلان فوز مرشح غير الذي اختاره الناس بغزارة، فكانت توصي بإعلان فوز من يستحق.
ويحضر إلى الذهن في هذا المقام انتزاع ممتاز نصار وعلوي حافظ وعادل عيد وحمدين صباحي مقاعدهم البرلمانية من أنياب الضباع، بفضل العزوة التي التفت حولهم، فيما كانت السلطة تأمل ألا ترى أيًّا منهم جالسًا على مقعد في البرلمان.
لاحت الفرصة بعد ثورة يناير، التي كان كثيرون يرون أنها يمكن أن تكسب معركتها بالنقاط لا بالضربة القاضية، طالما أنها تضمن انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية منتظمة، يشرف عليها القضاء، وتعلن نتائج الفرز في اللجان الفرعية.
لكن هذا الأمل سرعان ما خاب، فبعد إنتاج برلمانيين متلاحقين في 2015 و2020، أمسكت السلطة، عبر أجهزتها الأمنية خصوصًا، بالقنوات والمسارات والمسارب التي يمر بها كل من وصل إليهما، سواء عبر القائمة المطلقة المغلقة، أو حتى التنافس الفردي.
وزادت الخيبة إثر تعديل الدستور عام 2019 بما رفع مدة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات، ليضيف للرئيس عبد الفتاح السيسي سنتين إضافيتين على مدته الثانية، ثم يعطيه حقًا شكليًا للترشح لفترة ثالثة، بل يطلق الهواجس في نفوس كثيرين حيال إمكانية تعديل الدستور مرة ثانية، ليستمر الرئيس في الحكم.
هذه الهواجس لم تقتصر على الأغلبية من عموم الناس، بل إن أشخاصًا بارزين في النخبة السياسية يتحدثون عنها بوضوح، مثلما رأينا في بيان أصدره رئيس حزب "الإصلاح والتنمية" والبرلماني السابق محمد أنور السادات، الذي تردد من قبل إنه راغب في خوض الانتخابات الرئاسية؛ إن توافرت لها شروط الحرية والنزاهة.
تزوير المقدمات بدل النتائج
خاض السيسي استحقاقين دون منافسة حقيقية، وها هو يتمتع بالوضع نفسه في الاستحقاق الثالث، إذ يرى العارفون بالشؤون السياسية، بل وقطاع عريض من المواطنين، أن المرشحين الثلاثة الذين يخوضون السباق، معه وليس ضده، يؤدون أدوارًا مرسومة بعناية. فيما يطلق عليه البعض "مسرحية سياسية" كُتب السيناريو لها، ووُزعت الأدوار، ليصبح مؤدوها عبارة عن بطل واحد، ومجموعة من لاعبي الأدوار المساعدة، أو "الكومبارس"، كما يحلو لكثيرين أن يصفوهم.
لم يخطئ الرجل البسيط الذي سأل عن موعد الانتخابات الرئاسية حين سمَّاها "الاستنخابات"
يتم هذا كله وفق الصيغة التي سيقت إليها الانتخابات المصرية، والقائمة على التحكم في مدخلات العملية برمتها، بما يجعلنا ننتقل من "تزوير النتائج" الذي كان يتم أيام مبارك، بتسويد البطاقات وتقديم الرشى وإعلان فوز من حددته السلطة بغض النظر عن النتائج الحقيقية، إلى ما يمكن أن نصفه بـ"تزوير المقدمات"، ويعني استبعاد كل منافس حقيقي منذ البداية لذرائع متنوعة، ساهمت بعض القوانين التي سنتها السلطة السياسية خلال السنوات الأخيرة، في تكريسها.
تحولت "الانتخابات" التي كانت تحمل معنى "الاختيار"، وإمكانية التغيير الطوعي السلمي، إلى "استنخابات" حسب اللفظ الشعبي الدارج، على ألسنة الفلاحين في القرى، والمهمشين في الشوارع الخلفية للمدن. فأنماط الإجبار وأصنافه متنوعة، تفرض على الناس ما لم يرغبوا فيه، سواء من الشخصيات أو السياسات.
هذا الإجبار يقوم على أربعة أعمدة: الأول هو استبعاد كل من يسلك دربًا مستقلًا وحرًا مخالفا للسلطة من خوض الانتخابات، فإن تمكن أي من هؤلاء من ولوج العملية الانتخابية بشكل أو بآخر مورس ضده الاستهجان والتشويه، الذي يصل أحيانا حد التهديد، وجاءت النتيجة في النهاية على النقيض مما يريد أو يتوقع هو أو أنصاره.
والثاني هو حزمة القوانين التي سُنت فحرمت البعض من الترشح، مثل القانون الذي يمنع العسكريين السابقين، وأيا كانت المدد التي تفصلهم عن ترك الخدمة بالجيش، من الترشح إلا بالحصول على تصريح من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهناك أيضًا القانون الذي يمنع كل من صدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف، حتى لو رد إليه اعتباره، ناهيك عن قوانين أخرى تفصيلية تهندس العملية الانتخابية نفسها على المقاس الذي تريده السلطة.
أما الثالث، فهو استعمال سلاح النفع في تمرير الأتباع، وإبعاد المعارضين. وهذا الأسلوب المعوج ممتد في الحياة السياسية المصرية عبر عقود طويلة، لكنه كان في الماضي متروكًا لقدرة المرشح الفردي في كل دائرة على شراء الأصوات. أما اليوم فإن هذه المسألة مربوطة بحبل قوي مشدود إلى نقطة مركزية، تجعله سلوكًا عامًا للنظام السياسي كله.
والعمود الرابع راسخ في السياسة المصرية إلى حد بعيد وعميق وواسع، إذ يتم استعمال كل إمكانيات الدولة في خدمة السلطة السياسية، سواء كانت الأجهزة الأمنية أو المؤسسات والهيئات الإدارية والمنابر الإعلامية والدعائية أو أموال الميزانية العامة، في إخراج نتيجة الانتخابات على نحو يضمن للسلطة استمرارًا، بغض النظر عن موقف الشعب منها.
لكل هذا، لا يكون الرجل البسيط الذي سأل عن موعد الانتخابات الرئاسية بمخطئ حين قال عنها "الاستنخابات"، فهي عملية تجري قسرًا، في كل الأحوال، سواء جاء هذا القسر بالإكراه السافر، الذي يصل حد استخدام البلطجة، أو بالإكراه الناعم من خلال الرشى الانتخابية أو التلاعب بالعقول، لا سيما في فترات الاقتراع أو الاستفتاءات.