مع فتح الحديث مبكرًا عن انتخابات الرئاسة، يحصر كثيرون شروط سلامتها في إشراف قضائي نزيه، وحرية إعلامية مصاحبة، وشفافية في إعلان النتائج، وتمكين المرشحين المنافسين لرئيس الجمهورية الحالي من خوض الانتخابات أولًا، ثم عدم تقييد أو تخويف أنصارهم ثانيًا.
ولكن هناك مسألة أكثر أهمية لا يتطرق إليها الحديث، ألا وهي التكافؤ الاقتصادي بين المتنافسين، إذ لا يمكن أن يقارن مرشح معدوم أو محدود الإمكانات المالية بآخر بوسعه أن يدير كل إمكانيات الدولة لصالحه.
يذكرني هذا الحديث بما قاله روبرت دال، الذي عدَّد ابتداء ما تحتاجه "الديمقراطية كبيرة الحجم" في التعبير الحر، وإتاحة مصادر بديلة مستقلة للمعلومات، وإجراء انتخابات حرة وعادلة ومتكررة، وقيام جمعيات مستقلة. لكنه لم يلبث أن عاد ليؤكد أن تفاوت توزيع الموارد السياسية الناجم عن رأسمالية السوق، يحد من فعالية الديمقراطية.
والموارد السياسية لدي روبرت دال تشمل كل شيء يمكن أن يصل إليه شخص أو جماعة لاستخدامه في التأثير المباشر أو غير المباشر على سلوك الآخرين. ويضع دال الأشياء الاقتصادية المباشرة مثل الأموال والبضائع والخدمات والدخل، في مقدمة ما يمكن تحويله إلى موارد سياسية. وينتهي بالأشياء غير الاقتصادية مثل الأسلحة والمعلومات والمعرفة والمكانة أو المركز الاجتماعي والاتصال.
سلطة رأس المال
لا يحتاج رصد تأثير رأس المال على الديمقراطية إلى جهد كبير. إذ بإمكان جماعة أو حزب سياسي أن يستخدم التقنية الحديثة في تشكيل الرأي العام للمواطنين، وتتفاوت قدرة كل حزب على استخدامها حسب إمكاناته المالية. ويصوت الناخب في النهاية على ما يعتقد أنه الصواب، لكنه قبل أن يحدد ماهية ذلك الصواب، تكون الآلة الإعلامية الضخمة قد غمرته بآراء معدة سلفًا، يجد نفسه منقادًا في النهاية إلى التصويت لصالح الأعلى صوتًا.
وفي البلدان التي تمتلك الدولة وسائل الإعلام أو أغلبها أو أكثرها انتشارًا، تكون فرص الأحزاب الحكومية في الوصول إلى الناخب أكبر بكثير من المعارضة. ولذا فإنه حتى نكون بصدد انتخابات حرة وعادلة يجب فك الارتباط بين الخزينة المالية للدولة والانتخابات بدءًا من الترشح وانتهاء بالتصويت مرورًا بالحملة الانتخابية التي هي أكثر مرحلة يتم فيها استخدام سلطة المال على نطاق واسع.
فالفرص المتكافئة بين الأحزاب والقوى السياسية المتنافسة في الانتخابات لا تكون فقط عند عملية التصويت والفرز، بل تسبق ذلك إلى ما قبل الانتخابات. وهنا لا بد من توافر ستة شروط أساسية حتى نضمن سلامة العملية الانتخابية، وبالتبعية صواب النهج الديمقراطي، أو بالأحرى حتى يستبين الحقيقي من المزيف في علاقة النظام السياسي بالديمقراطية.
أول هذه الشروط هو سن قانون انتخابي ملائم، وثانيها فصل الحكومة عن الأحزاب السياسية، وإنهاء أي وضع غير عادل في التنافس الحزبي ينجم عن انحياز الحكومة أو القيادة السياسية في بلد ما لحزب معين. أما الشرط الثالث فيتعلق بتشكيل لجنة انتخابية عادلة ومتوازنة وذات كفاءة عالية، والرابع هو أن يكون لأحزاب المعارضة الحق في استخدام الوسائط الإعلامية للدولة، بحيث لا تكون هناك تفرقة بينها في ساعات البث وأوقاته، خاصة التليفزيون، الذي يلعب الدور الأبرز في تشكيل الرأي العام. ويرتبط الشرط الخامس بوجود آلية تضمن وصول الأصوات الانتخابية إلى مكانها المقصود، أي الحيلولة دون تزييف إرادة الناخبين.
التفاوت الاقتصادي لا يهدد التماسك الاجتماعي فحسب، بل يؤثر سلبًا على مبدأ المساواة السياسية
ويتمثل الشرط السادس في وجود مناخ سياسي عام يسمح بحرية التعبير وحرية عقد الاجتماعات واللقاءات الانتخابية، أي إزالة العراقيل التي تحول دون قيام الاتصال المباشر بين المرشح وأهل دائرته الانتخابية.
ومن يمعن النظر في الشروط السابقة كافة يجد أن القاسم المشترك بين أغلبها وأكثرها فاعلية هو "سلطة رأس المال"، ففضلًا عن أن هناك من يعتبر أن القانون، سواء كان للانتخابات أو غيره، يعكس مصلحة الأقوى اقتصاديا داخل المجتمع، فإن القدرة على استخدام الإعلام في استمالة الجماهير مرتبطة تمامًا بالإمكانات المادية التي تحظى بها الجهة التي تسعى إلى صنع الرسالة الإعلامية.
كما أن عملية التصويت نفسها، يعود جزء لا يستهان به منها إلى سلطة المال. فهناك ظاهرة شراء الأصوات الانتخابية البرلمانية، وتتم عبر وسطاء وسماسرة في بعض دول العالم الثالث. فضيق ذات اليد وعدم الوعي السياسي يجعل كثيرين يصوتون لصالح مرشحين يدفعون لهم مبلغا ماليًا محددًا لقاء كل صوت انتخابي. وعلى مستوى أكثر تنظيمًا، تتفاوت فرص المرشحين حسب علاقة كل منهم بالدولة، أي علاقته بمن يملك القدرة على تنفيذ الوعود الانتخابية
مصروف الخطب الرنانة
هنا يميل الناخبون إلى اختيار من يحقق لهم مكاسب مادية آنية وملموسة، أو على الأقل من لديه القدرة على أن يترجم وعوده إلى مشروعات أو وظائف أو إعانات.. إلخ. وفي مثل هذه الحالة يظهر مرشح الحزب المعارض، في الكثير من بلدان العالم الثالث، في مظهر العاجز عن فعل شيء سوى الخطب الرنانة والمواقف الحادة التي لا تجد آذانًا صاغية لناخبين ينتظر الكثيرون منهم "الموسم الانتخابي" من أجل إنجاز مؤجلات عديدة في حياتهم، أغلبها إن لم يكن كلها، مرتبط بمسائل مالية.
كما أن أحزاب السلطة في هذه البلدان، ومنها مصر طبعًا، تحرص على أن تضم إلى قائمة مرشحيها في الانتخابات البرلمانية أشخاصًا لديهم ثروات ضخمة، لتحرم الأحزاب المنافسة من ضمهم إليها من جهة، وأن يخففوا العبء عن خزينة الدولة في الإنفاق على الحملة الانتخابية وتنفيذ الوعود للناخبين، من جهة ثانية.
على هذا الأساس فإن الديمقراطية ليست فقط منظومة من الضمانات المؤسسية، وليست مجرد حرية سلبية، بل هي سياسة الذات الفاعلة، ومن ثم يصبح النظام السياسي الديمقراطي هو شكل الحياة السياسية الذي لا يكتفي بإعطاء أكبر قدر من الحرية لأكبر عدد من المواطنين، بل يعمل جاهدًا على حماية هذه الحرية، حين يقر بتعددية وتنوع حقيقي داخل المجتمع، وليس مجرد قاطرة ضخمة "الحزب الحاكم" تجر عددًا من الدراجات البخارية "أحزاب المعارضة" وتدهس بعضها عند الضرورة، لكي تستمر في الحفاظ على سيرها، وتمنع أي من هذه الدراجات أن يسبقها أو يتحول إلى قاطرة.
المساواة في السياسة
التفاوت الاقتصادي، خاصة إذا كان حادًا، لا يهدد التماسك الاجتماعي فحسب، بل يؤثر سلبًا على مبدأ المساواة السياسية الذي تعبر عنه الديمقراطية. ومن ثم فليس هناك تمييز بين المساواة السياسية ونظيرتها الاقتصادية، الأمر الذي جعل كثيرين يعتقدون أن الديمقراطية لا تبدأ وتنتهي بالانتخابات، فإزاحة أو إزالة أدوات السيطرة والتحكم التي تمتلكها بعض الجماعات، دون وجه حق، وتفتقر إليها الجماعات الأخرى، هي المكمل الأساسي لسلامة الديمقراطية، إلى جانب غيرها من الإجراءات، مثل التسجيل للانتخابات، وعمليات الاقتراع وفرز الأصوات وإعلان الفائزين.
قاد تقييم النظم الانتخابية الحديثة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى اقتناع مفاده أن هناك ضرورة ملحة لإيجاد أسس أو قواعد متكافئة للتمثيل الانتخابي تضمن عدالة الإجراءات الانتخابية.
ودفع ذلك الوضع روبرت دال إلى أن يشكك في إمكانية تحقيق مساواة اقتصادية في ظل رأسمالية السوق، رغم أن كثيرين يعتبرونها شرطًا أساسيًا للديمقراطية، كما تقدم. فهو يرى أن الرأسمالية لا تحقق المساواة الاقتصادية، ومن ثم فلا يمكنها أن تنجز المساواة السياسية. ولأن المواطنين غير المتكافئين اقتصاديًا، من غير المحتمل أن يكونوا متكافئين سياسيًا، فهناك علاقة توتر دائم بين الديمقراطية ونظام رأسمالية السوق.
ومن ثم يدعو دال إلى إصلاح النظام الديمقراطي الحالي في الغرب، بما يضمن المزيد من ممارسة الأداء السياسي الأمثل في إدارة المجتمع. لكن يظل دال مؤمنًا بأن اقتصاد السوق هو البيئة الملائمة للمؤسسات الديمقراطية. فالمساواة الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق بشكل حسابي بين جميع البشر، فهذا غير ممكن وغير عملي وقد أثبتت التجارب فشله.
والمقصود بالمساواة هو تحقيق ضمان المجتمع للحد الأدني من الحقوق الاقتصادية والخدمات الاجتماعية لكافة المواطنين، أي تكافؤ الفرص بينهم، وهذا ما تمكن النظام الرأسمالي من تحقيقه، بعد أن جدد نفسه، مستفيدًا من التجربة الاشتراكية على وجه الخصوص.
وفي ظل هذا الوضع يربط كثيرون بين التحرر الاقتصادي والانفتاح السياسي لأنه يخفف قبضة الدولة في السيطرة على المقدرات الاقتصادية ومن ثم يقلص درجة تحكمها في الموارد السياسية. لكن هذا لا يعني أن هناك ارتباطا حتميا أو علاقة طردية بين الاثنين، وهذا يحتاج إلى مقال آخر.