لترفع الأقلام، وتُطفأ الشاشات، وتخرس الإذاعات، ويخسأ رواد الخصخصة والاستحواذ وبيع الأصول، وسارقو الثورات، ويأكل المحتكرون والفاسدون جمرًا وحنظلًا، ويبتلع تجار الدين ألسنتهم، فجهنم انتقلت إلى الأرض، بعد أن صار هناك في الأزقة والمسارب الخلفية والقرى والنجوع عشرات الملايين مهددين بأن يأكلهم الجوع، والسلطات الظالمة أو الغافلة أو اللاهية، وأصحاب البطون التي لا تشبع، وكل أولئك الذين لا يريدون أن يفهموا إلى الآن أن ثورة يناير، التي نعيش هذه الأيام ذكراها الثانية عشر، قد طالبت بالعدل الاجتماعي وإلا فانتظروا الانفجار المخيف لكل من يريد لهذا الوطن أمنًا وسكينة وسلامًا وبقاء.
جهنم انتقلت إلى الأرض، ونارها التي لا تُبقى ولا تذر تحرق أحلام التائهين في شوارع الأحياء الشعبية وحواريها، وأقبية القبور، وما تبقى من الأكواخ النائمة في حضن الصخر الصوان التي تتقاطر عليها مياه المخلفات، وجيوش الحصى المسنون المبلل، والحجرات المقبضة العطنة الراقدة فوق أجساد أنهكها اليأس، وأحزمة البيوت المتداعية المتآكلة الآيلة للفناء الأبدي، الممتدة كدود أعمى عفن، تدوسه أقدام الخارجين من القصور المنيفة، والبيوت التي يغمرها البطر وتغشيها القسوة، وتفوح من نوافذها رائحة الفساد المعتق.
جهنم حطت على الأرض رحالها، وإن أردت أن تعرف فاسلك الطريق الذي سلكته أنا، انزل من بيتك، وامرق كَسَهمٍ من الشوارع المغسولة التي تعرفها جيدًا، وخلِّ ظهرك للبنايات الشاهقة، وسرْ وأنت مغمض العينين، فكل شيء فيها وتحتها ربما أنت رأيته آلاف المرات، ثم افتح جفنيك واندهش، ولا تجعل الفجيعة والوجيعة تثقلان قدميك، أو تخلعان فؤادك من صدرك فتهرب بجلدك، وترضى من الغنيمة بالإياب، بل اثبت مكانك، واصرخ بملء فيك "بضدِّها تتميز الأشياء".
هنا أيضًا تليفزيونات وإذاعات تطلب من المعدومين ألا يفعلوا سوى انتظار الموت والنعيم الذي يأتي بعده
جهنم هنا قبل أوانها ومكانها وسيرتها ومسارها، ففي الأحياء الشعبية والعشوائية، التي أمرّ بها متمهلًا، لأختبر ما سمعت وقرأت، وجدت الحقيقة أكثر مرارة من الخيال، وآمنت بأن من رأى ليس كمن سمع، وأن ساعة واحدة مع سكان تلك الأماكن، ستنبئك بما لم تحط به خبرًا من قراءة دراسات علم الاجتماع، ونصوص الروايات، ومشاهدة الأفلام التي تصف حياة الحرافيش والمهمشين والمعدمين، التي لا تستطيع مهما احتشدت سطورها بالمعاني ومشاهدها بالتصورات أن ترسم ملامح ذلك العذاب المتوحش الذي يقتل في بطء ملايين الناس، ممن ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وجعلهم الله شركاء في الماء والكلأ والنار، وقال الفقهاء الثقات إن لهم على الحاكم حد الكفاية من غذاء وماء ودواء وكساء وإيواء وترويح.
وقاطنو جهنم الأرض فقراء زحفوا من بلاد وديعة مجهدة، لا شيء فيها سوى الريح الزاعقة، وكلمات متناثرة تذوب في الهواء لحديث المسؤولين الكاذب عن "الحد الأدنى والأقصى للأجور" وجاءوا إلى هنا، حيث قاهرة أعداء المعز، فتحول كثيرون منهم تدريجيًا إلى لصوص ومروجي مخدرات، وأطفال نصف عرايا، وشيوخ مرضى، وطيور تحط على مخلفات الجزء المغسول من المدينة، فتلتقط بمناقيرها المرتخية من الإعياء ما تبقى منه، وأزقة مرشوقة بالحفر، ووجوه مملوءة بالبثور، وبيوت من لحم، عشرة في غرفة واحدة متداعية، خمسون في بيت قديم ضيق من طابقين مترنحين، مائة يهرعون إلى دورة مياه واحدة، أو بمعنى أدق "كنيف" واحد، لا يزيد على جردل صغير يرقد ذليلًا بين أربع أحجار كبيرة مستوية، ينام عليها لوحان من خشب تآكلت أطرافهما.
وهنا أيضًا تليفزيونات وإذاعات تضح بإعلانات عن قصور وفلل وشاليهات وشقق فاخرة في مدن جديدة ذات أسوار وقطار مونوريل ومدينة ملاهي بمواصفات عالمية وأطول برج وأكبر مسجد وكنيسة، وبعضها يتحدث عن التقشف وربط الحزام، وشكر الله على نعمة الفقر التي تمهد الطريق إلى جنة الخلد، وتطلب من المعدومين ألا يفعلوا سوى انتظار الموت والنعيم الذي يأتى بعده.
كلمات يطلقها شيوخ، بعضهم يسكنون الفيلات الفاخرة، ويركبون السيارات الفارهة، ويأكلون ما لذَّ وطاب من الطعام، ويتاجرون بأحلام الناس وأشواقهم، فتنتفخ جيوبهم ورمًا، وبطونهم شبعًا، وتبقى مشاعرهم في تبلد، وعقولهم في هروب من مواجهة الحق والحقيقة.
إن المهزلة التي تقع على أطراف المدينة المتوحشة وفي قلبها ستحرق الجميع
إنها نار في نار. نار وقودها الناس والحجارة. الناس الموتى وهم أحياء، والحجارة التي كانت تسقط سابقًا من أعلى المقطم، ويمكن أن تسقط لاحقًا، وفي أي وقت. لكن المؤكد الآن هو استمرار تساقط الطبقة الوسطى، فكثير من مساتير الناس صاروا فقراء، والفقراء صاروا معدمين، والكفاية غارت وجاء الكفاف راكبًا ريح السموم.
فيا أيها المستبدون، أيها المحتكرون المستغلون، أيها الشيوخ الكاذبون، قولوا مرة إن ما استمتع غنى إلا بما أخذ من فقير، وإن المهزلة التي تقع على أطراف المدينة المتوحشة وفي قلبها ستحرق الجميع، وإن الجنة ليست في أيديكم أنتم، ولا على أطراف ألسنتكم، وإن الإنسان الذي كرّمه خالق الكون على العالمين يجب أن يعيش في الدنيا حياة كريمة، تليق بكونه خليفة الله في أرضه. وإن دوركم يا شيوخ الفضائيات الزاحفين على بطونهم للتقرب من السلطة هو الانتصار للناس، فالدين ثورة على الظلم والاستغلال والاستغفال، وخروج على عبادة أي شيء وأي شخص من دون الله تعالى.
أما أنتم أيها السادرون في غيكم، المتغافلون عن واجبكم، الذين لا تزال عيونكم وقلوبكم موجهة إلى عاصمة جديدة قاصمة لظهر اقتصاد البلاد، وأحياء على غرار "بيفرلي هيلز" و"مدينتي" ومنتجعات شرم الشيخ والعين السخنة ومارينا، اعلموا أن كل شيء في بلادنا بات قابلًا للاشتعال؛ فجهنم التي تستعر في المسارب الخلفية، والأزقة العشوائية، لا يوجد ما يمنعها من أن تمد ألسنة اللهب حولها، وقد تحمل ريح الجوع والحرمان شررها إلى ما هو أبعد من البيوت الواطئة المنكسة رؤوسها، لتحرق الأبراج الشاهقة، وتردم الشوارع المغسولة بالرماد والأشلاء والدم والندم، فأنصتوا قليلًا إلى صوت من يقولون لكم ناصحين أو منبهين أو مطالبين بالعدل والتنمية، فالفقر كان أن يكون كفرًا، والجائع إن خرج سينتقم، والبلاد لا تتحمل هذا أبدًا.
وحتى لو لم يخرج الجائعون، وماتوا في أماكنهم من فرط الجوع والخوف، أو خرجوا متسولين وباعة جائلين، فلا تعتقدوا أن الأمر مرَّ بسلام، فآثار اتساع الفقر في مجتمعنا جد خطيرة، فهو أشبه بالداء اللعين، الذي ما إن يصيب خلية حتى يؤثر في البقية. فمع الفقر لا سؤال عن تعليم أو صحة أو انتماء أو أخلاق، وهذا والله جد خطير، بل أخطر من الخروج الغاضب، لو كنتم تعلمون، أو كنتم تخافون حقًا على هذا البلد، وتعملون لأجله.