هل تعاني مصر فراغًا اقتصاديًا؟ وماذا يجعلنا نذهب في تشخيص الحالة المادية التي تمر بها بلادنا الآن على أنها شكل من أشكال الفراغ؟ هل هو نضوب الموارد، أم عدم القدرة على إدارتها؟ أم أنها الفجوة الكبرى بين ما يريده الناس وبين ما يتحقق بالفعل، لا سيما بالنسبة لحياتهم المُعاشة يوميًا؟
ابتداءً، لا يُستعمل مصطلح "الفراغ الاقتصادي" كثيرًا، لأنه يأخذ أحيانًا أسماءً أخرى، من بينها الفجوة والهوة والأزمة الهيكلية والفشل والتراجع والانهيار الاقتصادي.. إلخ. ومع هذا مال بعض الخبراء إلى استخدامه لوصف أوضاع اقتصادية بالغة السوء، مثل إيريك فيرنون الذي وصف ما أصاب الاقتصاد البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى بأنه "فراغ اقتصادي"، جراء قلة الإمدادات وتحديد الأسعار وأولويات الشحن، بما جعل من المستحيل معه إطلاق قوى المنافسة الحرة دون تجنب مخاطر الندرة.
وكان الأمريكيون يرون أنَّ حالة فراغ أصابت اقتصاد ألمانيا الشرقية بالضعف الشديد، جراء السياسات السوفيتية التي كانت ضالعة في تسييره، أمكن التعويل على الوحدة الألمانية التي قامت بعد انهيار حائط برلين في ملئها، وهو ما حدث بالفعل، حين دخل الألمان الغربيون بقوتهم الاقتصادية لملء الفراغ في الشطر الشرقي من بلادهم التي قُسِّمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
على النقيض من ذلك بدأ مصطلح الفراغ الاقتصادي يظهر، ولو على استحياء، في التحليلات التي واكبت التدهور الذي حدث في اقتصادات السوق، وأجبر المسؤولين في الدول الليبرالية الغربية على اتخاذ إجراءات عاجلة لصالح تعزيز دور الدولة في التخطيط والتمويل والمراقبة، وهو ما ظهر في السياسات شبه الاشتراكية التي انتهجتها الولايات المتحدة، لا سيما في مجال التأمين والتشغيل والتصنيع، إثر الأزمة التي ألمت باقتصادها عام 2008.
وهناك من ينظر إلى جانب واحد من الفراغ الاقتصادي، فيراه أيَّ عطل يصيب الإنسان ويؤدي إلى عدم اشتغاله بعمل يأخذ منه جلَّ وقته، ويبدو أيضًا في نظر البعض حالة من الركود وتباطؤ العمل في ظل اقتصاد لا يتطور ولا يتحرك إلى الأمام، ويفتقد إلى الابتكار والتجديد، بما يجعل قوى العرض والتسويق دون قيمة.
ويوجد من يحدده في حالة تترتب على تراجع الاستثمار في دول معينة، مثلما ظهر في حديث المسؤولين الأفارقة من تدني الاستثمارات العربية في بلادهم، دون أن يدخل أحد ليعوضها بالقدر الذي يرتقي لما ينتظره الأفارقة من العرب.
نحن أمام سلطة سياسية تتصرف وكأنَّ الناس في خدمة الاقتصاد وليس العكس
وهناك من يحذر من أن يؤدي علاج المشكلات الهيكلية طويلة الأجل التي تعاني منها اقتصادات الدول النامية، عبر التضحية بالنمو على المدى القصير أملًا في حلها على المدى الطويل، إلى حدوث فراغ اقتصادي، أو من يرى أنَّ الدول الكبرى ستستفيد من الفراغ الاقتصادي الناجم عن تفاقم الأضرار المترتبة على الإجراءات التي اتخذتها السياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة بغية السيطرة على جائحة وباء كورونا، بما يقود إلى زيادة الهوة بين الدول الغنية والفقيرة.
ويمكن النظر إلى الفراغ في الاقتصاد بأنه كلُّ ما يناقض حالة الامتلاء، التي تتحقق مع التنمية المستدامة وزيادة معدلات الاستثمار والنمو والوفرة والرفاه، والتي تترتب على تعظيم الإنتاج والتشغيل وتحقيق الاكتفاء الذاتي والقدرة على المنافسة عالميًا. فغياب تلك الحالة من القوة المادية الظاهرة يعني أنَّ الدولة تعاني فراغًا اقتصاديٍّا، تبدو مظاهره في غياب التنمية أو تدهورها، مع ضعف الاستثمار والتشغيل، وتراجع النمو، وزيادة معدلات البطالة والتضخم والركود وتدهور مستوى المعيشة. أي أننا في النهاية أمام أزمة اقتصادية هيكلية، قد تصل إلى ذروتها حين تعلن الدول إفلاسها.
وقد ينجم الفراغ هنا عن خلل في التصور الاقتصادي المبدئي أو الأساسي. فالأمر يستقيم حين يكون الاقتصاد في خدمة الإنسان، أما الذين يضعون الإنسان في خدمة الاقتصاد، معتقدين أنَّ جني الأرباح وتكديس المال بأيِّ ثمن أهم كثيرًا من بناء البشر وإسعادهم، فلا يجنون سوى تعاسة وفشل ذريع في النهاية، ولا يمكن لعاقل أن يصدقهم حين يتحدثون عن البناء والعمل لصالح الناس.
عند هذه النقطة الأخيرة يجب التوقف طويلًا أمام حالة الاقتصاد المصري. فنحن أمام سلطة سياسية تتصرف وكأنَّ الناس في خدمة الاقتصاد، وليس العكس. فكثيرًا ما سمعنا مطالبةً للشعب بأن يجوع في سبيل التنمية، ويمكن للناس أن تتفهم هذا بالطبع لو كانت هناك تنمية بالفعل، أي إقامة مشروعات إنتاجية، وليس إنفاقًا مفرطًا على الاقتصاد المرفه، أو الذي يعني طبقة صغيرة من المصريين.
نعم هناك إنفاق على البنية الأساسية متمثل في الطرق، لكن يبدو لنا الأمر متعلقًا بالتحكم الأمني في ربوع الجمهورية أكثر منه عملًا على تيسير الظروف أمام إطلاق استثمارات حقيقية، تتم بالأساس عبر إقامة مشروعات إنتاجية.
ويأتي الدين الثقيل الذي يتراكم كل يوم ليزيد من الفجوة الاقتصادية بين ما يشغل السلطة السياسية في الوقت الراهن؛ أي مواصلة خدمة الدين ودفع فوائده حين يحين موعد سدادها، وما يشغل الشعب؛ التنمية والنمو ولجم التضخم وضبط الأسعار، وتوفير فرص العمل، وتيسير الاحتياجات الضرورية من غذاء وكساء وإيواء ودواء وتعليم.
يكفي أن يدقق الرائي في وجوه الناس حين يقابلهم في الشوارع، أو يجلس إلى جانبهم في المقاهي والمواصلات العامة، ليرى الفراغ الاقتصادي متجسدًا عيانًا بيانًا، لا ينكره إلا جاهل أو متنطع أو صاحب منفعة في بقائه، حيث أولئك الذي يشبهون أثرياء الحرب ممن يستفيدون من الأزمات الاقتصادية.
إنَّ الناس في بلادي كأنَّ على رؤوسهم الطير، حيث عادت الهامات منكسة من ثقل الهموم والقهر الراكد فيها. كيف لا ينظر إلى الأرض من يفتقد قوت يومه؟ وكيف لا تتعفن أفكار تافهة يحركها نفاق رخيص، بعد أن هجرها السعي للحرية والكرامة والعدل والتقدم والوطنية الحقة؟ يزيد هذا من أثر الشعور بالوطأة الاقتصادية، إذ لا يجد الناس طبابةً أو تعويضًا يقوم على احترام آدميتهم بما يقلص من شعورهم بالفراغ عمومًا.