منشور
السبت 8 أبريل 2023
- آخر تحديث
السبت 8 أبريل 2023
بعد أن صدعتنا السلطة في مصر بحديث مستفيض عن "المؤامرة"، وبقول حق أريدَ به باطل عن "حروب الجيل الرابع"، وطنطنة جوفاء عن "استقلال القرار الوطني" ها هي تفتح مصر على مصراعيها أمام "جيش متوحش يغزوها بسلاح المال"، ألا وهو "صندوق النقد الدولي" الذي وصفه على ذلك النحو أرنست فولف، خبير وأستاذ جامعي ألماني كرس قسطًا وفيرًا من علمه وجهده لدراسة "دور الصندوق في إدارة الأزمات الدولية"، واهتم كذلك بالعلاقات المتبادلة بين الاقتصاد والسياسة، فأدرك على وجه عميق الآثار السياسية والاجتماعية للوصفات الاقتصادية لهذا الصندوق.
يقول فولف في كتابه صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية بوضوح جلي:
"من الناحية الرسمية تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي، وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل. غير أن تدخلاته تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، فإنه كان في كل تدخلاته ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى للمواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي. وفي كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودا، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أعني عملية التمويل".
وليس "البنك الدولي" بأفضل حالٍ من "الصندوق"، بل هو الوجه الآخر له. وكلاهما يضمن هيمنة للرأسمالية الغربية على العالم، وفي قلبها الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت أكثر إدراكًا الآن، وبعد توعكها في الصومال والعراق وأفغانستان وقبلها فيتنام، أنه ليس بوسعها أن تعيد "الاستعمار التقليدي" إلى العالم، فأحلت الخبراء الاقتصاديين محل الجنرالات، والدولارات محل الرصاص، والروشتات الاقتصادية ذات الطابع الدعائي محل الحرب النفسية.
ويحضرني في هذا المقام ما قرأته قبل ربع قرن تقريبًا في مجلة عالم الفكر للدكتور أسامة الخولي (ت 2001) من شهادة حوت خلاصة تجربته في البنك الدولي على مدار أربعة عقود، وهي أشبه برسالة اعتذار إلى العالم، إذ تحدث عن السيارات الفارهة التي كان يركبها خبراء البنك لتشق طريقها وسط المعدمين، فتتعلق بها عيون أطفال بائسين، وهم يظنون أن هؤلاء الخبراء سيجعلونهم يخلعون أسمالهم البالية، ويتذوقون ما يملأ بطونهم الخاوية، لكنهم في الحقيقة كانوا يزدادون فقرًا، وتنغلق أبواب ونوافذ أخرى أمام مستقبلهم.
يقول أهل الحكم في بلدنا للناس إنه لا سبيل أمامهم سوى الاقتراض من الصندوق، ويزينون أقوالهم بكلام معسول
وإذا عدنا إلى كتاب فولف، الصادرة ترجمته ضمن سلسلة "عالم المعرفة" العريقة، ستصدمنا عبارة المترجم عدنان عباس علي، الحاصل على الدكتوراة من جامعة فرانكفورت وعمل أستاذًا بعدد من الجامعات العربية، والتي يقول فيها "إنه يبتز دولا كثيرة، إنه يجرد أجيالا من بني البشر من الحلم بمستقبل أفضل، إنه يتمتع بجبروت لا تتمع به أي منظمة أخرى من المنظمات المالية العاملة في الساحة العالمية، لا بل إنه يتمتع بجبروت لا تتمتع به دول كثيرة: إن الحديث ههنا هو عن صندوق النقد الدولي، الذي صارت ممارساته في دول العالم الثالث تعيد إلى الأذهان تاريخ أبشع عصور الهيمنة الاستعمارية".
أما المؤلف، الذي نحتاج الآن إلى قراءة كتابه بعناية، فيقسم تاريخ الصندوق إلى أربعة مراحل، الأولى كانت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وخلالها بذل الصندوق جهدا فائقا في سبيل تمكين الدولار الأمريكي من رقبة الاقتصاد العالمي، فصار هو العملة القائدة، وأصبحت المصارف والشركات الأمريكية هي الأكثر استثمارا في العالم. وانتهز الصندوق فرصة تحرر كثير من الدول من الاستعمار في الستينيات ومد إليها يده، بدعوى إعانتها على مواجهة الظروف الاقتصادية القاسية التي كانت تعاني منها جراء النهب الاستعماري الممتد، وكانت هذه هي بداية وقوع تلك الدول في حبائل الصندوق.
والمرحلة الثانية، تعاون فيها الصندوق مع الحكومة العسكرية الديكتاتورية في شيلي بعد انقلاب بينوشيه، ومثَّل بذلك الجناح الاقتصادي لتدخلات المخابرات الاقتصادية الأمريكية في أمريكا اللاتينية بغية محاربة اليسار، وتمكين النمط الاقتصادي الليبرالي.
وبدأت المرحلة الثالثة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ إن التحولات الاقتصادية التي جرت فيما كانت تسمى "الكتلة الشرقية" فتحت بابًا وسيعًا أمام الصندوق للتغلغل في اقتصادات هذه الدول. واتسعت، مع السنين، الهوة بين الطبقات، وتراكمت الثروات في جيوب قلة محتكرة من رجال الأعمال أو كبار رجال بيروقراطية الدولة.
أما المرحلة الرابعة فهي التي نمر بها الآن، وبدأت بأزمة القروض العقارية الأمريكية عالية المخاطر في 2008، التي تسببت في اهتزاز الاقتصاد العالمي برمته. فتدخل الصندوق طالبًا إجراءات تقشفية أدى تطبيقها إلى كوارث اجتماعية متعددة الأبعاد، منها بطالة مفرطة في صفوف الشباب، وتقوض أنظمة الرعاية الاجتماعية ومنها التأمين الصحي ودعم السلع الأساسية، واتساع رقعة الفقر، في مقابل احتكار حفنة من الأغنياء لثروات الدول.
وكانت لهذه الأوضاع الاقتصادية المشوهة نتائج جارحة على السلم الاجتماعي والاستقرار وبرامج التنمية، وفتحت نوافذ لا حصر لها لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا في شؤون الكثير من الدول، ليس فقط من خلال إدارة وتسيير اقتصادها عبر الصندوق، إنما أيضًا بخلق طبقة مترفة ترتبط مصالحها بالعالم الرأسمالي.
لكل هذا يتساءل فولف، وكله عجب "بأي وجه يحق لمؤسسة أن تتسبب في تعريض بني البشر لمصائب لا توصف، ورزايا لا نهاية لها، أن تواصل نشاطها بلا عقوبة، وأن تحظى، مستقبلا أيضًا، بمساندة القوى صاحبة السلطان في زمننا الراهن؟ ولمصلحة من يا ترى يعمل صندوق النقد الدولي؟ ومن الطرف المستفيد من إجراءاته؟".
يقول أهل الحكم في بلدنا للناس إنه لا سبيل أمامهم سوى الاقتراض من الصندوق، ويزينون أقوالهم بكلام معسول عن الانتعاش الذي سيسري في أوصال الاقتصاد، والثقة التي سيوليها العالم فينا إن أعطانا الصندوق ما نريده. وهم في هذا لا يفعلون شيئًا سوى التساوق أو مجاراة الدعاية الكاذبة التي طالما قالها الصندوق وهو يستعد لوضع قدميه في كل البلدان التي دخلها، وأورثها عجزًا وعوزًا.
العيب ليس فيهم، إنما في أي سلطة تهمل الإنتاج، وتستمرئ الاقتراض بإفراط
وفي كل هذا تضليل شديد للشعب، خاصة الفقراء والطبقة الوسطى التي تتحلل الآن، وهروب من مواجهة الحقيقة الصعبة التي تقول إن من يحكمون قد تسربت من بين أصابعهم كل ما أعانت به دول الخليج أو أقرضته، وأصروا على مشروعات كبرى غير مدروسة اقتصاديًا، ونكصوا عما وعدوا به من إصلاح اقتصادي، وضرب بيد من حديد على المفسدين، ومواجهة المحتكرين، وتحفيز الطاقة الإنتاجية، وعدم الارتكان إلى الاقتصاد الريعي المتمثل في السياحة أو رسوم المرور بقناة السويس، وقبل كل هذا دغدغة مشاعر الناس بخطاب أجوف عن المستقبل الزاهر الزاخر الذي ينتظرهم، والذي بدأ بـ"هتبقى قد الدنيا" ثم انتهى بعد سنتين فقط بـ"شبه دولة".
يتناسى أهل الحكم عمدًا تلك التجارب التي رفضت الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، لاسيما في دول شرق آسيا. وفي مطلعها ماليزيا التي يقول باني نهضتها الحديثة مهاتير محمد أنه ألقى تعليمات الصندوق في سلة المهملات، واعتمد على سواعد أبناء بلده، فنجا بها مما لحق بدول أخرى، ظن من يحكمونها أن الصندوق جمعية خيرية، أو مستثمر عادي، أو بنك للتسليف، يراعي ظروف أهل البلد، أو يكفّر، في خشوع، عن ذنوب تراكمت على مدار عقود من النهب الاستعماري المنظم لدول العالم الثالث.
ويخفف أهل الحُكم من وطأة ما يجري بحديث عن شروط وضعوها أمام الصندوق. وكأن بوسع المحتاج أن يشترط على من يعطيه، أو كأننا حديثو عهد بما فعله الصندوق فينا من أيام مبارك، أو كأننا لم نقم الدنيا دون أن نقعدها أيام فَكَّر الرئيس المعزول محمد مرسي في الاقتراض، وكأننا نثق أيضا في أن ما سيقرضه لنا الصندوق سيذهب إلى مشروعات مدروسة بعناية، وليس إلى مشروعات مظهرية، قصد بها عائد سياسي أكلته الأيام، ولم يبق منه سوى الغرم الفادح.
إن جنرالات المال من خبراء الصندوق الذين يفحصون اقتصادنا الآن لا يشغلهم سوى استرداد أموالهم وفوائدها، وهذا حقهم، لكن ليس لديهم الدواء الشافي، بل هم مثل أطباء، بلا ضمير، يطيلون أمد علاجنا في سبيل استنزاف أموالنا، وحين يتمكن منا المرض لن يرحمونا، ولن يعترفوا بأنهم زادوا في سقمنا، وخدعونا، وعطلوا اجتهادنا في البحث الحقيقي عن مصادر ومنابع أخرى لشفاء تام. والعيب ليس فيهم، إنما في أي سلطة تهمل الإنتاج، وتستمرئ الاقتراض بإفراط.