يجب التعامل مع التنمية الاقتصادية باعتبارها منظومة متكاملة ومنسجمة لتعظيم القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية، بغية خلق الثروة التي تعود على المجتمع بالنفع. وليتم ذلك، فنحن بحاجة إلى اتخاذ ثلاثة مسارات؛ هي الإبقاء على الأعمال القائمة الناجحة وتوسيعها ومنحها فرصًا حقيقية للتعافي والنمو، وفتح الطريق أمام قيام أنشطة اقتصادية جديدة هي بالفعل في متناول أيدي المصريين في سبيل خلق أعمال إضافية، وابتكار أنشطة وأعمال أخرى غير موجودة، من خلال تشجيع التعليم والبحث العلمي والتقني، باعتباره استثمارًا راسخًا في البشر، الذين يجب أن يكون الاقتصاد في خدمتهم، لا أن يكونوا هم في خدمته.
والتنمية التي نقصدها في هذا المقام هي الشاملة والمستدامة ذات الأبعاد الخمسة: الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والقانوني، التي تُستغل فيها الموارد البشرية والطبيعية للدولة على أفضل وجه ممكن، بحيث يكون لها هدف قريب هو تحسين القدرة المادية للمواطنين، وآخر بعيد يتمثل في تعزيز مكانة الدولة المصرية في محيطها الإقليمي والقاري والدولي، لا سيما أن مصر لديها طاقة كامنة معطلة، وتمتلك مقومات تؤهلها لتكون قوة اقتصادية إقليمية كبرى.
تتبنى السلطة الحالية الاقتصاد الحر المنفتح على العالم، باعتباره، في نظرها، ركيزة النمو والرخاء. ولكنها بينما تفعل ذلك، عليها ألَّا تتناسى دور الدولة في ضمان حرية الأسواق وتحفيز آلياتها الطوعية، ورقابتها وضبطها في الوقت نفسه في سبيل حماية المستهلكين. كما يجب أن يكون للدولة دور في تطوير مناخ الاستثمار، وحماية المنتجين من المنافسة غير العادلة، وكذلك توفير الحياة الكريمة للفئات الأكثر احتياجًا، ومحاربة الفقر باعتباره آفة اجتماعية.
إن اقتصاد السوق، إذ يعترف بأهمية الحافز الفردي في تحقيق النجاح والربح، فإنه لا ينفي حاجتنا إلى وضع استراتيجية توازن بين المتطلبات العاجلة وحقوق الأجيال المقبلة في المال العام، والاستهلاك وما يتطلبه الأمن القومي، على أن يتم دعم هذا بالمعرفة الاقتصادية، وإعلاء قيمة العمل وضرورة إتقانه، وأن تجري المعاملات سويَّةً منضبطةً بشكلٍ ذاتيٍّ، وتحضُّ، بل تُحرِّض، على الادخار.
لا بد من شفافية تضمن حرية تدفق المعلومات وتداولها وإتاحتها للمواطنين مباشرة وباستمرار
وبناء على هذه الرؤية الاقتصادية العامة، فهناك عدة إجراءات ضرورية لتحسين الأوضاع الاقتصادية.
1- ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد المصري عبر تشريعات ناجزة وإجراءات نافذة، تنقله من خانة الاقتصاد الريعي الذي يميل إلى الاستهلاك المفرط إلى خانة الاقتصاد الإنتاجي متنوع المصادر والروافد سعيًا إلى تحسين القدرة على الإنفاق والادخار، بما يعزز حجم الناتج المحلي الإجمالي، ويحقق بمرور الوقت فائضًا في الميزان التجاري، بما يقيل الدولة من عثراتها.
2- تعظيم مختلف عناصر الإنتاج في الزراعة والتعدين والصناعة، وتطوير مهارة العمالة الفنية بالتدريب المستمر وفق أفضل البرامج الملائمة لهم، والمناسبة لاحتياجات المجتمع في الوقت الراهن.
3- تطوير النظام التعليمي ومواكبة التكنولوجيا اللازمة لصناعات المستقبل، من منطلق أن التنمية تقوم في النهاية على البشر، في تفكيرهم وبذلهم الجهد اللازم.
4- لا بد من شفافية تضمن حرية تدفق المعلومات وتداولها، وإتاحتها للمواطنين مباشرة وبشكل مستمر ليفهموا واقعهم جيدًا، ولأصحاب الأعمال الخاصة لتساعدهم في اتخاذ القرارات السليمة التي من شأنها إطلاق مشروعات ناجحة. فمثل هذه الشفافية باتت شرطًا أساسيًا لإقامة اقتصاد حديث.
5- الاستغلال الأمثل للشواطئ البحرية والمياه الإقليمية التي تتمتع فيها مصر بميزة نسبية، وهو ما يُسمَّى "الاقتصاد الأزرق"، الذي لا تعطيه الدولة الوزن الذي يليق به في التنمية.
6- تطوير البنية الأساسية التقليدية وفق معايير اقتصادية مدروسة، ثم تطويرها في مجال التكنولوجيا والاتصالات باعتباره الطريق الأسرع والأمثل لتحديث الاقتصاد، سواء بجذب الاستثمار أو رفع الكفاءة الإدارية، وتسهيل تدفق المال والسلعة والخدمة.
7- إعطاء أولوية للمستثمر الوطني الموهوب، مع توفير الموارد الطبيعية المحلية من خامات وطاقة وبنى أساسية، بأسعار عادلة للمشروعات الإنتاجية، خاصة التصديرية منها، تأخذ في الاعتبار التكلفة الفعلية بالإضافة إلى هامش ربح غير مبالغ فيه.
8- منع الاحتكارات، وإلغاء الامتيازات، وإعادة النظر في سياسات الإعفاءات المالية والضريبية والجمركية، وفي قواعد تخصيص أراضي الدولة لمؤسسات عامة وحكومية ومستثمرين أجانب، لأغراض اقتصادية وتجارية.
9- لا يمكن تطوير الاقتصاد وتحسينه، وبلوغ الأهداف التي تحويها الخطط التي توضع بشأنه، دون وجود خطة قومية لمكافحة الفساد، تعمل على اجتثاث أشكاله المتجذرة في مختلف الجهات والجبهات، رسمية وغير رسمية، لدى كبار الموظفين وصغارهم، الذين يحققون منفعة خاصة لهم على حساب المصلحة العامة. فالفساد مدمر للاقتصاد القومي، وهو عائق كبير ضد التقدم.
10- إقرار مبدأ "وحدة الموازنة"، إذ لا يجب أن تكون هناك في البلاد ميزانيات أخرى لأي جهة أو مؤسسة أو صندوق سيادي أو خاص، باستثناء الموازنة العامة للدولة تحت إشراف وزير المالية ورقابة البرلمان والأجهزة الرقابية والمحاسبية.
ويتم إعداد الموازنة العامة للدولة طبقًا لعدة مبادئ تسهم في تحقيق هذا التوازن، وهي:
أ- شمول الموازنة، فتضم موارد الدولة ونفقاتها كافة، بحيث لا يقع أي منها خارجها، وبذا لا يجوز للجهات التي تحصل على الإيرادات أن تخصم منها شيئًا، تحت أي سبب أو ذريعة.
ب- سنوية الموازنة، أي تعد عن سنة مقبلة تتضمن النفقات والإيرادات، وتكون مستقلة عن السنة السابقة لها، واللاحقة عليها.
جـ- عمومية الموازنة، أي عدم تخصيص إيرادات وحدة حكومية معينة لتغطية نفقات هذه الوحدة، بمعزل عن النفقات العامة والكلية للدولة.
د- توازن الموازنة، وتحدث حين تتساوى النفقات مع الإيرادات، فإن زادت الثانية على الأولى صار لدينا فائض، والعكس يكون عجزًا، لكن في الحالتين يجب أن يتم التخطيط بشكل جيد للتصرف في الموازنة بما لا يضر باقتصاد الدولة.
هـ- مرونة الموازنة، وتعني منح صلاحية للمسؤول عن تنفيذ الموازنة في تغيير بعض ما ورد فيها إذا حدث طارئ، أو اقتضت مصلحة عامة ذلك، لكن عليه ألا يتجاوز الحد الأقصى الكلي للموازنة، بأي حال من الأحوال.
يجب الإسراع في حصر الاقتصاد الموازي وضمه للاقتصاد الرسمي بعد تخليصه من التشوهات
11- يجب الإسراع في حصر الاقتصاد الموازي، وضمه للاقتصاد الرسمي للدولة، بعد تخليصه من التشوهات التي يعاني منها، خاصة في مجال الأجور، وكيفية تملك الأراضي وتأجيرها والانتفاع بها، وإنهاء ترهل الجهاز الإداري ورفع كفاءته.
12 تطوير النظام الضريبي، وربط حوافز المستثمرين بعدد العاملين في المنشأة، بما يفيد الفقراء ويوسِّع الطبقة الوسطى، لأن هذا من شأنه أن يشجع المستثمرين على توسيع أعمالهم، وبالتالي خلق فرص عملٍ جديدة.
13- تطوير المنظومة الصحية عبر أفكار إبداعية، بما يُمكِّنها من تحويل مصر إلى قبلة صحية لقارة إفريقيا برمتها، مع ضمان توفير العلاج للمواطنين المصريين بجودة عالية، وسعر مناسب لدخولهم.
14- إقرار حدين أقصى وأدنى للأجور والمرتبات، بما يضيِّق الهوّة الطبقية في البلاد، ويضمن حياة كريمة حقًا للعاملين وأسرهم، ويجذب الكفاءات والخبرات إلى مؤسسات الإنتاج والخدمات، ويوفر بيئة عمل صحية، تساعد على الإبداع والتطوير.
15- الالتزام بسن التقاعد القانوني بلا استثناء لأي شخص، وعدم الجمع بين معاش التقاعد والمرتب لمن يشغل وظيفة عامة. ويهدف هذا إلى تجديد دماء الجهاز الإداري والإنتاجي للدولة، وفتح المجال أمام المتميزين من الشباب، بما يحد من ظاهرة هجرة الأدمغة، أو نزيف العقول، التي تتسبب في خسائر فادحة للاقتصاد والمجتمع المصري.
16- إلغاء كافة أشكال الدعم العيني، والتحول الكامل إلى الدعم النقدي، بما ينهي التلاعب بالدعم، ويحد من الفساد الذي يصيبه، ويسهم في الاقتراب من تحقيق العدالة الاجتماعية، وحرية المواطنين في تحديد احتياجاتهم. ويحتسب الدعم النقدي للأسرة على أساس الحد الأقصى لعدد أفراد الأسرة، والذي لا يزيد عن ستة أفراد.
17- تعظيم الاستفادة من الاتفاقيات والعلاقات الدولية عبر "دبلوماسية تنمية" من شأنها زيادة حجم الصادرات، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في مجالي الزراعة والصناعة، بما يزيد الإنتاج مقابل الاستهلاك، والصادرات مقابل الاستيراد.
إن هذه المطالب، أو الخطوات، ربما تكون وصفة علاجية، يجب تطبيقها في سبيل تحسين ظروف اقتصادنا المنهك، وهي لا تطرح هنا بوصفها جامعة مانعة، إنما هي مجرد تفكير يحتاج نقاشًا وإضافة تحددهما مصلحتنا الوطنية.