بات التعليم المصري في خطر شديد، هذه المرة ليس لمشكلاته المعتادة المتعلقة بطرق التدريس ومضمون المناهج الدراسية، ولا لاكتظاظ الفصول بالتلاميذ، وعجز الجامعات الحكومية عن استيعاب خريجي الثانوية العامة، والمتفوقين في المدارس الفنية الزراعية والتجارية والصناعية، إنما لتأثير الأوضاع الاقتصادية على نظرة المصري إلى جدواه، ومن قبلها مدى قدرته على تحمل تكاليفه، مع تخلي الدولة تدريجيًا عنه، وارتفاع معدلات التضخم التي أوجبت ذهاب الجزء الأكبر من دخل الأسر إلى المأكل والمشرب.
منذ أن بدأ علي مبارك إصلاح الكتاتيب وتحويلها إلى مدارس، وبناء مدارس أخرى على قدر الميزانية الشحيحة التي رضي بها الخديو سعيد، والمصريون يتعاملون مع التعليم على أنه وسيلة جيدة للحراك الاجتماعي. ورغم أن الإيمان بهذا الهدف تزعزع تدريجيًا في العقود الثلاثة الأخيرة، لا تزال الأسر المصرية تقتطع من قوتها حتى تُلحق أولادها بالتعليم، وتحرص عليه، غير ملتفتة إلى كل ما يقال عن بطالة سافرة ومقنعة، أو عن تحقق الحراك الطبقي بوسائل أخرى أسرع، وربما أقل كلفة، منه.
سلم الحراك
لا يزال التعليم يمثل وسيلة الترقي الاجتماعي في أفكار الطبقة الوسطى، وكأنها منذورة لمهمة إمداد الدولة بالمدرسين والأطباء والمهندسين والإداريين والضباط الأكفاء، وتشعر بأن هذا العبء مُلقى على عاتقها، حسبما يقول نجيب محفوظ.
وإلى جانب النذر، أو الإحساس بالرسالة، فهذه الطبقة تعيش مع التعليم الوعد الذي لا ينتهي، لأن الآباء والأمهات، في الجيل الحالي، إما أن وضعهم التعليم على أول سلم التحرك نحو الأماكن، ماديًا ومعنويًا، وإما أنهم لا يقبلون أبدًا، إن كانوا من خريجي الجامعات، أن يكون أولادهم أقل منهم.
يتسرب كثيرون من مختلف المراحل التعليمية في ظل غفلة ظاهرة من الدولة المنشغلة بالمباني أكثر من المعاني
ورغم ندرة التظاهر في ظل حكم الرئيس السيسي، بسبب القيود التي رتبها القانون وغلظة قوات الأمن مع الناس، فإن مظاهرات عدة تم تنظيمها أمام وزارة التعليم، على مدار سنوات، للاحتجاج على أوضاعه وخططه. حتى أن مبنى وزارة التربية والتعليم صار الوحيد بين سائر الوزارات الذي تحميه قوة أمنية دائمة، في أيام الامتحانات وبعدها، وتوضع حوله الأسيجة الحديدية المتحركة، وتوصد الشوارع المؤدية إليه، وهو ما يعكس الحرص الذي يبديه المواطنون تجاهه.
لكن الخرق اتسع على الراتق، مع سوء الأوضاع الاقتصادية، فلم تعد أغلب الأسر الفقيرة قادرة على تحمل نفقته. وإن استطاعت هذا في بداياته، فإمكانية استمرارها مخلصة لهذا المسار صارت محل شك واضح. وبذلك يتسرب كثيرون من مختلف المراحل التعليمية، وتتزايد أعدادهم سنة تلو أخرى، في ظل غفلة ظاهرة من الدولة، المنشغلة بالمباني أكثر من المعاني، والتي تميل، حسب تصريح شهير للسيسي، إلى تعليم القلة التي تنهض بالوظائف المطلوبة والمتجددة، وإهمال الكثرة التي يغيم في نفوسها الأمل في إمكانية تلقي تعليم جيد، يكافئ الطموحات المشروعة إلى المزاحمة على المسارات الطوعية والطبيعية التي تأخذ الناس من الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الستر، ومن التخلف إلى التقدم.
تعلم لتعمل
إن تعامل السلطة حاليًا مع التعليم على أنه منفذ لمرور موظفين مؤهلين يلغي مسيرة طويلة بدأها رواد النهضة المصرية الحديثة بنداء لحوح وجاد للتوسع في التعليم باعتباره مفتاح النهوض والتنمية والتحضر، ويعيد مصر إلى حال عانت منه أيام الاحتلال الإنجليزي الذي كان معنيًا، ومعه كبار الرأسمالية الريفية والمدينية، بتخريج موظفين يدورون كتروس في آلات، تعمل لصالح المستعمر بالدرجة الأساسية، وقبله كانت تعمل لصالح المهيمنين على الحكم، مثلما ذهب محمد علي الذي ربط التعليم أساسًا بتوفير إداريين للجيش.
هذه النظرة الضيقة للتعليم، سواء عند السلطة أو حتى كثير من أفراد المجتمع، تتجاهل أن التعليم ليس مجرد وسيلة للحصول على وظيفة تحت شعار "تعلم لتعمل"، إنما له دور مهم في الحياة الاجتماعية بأسرها، كأن يتعلم المرء ليفهم، وليتعايش في سلام وسكينة، ويتعلم ليتحضر، وليكون قادرًا على حل مشكلاته الفردية بطريقة أكثر تنظيمًا ونفعًا.
وموقف السلطة يتجاهل، بل يزدري، الرؤية التي سبق أن رسخها طه حسين في حديثه عن ضرورة التعليم لأنه حيوي في حياة المصريين، ولذا يجب أن يتوفر مجانًا كالماء والهواء. وكان الرجل ينطلق هنا من إيمانه العميق بأن الإنسان المتعلم يكون أكثر دراية بحقوقه وواجباته، فإن نهض للحصول على ما هو حق له تصرف في سلام، يحفظ السكينة الاجتماعية اللازمة لمجتمع مستقر، وإن همّ لأداء ما هو واجب، كان أكثر جدوى وجدية والتزامًا.
إصلاح كل هذا
كان طه حسين يرى في التعليم طريقًا لتحقيق الديمقراطية، لأنه يخلق المواطن المدرك للتلازم بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي في تدبير شؤون الدولة. ربما لهذا تسمع المصريين كثيرًا يقولون وهم يبررون سبب إهمال السلطة الحالية للتعليم "يريدوننا جهلاء حتى تسهل السيطرة علينا"، ويبلغ التندر ببعضهم مداه فيقول "إن تعلمنا جميعًا فمن أين سيأتون بجنود الأمن المركزي الذين يستخدمونهم في قمع الشعب".
التعليم الجيد هو إكسير التقدم، والإنفاق عليه بسخاء، يعطي عوائد لا حد لها
لهذا يشكك كثيرون في نوايا السلطة حيال التعليم، في ظل تجاهلها لرغبة اجتماعية جارفة في تعليم الأبناء، وعدم إيفائها حتى بالنسبة التي خصصها الدستور الحالي للتعليم من الموازنة العامة، وإسرافها في بناء الكباري والمنشآت الفخيمة، بينما تعطي ظهرها لمن يطالبونها ببناء فصول دراسية، تنهي تكدس التلاميذ، الذين يضطر بعضهم إلى قضاء السنة الدراسية واقفًا، لأن المدرسة لا توفر له مقعدًا، أو يُجبر الأهل على شراء المقعد رأفة بالصغار، وكشَرط لقبولهم في بعض المدارس.
وهناك من لا يقدر على شراء مقعد، ولا يمكنه دفع الرسوم المقررة لكل سنة دراسية، ناهيك عن أسعار الدروس الخصوصية التي باتت ضرورة عند كثيرين لتدني مستوى الشرح داخل الفصول، فيفضل تسريب أولاده من التعليم، وإلحاقهم ببعض الأعمال، ما يعني تزايد نسبة الأمية الأبجدية، ومعها الثقافية والسياسية أحيانًا، وهذا يشكل عبئًا كبيرًا على الراغبين في إنهاض مجتمعنا من خموله.
إن الأزمة الاقتصادية تفاقم من مشكلات التعليم المصري، الذي يعاني أصلًا من أمراض مزمنة، منها فصل التعليم عن الثقافة، وغلبة الاستظهار والحفظ على النقد والإبداع، وغياب المناهج المربوطة بإمكانيات البيئة المحلية بغية الاستفادة منها، وتطويرها، بطريقة أكثر جدوى، إلى جانب الازدواجية بين تعليم مدني وآخر ديني، والتشتت داخل التعليم المدني بين محلي وأجنبي، والأخير مربوط بالثقافات الوارد منها، ما يؤدي إلى تخريج أجيال من الغرباء والمغتربين ثقافيًا ونفسيًا في أوطانهم.
وإصلاح كل هذا، حتى لو تطلب تخصيص جزء كبير من ميزانية عامة، أغلبها تم جمعه من الضرائب التي يدفعها المواطنون، فإن عائده يكون عظيمًا في المستقبل. فالتعليم الجيد هو إكسير التقدم، والإنفاق عليه بسخاء، يعطي عوائد لا حد لها، تجعل من أنفق لا يندم بل يغتبط. إن كل خطوة على طريق التعليم الجيد، توفر خطوات على طرق أخرى، لابد لأي دولة أن تسلكها كي تتقدم، أو حتى تحافظ على وجودها.