"عندما يصل الثائر إلى الحكم لن يمارس ما كان ينادي به، بل يتحول إلى سلطة شبيهة بالتي كان يعارضها"، تحولت هذه الجملة بالنسبة لكثيرين منّا من فرضية إلى يقين مطلق، ذلك بسبب خبراتنا التاريخية السابقة مع كل الثوار حول العالم، خاصة في دول العالم الثالث، عندما انتصرت ثوراتهم فحكموا.
فسَّرنا تلك الظاهرة أحيانًا بأن "الكرسي يغيِّر من يجلس عليه"، وجعلنا تفسيرنا بمثابة قانون كوني، يحكم كل الأشخاص في كل زمان ومكان. لكنَّ الأمر ليس كذلك على إطلاقه، فهناك من المناضلين الثوار من وصل إلى الحكم والتزم بما نادى به من قبل، ما يدفعنا إلى التفكير في أنَّ المشكلة قد لا تكون في "الكرسي"، بل في من يجلس عليه.
كثير منا يعرف پاولو فريري؛ المربي والفيلسوف المناضل البرازيلي الذي قبع شهرين ونصف الشهر في سجون الانقلاب العسكري عام 1964، ثم نُفي خارج البرازيل لمدة 16 عامًا. وكثير منا يعرف فلسفته وأفكاره في التعليم والتربية كأفعال تحررية تبني وعيًا نقديًا لدى الطلاب، فتجعلهم يقرؤون الواقع الذي يعيشون فيه لتغييره للأفضل.
رفض فريري الحكم المتسلط على جميع المستويات؛ بدايةً من إدارة البلاد انتهاءً بإدارة الفصول في المدارس، ومثلما دعا إلى ضرورة مشاركة الشعب في وضع سياسات البلاد، طالب بـ"دمقرطة المدرسة"، عبر الاستماع إلى آراء السكان عند وضع سياساتها، وألَّا يقوم الخبراء بتصميم المقررات الدراسية بمفردهم لتُقدَّم جاهزة إلى المعلمين بل يجب وضعها بشكل تشاركي، آخذين في الاعتبار خبرات الطلاب أنفسهم. تلك كانت الأفكار التي كان يدعو إليها پاولو فريري منذ أن بدأ عمله معلمًا للغة البرتغالية، واستمر في المناداة بها طيلة فترة نفيه وما بعدها، وضمَّنها جميع كتبه.
من المنفى إلى الوزارة
ومع سقوط الحكم العسكري في البرازيل عام 1985، كانت المدارس الحكومية في أوضاع يُرثى لها، فكثير منها لم يكن بها طباشير، ومقاعد التلاميذ مكسورة والأسقف آيلة للسقوط وأسلاك الكهرباء عارية وبرك مياه الصرف الصحي في أرضيات الفصول والفئران تجول في كل مكان، بالإضافة إلى وجود كثير من الأعمال الإنشائية المعلقة التي بدأت ولم تُستَكمَل.
صعد حزب العمال الاشتراكي إلى الحكم، وفي يناير/كانون الثاني عام 1989 انتُخِبت الناشطة الاشتراكية وأحد مؤسسي الحزب لويزا إيروندينا عمدة لولاية ساو پاولو، وعلى الفور اختارت پاولو فريري عضو الحزب ليكون وزير التعليم في الولاية.
مع توليه منصبه، تعهد فريري بتغيير وجه التعليم الحكومي، ليعلن في لقاء تليفزيوني "نحن عاهدون وملتزمون بإعادة بناء نظام التعليم الحكومي الذي تم إفساده خلال سنوات الحكم العسكري عن عمد من قِبل الأيديولوجية العسكرية لرغبتها في تدمير قطاع الدولة لصالح سياسات القطاع الخاص".
فهل نفذ فريري ما تعهد به؟ في البداية كانت هناك أمامه أزمة كبيرة تتعلق بأن المدارس المتاحة لا تكفي أعداد السكان، خاصة مع زيادة معدلات الإقبال على التعليم من الأطفال والكبار أيضًا. لم يكن ممكنًا بالطبع بناء فصول جديدة في وقت قصير، لكن فريري لم يستسلم أو يخرج إلى الناس ليخبرهم أن الميزانية عاجزة بسبب النظام البائد، بل فكَّر في استخدام كل ما يمكن استخدامه كفصول دراسية؛ فمن ناحية استخدم الفصول المدرسية في فترات مسائية، ومن ناحية أخرى لجأ إلى المجتمع المدني لتوفير ما يحتاج من أماكن للدراسة، فحوَّل قاعات النقابات ومقرات الجمعيات الأهلية والكنائس إلى فصول خاصة في الأوقات المسائية، حيث لا أحد يستخدمها، فتمكَّن عشرات الآلاف من الالتحاق بالتعليم.
كما كان لا بد من تغيير المقررات الدراسية بما يلبي احتياجات الطلاب، مع الأخذ في الاعتبار المعرفة التي لديهم، وهنا شكَّل فريري لجنة لتصميم المقررات الدراسية، ليس فقط من الخبراء من مؤلفي المقررات، بل ضمت أيضًا أكاديميين ومفكرين وعلماء اجتماع وعلماء نفس وفلاسفة وسياسيين وفنانين وحقوقيين.
يحكي فريري في كتابه تربية المدينة أن أولى مهام اللجنة وقبل البدء في تصميم المقررات، كانت تحليل مفهوم الممارسة التعليمية من أجل الوصول لفهمٍ نقديٍّ لماهية الممارسة التعليمية، بهدف الوصول لشكل المقررات الدراسية. وبعد فترة من العمل، اجتمعت اللجنة مع مجموعات جديدة ضمت مديري مدارس ونُظار أقسام ومشرفي مواد ومعلمين وطلاب وأولياء أمور وأيضًا عمال وفراشي المدارس، وليس ذلك فقط بل وأيضًا ضمت بعضًا من القادة المجتمعيين وأعضاء الحركات الشعبية بالولاية، لتقييم ومناقشة ما أنجزته اللجنة، ولتتعرف بدورها منهم على الواقع المدرسي الحقيقي وما شكل المدرسة التي يحلمون بها.
شغل تدريب المعلمين وتأهيلهم اهتمامه كمسؤول عن التعليم. وهنا، تجنب فريري برامج التدريب المعتادة التي تعتمد على المحاضرات، واعتبرها تعليمًا بنكيًا يحصر المعلم في وضع المتلقي الذي نملأ رأسه بتعليمات عليه اتباعها في ممارسته التعليمية. وبدلًا منها، اختار أن يكون تدريب المعلمين "لا بنكيًا"؛ يكتشف أثناءه المعلمون النظرية بأنفسهم من خلال تدبرهم للممارسة التي يقومون بها، فيقول "سيجري حوار حول ممارسة المعلمين. سيتحدثون عن مشكلاتهم والصعوبات التي يواجهونها، ومن خلال تدبر الممارسة التي يتحدثون عنها، ستظهر نظريات حول الممارسة".
الوزير الذي يتعلم
كان فريري يزور المدارس مرتين في الأسبوع، ليس للتفتيش والرقابة ومعاقبة المقصرين، أو حتى ليتأكد بنفسه أن كل شيء يسير على ما يرام، بل كما ذكر في "تربية المدينة"، أن زياراته كانت للاستماع إلى المعلمين والطلاب، والمديرين ومشرفي المواد، وعمال النظافة وبائعي المقصف، والتعرف على ما يواجههم جميعًا من مشكلات.
بالطبع شكَّل تدني مرتبات المعلمين مشكلة كبيرة لفريري، ولأنه يؤمن بأن المعلم لا يمكن أن يمارس عملًا جيدًا وهو يتلقى أجرًا لا يكفي لمعيشته، كان عليه أن يرفع أجور المعلمين، لكن كانت هناك أزمة مالية، خاصة مع الاحتياج لإصلاح البنية المدرسية المدمَّرة.
قبل أن يمر أسبوعٌ على تولي فريري مسؤولية وزارة التعليم وفي خضم هذا الاحتياج المالي، تلقى عرضًا من البنك الدولي بتقديم قرض بخمسين مليون دولار، ولكن أثناء مناقشة شروط القرض مع وفد البنك، وجد في أحدها أن القرض لن يذهب إلى الحكومة، بل سيُقدَّم لمنظمات مجتمع مدني يُطوَّر التعليم بواسطتها، ولتمويل أمور يحددها البنك الدولي.
هنا ثار فريري في وجه الوفد رافضًا العرض، ويحكي عن هذا الموقف في إحدى الندوات التي ضمنها في كتابه تربية الالتزام فيقول "عندما تكون استقلاليتنا في خطر، وعندما يمكن أن تضر مصالح الشعب، لا بد أن نقول لا".
لم يكن توفير المال اللازم لتلك النفقات ممكنًا بدون تغيير في سياسات الإنفاق للولاية، وهنا قام پاولو فريري بمناقشة مسألة ميزانية الولاية مع عمدة الولاية لويزا إيروندينا، ليس منفردًا، بل أحضر معه ممثلين شعبيين ليشاركوا في اتخاذ القرارات، ويقول عن هذه التجربة في كتابه "تربية المدينة"؛ "ليست مشاركة أعظم من هذه المشاركة في وضع ميزانية الإنفاق العام". وبالفعل تغيرت سياسات الإنفاق بهذه الممارسة الديموقراطية، وبعد أقل من أربعة أشهر من توليه المسؤولية، زادت مرتبات المعلمين ثلاثة أضعاف، قبل ربطها بمعدل التضخم.
كان من أهم أهداف فريري كما يقول "خلق حوار بين الحركات الشعبية والمُربين، وبين الحركات الشعبية والطلاب، وبين المربين والعلماء". وفي سبيل ذلك في غضون ثلاثة أشهر من توليه الوزارة أسس المجالس التربوية في المدارس؛ التي تضم بالإضافة إلى ممثلين عن فريق عمل كل مدرسة، ممثلين أولياء أمور الطلاب ونشطاء من المجتمع المدني، ينتخبون جميعًا كل عام، ويجتمعون أسبوعيًا لمناقشة المشاكل التي تواجههم. وكانت من إنجازات هذا المجلس تقديم التدريب التربوي لأولياء الأمور.
في مايو/أيار عام 1991 أي بعد سنتين ونصف السنة من توليه المهمة، أتم پاولو فريري عامه السبعين، وهو سن التقاعد في البرازيل. لم يستمر في منصبه أو بالأحرى مسؤوليته، رغم سهولة ذلك كون حزبه لا يزال في الحكم وبإمكانه تغيير القوانين "لما في صالح الناس"، خاصة وأن إنجازاته حقيقية وهناك منطق لأن يستكملها، لكنه احترم القانون، وتقاعد تاركًا للآخرين فرصة استكمال إنجازاته بل وتحقيق إنجازات جديدة، لأنه يؤمن بقدرات الآخرين، ويثق بهم.