
جولة في مقرر محذوف.. ماذا خسر المصريون بإلغاء الفلسفة
قبل بدء العام الدراسي الحالي 2024-2025 بأسابيع قليلة، فاجأنا وزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف بعدة قرارات تخص المرحلة الثانوية، أبرزها إلغاء تدريس مادة الفلسفة لطلاب الشعبة الأدبية للصفين الثاني والثالث، ليدرسها الطالب مرةً واحدةً فقط في حياته الدراسية في الصف الأول الثانوي.
لم يفصح الوزير مباشرةً عن أسباب هذا الإلغاء، لكن الإجابة نجدها في تصريحاته عن ربط المواد الدراسية باحتياجات سوق العمل. فعند كل حديث عن التعليم في مصر، دائمًا ما تتردد عبارة "ربط التعليم باحتياجات سوق العمل"، أي أن يتعلم الطلاب ما يسهّل حصولهم على فرص عمل بعد التخرّج.
لكن فرص العمل ليست هدف التعليم الوحيد؛ بل يقع على رأس أهدافه تقديم إنسان مؤهل لخوض شتى مناحي الحياة، وما الوظيفة إلا إحدى هذه المناحي. وكل مادة يدرسها الطالب تُكسبه معارف ومهارات تساعده على أن يكون إنسانًا أفضل، ليس فقط في حياته المهنية، لأن على الإنسان أن يفهم ويعي أيضًا الواقع الاجتماعي المُركَّب الذي يحيط به.
كيف يحيا
هنا يأتي دور الفلسفة، لأنها المادة التي تُعلم الطالب التفكير والتحليل وتشكيل مواقفه مما يحدث حوله. أو كما وردت في مقررها للصف الثاني الثانوي، الذي حذفه الوزير، أنها "لا تُعلم الطالب كيف يفكر فحسب، بل أيضًا كيف يحيا". ونظرة إلى المحتوى الذي كان مقررًا في السنتين، تجعلنا نرى كيف كان يساهم في تشكيل الإنسان الصالح ومن ثَمَّ بناء المجتمع السوي.
يركز مقرر الفلسفة للصف الثاني الثانوي على تعليم الطلاب مهارة "التفكير الفلسفي"، الذي من خصائصه، كما جاء في المقرر المحذوف، الحوار وقبول النقد، إذ يجب أن يعي الفرد أن عقله مساوٍ لعقول الآخرين، وأن كل ما يطرحه قابل للنقد والرد من الآخرين.
كيف لا تصبح هذه الأفكار ضرورية في وقت تغيب فيه ثقافة الحوار وتتصاعد النزاعات بين الناس بسبب اختلاف وجهات النظر، حيث يعتقد طرف أنه أكثر فهمًا وحكمةً من الآخر، وقد يزداد النزاع الذي يذهب في الكثير من الأحيان إلى ساحات المحاكم أو يتطور إلى عنف؟
ثم يتناول المقرر موضوع "المذاهب الأخلاقية" التي عرَّفها بأنها "رؤية الفيلسوف لجوهر السلوك الأخلاقي الفاضل"، فيستعرض على مدار ثماني صفحات مجموعة من المفاهيم في هذا الإطار مثل السلوك الأخلاقي والضمير والخير والشر. وهنا يشرح للطالب كيف تصدر السلوكيات الإنسانية الشريرة، وكيف يتم ضبطها من وجهة نظر عدد من الفلاسفة على مر التاريخ. وهذا التناول يساعد الطالب على أن يكون مدركًا لسلوكياته من الناحية الأخلاقية بشكل نقدي، وتلك العقلانية في التمييز الأخلاقي بين الخير والشر كثيرًا ما تكون أكثر فاعلية وتأثيرًا على الطالب من تقديم النصائح والإرشادات الأخلاقية بشكل تلقيني.
أما القسم الثاني من المقرر فيتناول "التفكير المنطقي"، الذي تأتي أهميته من إكساب الطالب مهارة تعينه في المواقف الحياتية المختلفة، فهذا التفكير الذي يؤدي بالفرد للاختيارات الصحيحة في حياته، وهو الذي يساعده على حل مشكلاته، كما أنه نمط التفكير الأساسي المستخدم في البرمجة.
ضد التعصب
لنترك الصف الثاني الثانوي ونذهب إلى الصف الثالث، الذي حُذف مقرره أيضًا، وكان يستعرض فوائد "التفلسف"، الذي عرَّفه بأنه النشاط الفكري الذي يتناول حقائق الحياة واستخدام النظرة النقدية الفاحصة بدلًا من قبول الأمور على علاتها، وأثره على الإنسان وأخلاقه. ويؤكد أن بدونه، أي التفلسف، ينشأ التعصب ويتجه الإنسان إلى العنف، أو إلى السلبية.
لم يغفل المقرر الإشارة إلى أن البيئات التي تمنع نمو هذا النمط من التفكير، تزيد قابلية الناشئين فيها للتعصب وممارسة العنف، أو للسلبية والاستكانة. ومن هذه البيئات التي تمارس فيها السيطرة ويسود القهر، وذكر ثلاثًا؛ البيئة الأسرية التي لا تسمح بالحوار، والبيئة التعليمية التي تعتمد على التلقين، وأخيرًا أجهزة الإعلام التي لا تؤمن بتنوع الأفكار والآراء. وهي كلها ظواهر نرى آثارها المباشرة على حياتنا ومحيطنا.
ثم يتناول المقرر موضوعًا في غاية الأهمية وهو "التسامح الفكري"، الذي عرَّفه بأنه "التسليم المتفهم لوجود أفكار أخرى مخالفة لأفكاري وقبولها". لنتوقف قليلًا عند هذا المقطع ونستعيد الأحداث الطائفية المؤسفة التي ارتكبت ولا تزال نتيجةً لانعدام "التسامح الفكري"، وما خلفه من ضحايا. فعلى الرغم من أن تشكيل وعي جمعي بأهمية التسامح يحتاج لتضافر العديد من العوامل كالتنشئة الاجتماعية والإعلام، لكن يظل التعليم عاملًا تأسيسيًا في تكوينه.
ولنتخيل كيف سيكون شكل مجتمعنا إذا تمتع مواطنوه بهذا "التسامح الفكري"، بالطبع لن يضطهد أحدهم الآخر لاعتناقه دينًا أو معتقدًا مختلفًا، ولن يقمع ذو سلطة مَن تحته لأنه أبدى رأيًا معارضًا له. وهذه الثمار المباشرة التي يذكرها المقرر "يحقق المقدرة على التعايش بين الأفراد، من خلال المحافظة على حقوق الغير وتقبل الاختلاف بشتى مجالاته"، ثم يشدد على أن "تجعل هذه القيمة الإنسان قادرًا على الانفتاح على أفكار ومعتقدات الآخرين...".
يتضمن المقرر ما يتقاطع بشكل حقيقي مع أمور تمس حياتنا، ويقدم للطالب أفكارًا ومهاراتٍ، بل وقيمًا وأخلاقيات هو في أمس الحاجة إليها، حتى يكون مواطنًا مستعدًا للحياة مع مجتمعه، قبل أن يكون جاهزًا لسوق العمل. فلنتخيل ماذا ستكون شخصية هذا الطالب ومن ثم حال هذا المجتمع الذي يعيش معه عندما يقضي ساعات في قراءة واستذكار تلك المعرفة التي حذفها وزير التربية والتعليم.
تأثير الفلسفة
عندما تكون الفلسفة مادة أساسية مدرجة في المجموع سيضطر الطالب إلى قراءتها واستذكارها جيدًا، حتى لو جاء ذلك بهدف اجتياز الامتحان، ولا شك سيكتسب منها بعض الأفكار والمهارات بشكل تلقائي، مثلها مثل جميع المواد الأخرى التي يستذكرها أيضًا من أجل اجتياز الامتحان والحصول على أعلى الدرجات، فإنه يحصِّل منها الكثير من المعلومات وتظل في ذاكرته حتى بعد الانتهاء من المدرسة.
ولا يمكن بأي حال أن يُلمَّ طالب بما يلزمه من المعارف الفلسفية خلال سنة دراسية واحدة فقط، لا بد من سنوات متتالية، مثلها مثل الرياضيات واللغات والعلوم والدراسات الاجتماعية.. إلخ، التي يدرسها الطالب بشكل تراكمي مدة اثنتي عشرة سنة. كما يجب ألا تقتصر مادة الفلسفة على طلاب الشعبة الأدبية كما كان الحال من قبل، بل ينبغي تدريسها لجميع الطلاب.
لست مدرس فلسفة، بل عملت لفترة مدرس رياضيات وفيزياء بعد التخرج في كلية الهندسة شعبة الاتصالات.. إلا أن ما عاينته في مجتمع الطلاب، وفي المجتمع خارج المدرسة، أكد لي ضرورة تحصيل الطلاب لقدر من العلوم الإنسانية عمومًا والفلسفة خصوصًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.