من بدايات تعلمه الرياضيات في المدارس إلى أن يتخرج الطالب في كلية الهندسة ويصبح مبرمجًا، لا يمكنه الاستغناء عن دراسة الدائرة. الدائرة في الرياضيات هي الشكل المثالي لمعظم الاختراعات، وتعرَّف بأنها "منحنى مغلق أحادي البُعد ترسمه نقطة متحركة تبعد بمسافة ثابتة عن نقطة أخرى ثابتة". ترسم النقطة المتحركة حدودها، على مسافة متساوية من المركز، تُسمى نصف القطر. ولا نستطيع أن نحدد نقطة بداية لها ولا أن نحصي عدد أنصاف الأقطار.
مبدأ الدائرة
دراسة الدائرة من منظور الرياضيات كانت أساسًا للتقدم التكنولوجي من عربة أحمس الحربية إلى تروس الساعة وعجلات القطارات والسيارات وتروس الآلات الضخمة. وتوفر دراسة الهندسة دخلًا جيدًا للمهندس، ومع التوسع في استخدام التكنولوجيا الرقمية مؤخرًا زاد الطلب على المبرمجين أكثر من غيرهم.
احترام خصائص الدائرة في الرياضيات كاف لنجاح المبرمج كفرد، لكنه غير كاف لجعله جزءًا من مجتمع ناجح ومتماسك، حيث لا تستطيع دولة أو أمة أن تتقدم أو تبقى دون أن تحترم الفلسفة والفنون والآداب والتاريخ والجغرافيا والقانون.
أي دولة لا تنشأ إلا بسبب تكامل دائرتها مترابطة المحيط بعناصرها: الأرض والسكان والسلطة التي تنظمهم
الفلسفة، لا البرمجة، هي التي نبهتنا إلى احتواء الدائرة على مبادئ الوجود الجوهرية؛ اللا نهائية، والتماثل، والتكامل. في الفلسفة الأفلاطونية، تُعتبر الدائرة رمزًا للعالم المثالي، حيث يمثل الشكل الدائري الكمال والجمال الأزلي. وفي البوذية تشير "الإنسو" وهي الدائرة المرسومة بضربة واحدة، إلى الإضاءة والتنوير والتكامل.
هذه ليست سفسطة فارغة؛ فهذه المعاني ضرورة وجود لحياة الدولة واستقرارها واستدامتها، إذ لا غنى عن مبادئ التناغم والتكامل والسعي إلى الاستدامة في إدارة الدول. قوة الدولة؛ أي دولة، لا تنشأ إلا بسبب تكامل دائرتها مترابطة المحيط، بعناصرها: الأرض، السكان، والسلطة التي تنظمهم. لكل من العناصر الثلاثة عمله الذي يتكامل مع العناصر الأخرى.
الأرض هي الثروة التي لا يمكن التنازل عنها وهي التي تعلن عن وجود جماعة متماسكة. والناس هم القوة، سواعدَ وعقولًا، والسلطة هي الإدارة التي تجيد الحفاظ على الثروة والقوة أو تبددها. واجب السلطة بغرفها المتوازنة الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) أن تخطط وتنفذ ما يُصلِح الدولة، ولا شيء يصلح الدولة سوى احترام مبدأ الدائرة عند التخطيط للاقتصاد. فكل قطاع اقتصادي يؤثر على غيره بالسلب والإيجاب، حتى لو بدا أن أحد القطاعين بعيد تمامًا عن الآخر. لهذا لا يصح أن تصبح الحكومة تاجرًا يبيع بضاعة للسكان، فتقول: انظروا، بكم أستورد وبكم أبيع لكم!
مبدأ التكامل
ولن يُحقَّق نجاح أو يدوم إذا لم يقم على وعي تام بمبدأ التكامل بين الإدارة والسكان، وبين نشاط اقتصادي وآخر. المبادئ التي تنجح بها زراعة الجرجير تماثل المبادئ التي تجعل صناعة البرمجة ناجحة. احترام متطلبات الصنعة واحترام حاجة السوق من الجرجير والمبرمجين. والتكامل ضروري أيضًا لأن المبرمج يأكل الجرجير ويحتاج إلى المُزارع الذي يزرع الجرجير.
هناك مثل أحب التذكير به دائمًا وهو بوابة الخراب التي انفتحت مع ضرب زراعة القطن. تأذت دائرة واسعة من صناعات النسيج والزيوت والصابون والكيماويات والأعلاف، واستوردنا لتعويض النقص من كل ذلك، فساهم الاستيراد في انهيار العملة وساهم في جنون الاتهامات المتبادلة بين التاجر والمستهلك، وكلاهما بريء!
في ظل حتمية مبدأ التكامل في الاقتصاد، هل يجب أن نفرح بما نوفره من قطع الكهرباء ونتعامل مع ما نوفره بسبب هذا القطع باعتباره مكسبًا؟
المنطقي والذي نطالعه ونحسه هو عدم الرضا عن قطع الكهرباء وله كلفته السياسية
لا يمكن ادعاء وجود مكسب يحققه هذا الإجراء إلا بعد خصم الخسائر المالية من قطع الكهرباء وهي عديدة: ساعات العمل المفقودة بسبب القطع، المخاطر على الصحة وسلامة الناس في المصاعد والمراجيح وغرف الإنعاش، خسارة السمعة السياحية، وتكلفة استيراد مولدات كهرباء للمستشفيات والمطاعم والمحال التجارية وصالونات الحلاقة، وبعد ذلك تكلفة الطاقة التي تشتغل بها هذه المولدات، حتى إذا كان القطاع الخاص هو الذي يدفعها لا الحكومة.
وهناك الخسارة التي لا يمكن حسابها نقدًا، وهو ما نخسره من انخفاض تقييم الدولة سياسيًا واقتصاديًا لدى الجهات الخارجية، وحساب الخسارة بسبب تدهور شعبية السلطة. هل السكان سعداء بقطع الكهرباء؟ الذي نطالعه ونحسه هو عدم الرضا، وله كلفته السياسية.
إن وجدنا، بعد حساب الخسائر، أننا حققنا مكسبًا فأهلًا و300 مرحبًا بالظلام، أما الارتكان إلى ما وفرته الحكومة من مصروفها هي، فهذا يعني أن هذه الحكومة تهدر عامدةً مبدأ التكامل الذي يتضمنه شكل الدائرة. وتقول بأوضح عبارة: أنا شيء وأنتم شيء، وليس هذا من مبادئ وجود الدول.
مبدأ التناغم
ليس من عمل السلطة أن تكون حكيم القرية، فتجلس لتنصح الناس بالكيفية التي يأكلون بها أو التخصصات التي يجب أن يتعلموها. الحكيم وظيفته تأليف الكتب وكتابة المقالات في الصحافة والحديث في الإعلام ومنابر الخطابة، أما السلطة فوظيفتها اتخاذ القرار. هي التي تدرس سوق العمل وتخطط على أساسه عدد المقبولين في كل تخصص.
عند نشأة كلية الإعلام في جامعة القاهرة كان عدد خريجيها مئتي طالب في العام، يعمل أقل من ربعهم في المجال الصحفي والإعلامي وتذهب البقية إلى مهن أخرى، مع ذلك انتشرت أقسام صحافة وإعلام في جميع الجامعات كالفطر، تقبل أعدادًا مخيفة من الطلاب، فمن المخطئ في هذا؟ أولياء الأمور الذين لا يدركون أهمية البرمجة؟ أم الدولة ممثلة في وزراء تعليمها العالي ومجالس جامعاتها التي أقرت هذا الهزل، ومسؤولية برلمانها الذي لم يستنكره؟!
لا يتطلب إصلاح التعليم معجزة إذا كان هناك إيمان بمبدأ "التكامل" بين سلطة لديها إرادة التغيير ونخبة فاهمة تطلب السلطة مشورتها. مبدأ التكامل يجعل إصلاح التعليم الفني ضرورة لإصلاح التعليم الجامعي. لا بد من تحقيق جودة في التعليم الفني تُقنع الدارس بجدواه، ويتأكد من أنه يؤهله لحياة مهنية كريمة؛ فتتجه نسبة من التلاميذ طواعية إلى هذا النوع الضروري من التعليم، فيقل الضغط على الجامعة، ويسهُل إصلاحها وتخطيط مخرجاتها في تناغم مع سوق العمل.
التغيير بيد السلطة. وليس من المعقول أن توجه اللوم على فساد التعليم وخلل مخرجاته إلى ولي أمر الطالب الحائر بدوسيه ابنه في الثانوية العامة ويريد تسكينه في أي مكان شاغر بأي كلية. ويا حبذا لو انتهى الدوسيه في تخصص يحبه الطالب ويقبل عليه بشغف، عندها لن تكون نتيجة دراسة الفلسفة بأقل من نتيجة دراسة البرمجة، علمًا بأن الرياضيين الأوائل مثل فيثاغورث كانوا فلاسفة.
ومع ذلك لا تغني الفلسفة والبرمجة عن دراسة الجغرافيا والتاريخ اللذين يضعان الحدود بين دولة وأخرى، ويصنعان مبرر وجود الدولة الأخلاقي والمادي.
ينبغي على مصر أن تدرس نعمتها التي لا تحظى بمثلها الكثير من الدول: ثبات الجغرافيا وعمق التاريخ
على سبيل المثال: إسرائيل دولة باعتراف الأمم المتحدة، لكنها لم تعش ولن تعيش يومًا في سلام إذا لم تعرف لها حدودًا وتسعى إلى التشابه مع جيرانها والتكامل معهم، وإذا عرفت حدودها وارتضت بها، فيلزمها أن تعيش في سلام أطول مما عاشته في حرب ليصبح ساكنها مواطنًا مطمئنًا إلى اكتمال جغرافيته وتاريخه.
وقد تتمتع دولة بعنصر الأرض والحدود وسلطة طموحة، لكن بعدد سكان أصغر من طموحات سلطتها. هنا يصبح نجاح تلك السلطة مجرد عرض من أعراض مرض فرط الحركة الذي يعاني منه بعض الأطفال. والعكس صحيح كذلك؛ فقد تكون نكسة الدولة في وجود سلطة أقل مما تستحقه الجغرافيا والتاريخ وعدد سكان الدولة وخبراتهم.
وقد تتمتع دولة بعدد السكان المتناسب وبالمساحة المناسبة من الأرض وبالسلطة القوية، لكن يحل بها الخراب بسبب عدم التكامل وعدم التناغم بين السكان والسلطة بسبب الاستبداد، كما جرى في الاتحاد السوفيتي مثلًا، وهذا ما يرشح أمريكا لمصير التفكك نفسه إذا تواصل تزايد عدم التناغم بين إنسانية أجيالها الشابة وبين جشع ولا إنسانية نخبتها السياسية.
وإذا جاز لدول من كل هذه النماذج الكبيرة والصغيرة أن تلغي دراسة الجغرافيا والتاريخ، فلا يجوز ذلك لمصر، بل ينبغي عليها أن تدرِّس نعمتها التي لا تحظى بمثلها الكثير من الدول: ثبات الجغرافيا وعمق التاريخ.
الشعب الذي يتمتع بهاتين النعمتين عليه أن يعتز بهما، وأن يكون لديه متخصصون في الجغرافيا والتاريخ، وأن يحظى المبرمج من أبنائه بالقسط الوافر من المعرفة بهذه الأشياء التي لا تُشترى، قبل أن يَدرِس البرمجة.
بالفلسفة والتاريخ والجغرافيا والقانون نكون قد احترمنا المبادئ الفلسفية للدائرة التي يتأسس عليها وجودنا كأمة ودولة، فهل نستغني عن دراسة الأدب؟
للأسف، هذا غير ممكن أيضًا، لأن الأدب والفن يقومان على مبدأ "التناغم" والانسجام. ودراستهما هي التي تجعل مبادئ "الأبدية والتماثل والتكامل" تنسجم مع بعضها بعضًا وهي التي تصنع وجدانًا متشابهًا لشعب واحد. وهي التي تجعل من دارس البرمجة إنسانًا، منتميًا لمكان ما وجماعة بشرية محددة.
لنتصور مبرمجًا لم يدرِس سوى الرياضيَّات، لا يعترف بالأبدية والحساب والعقاب، ولا يعترف بشيء اسمه "وطن". هذا المبرمج سيجد نفسه بعد عشر سنوات خبرة يتقاضى من أربعين إلى خمسين ألف جنيه، وينبغي أن نحسبها بعملتنا لأن العملة من ركائز السيادة.
ولنتصور أننا دفعنا هذا المبرمج دفعًا لبيع خبراته للخارج، سيتقاضى بين خمسة آلاف وسبعة آلاف دولار في الشهر، وهذا هو الحد الأقصى للمبرمج شهريًا الذي لا تمنحه سوى شركات مثل مايكروسوفت وأمازون.
وإذ فجأة قد يجد هذا المبرمج عرض عمل بمئة ألف دولار لدى عدو يطلب منه الهجوم على بنية بلاده الإلكترونية. هل يتردد؟ ما المانع الذي يمنعه من قبول الوظيفة إذا لم يكن متحصنًا بكل المعاني التي لا تباع ولا تُشترى، والتي يتعلمها من دراسة الفلسفة والفنون والآداب والقانون؟!