للمرة الثانية خلال عامين، يوجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعلى الهواء مباشرة، نقدًا حادًا إلى مخرجات نظامنا التعليمي، طاعنًا في نوعية ومستوى خريجي الجامعات المصرية، الذين لا تتناسب مهاراتهم وكفاءتهم، من وجهة نظره، مع سوق العمل واحتياجاتها. وكأنهم هم من وضعوا السياسات والاستراتيجيات التعليمية، ويتابعون تنفيذها ويقيِّمون نتائجها، وليس الحكومات المتعاقبة التي طالما قدمت الحجر على البشر وأهدرت المليارات على مشروعات لم تؤتِ ثمارها بعد، وأهملت الإنفاق على ما هو أهم وأجدى للبلاد ومستقبلها.
ففي فبراير/شباط 2022، تطرَّق السيسي في كلمته خلال فعاليات المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية إلى تجربة وزارة الاتصالات في اختيار عدد من خريجي كليات هندسة الحاسبات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لتأهيلهم للعمل من داخل مصر، في شركات عالمية تسعى إلى توظيف متخصصين في مجال البرمجة.
وأشار الرئيس حينها إلى أنَّ 200 إلى 300 ألف خريج تقدموا لإجراء الاختبار، لم يصلح منهم وفقًا للمعايير الموضوعة سوى 111 خريجًا فقط، وهو ما أثبت له أنَّ التعليم المصري ليس بخير، "تعليمي تعبان.. اصحوا يا مصريين.. انتبهوا دي قضية كبيرة جدًا.. قضية إن إحنا نبني مواطن حقيقي.. قادر إن يبقى مواطن".
وانتقد الرئيس رغبة الأهالي في إلحاق أبنائهم بالجامعة دون النظر إلى ما تحتاجه سوق العمل "الآلاف من خريجي جغرافيا ولا تاريخ ولا بتاع.. العدد اللي بيتخرج مالهوش مكان".
وفي نهاية الشهر الماضي، وخلال افتتاح مراكز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية، أعاد الرئيس التذكير بقصة محاولة اختيار خريجي الهندسة والحاسبات للعمل مبرمجين، وذكر مجددًا أنَّ وزارة الاتصالات لم تجد سوى 111 خريجًا تنطبق عليهم المعايير، منتقدًا اندفاع الأهالي نحو إلحاق أبنائهم بكليات الآداب والحقوق والتجارة "طب هيطلع يشتغل إيه؟.. ويقول ما بيشغلوناش".
وقال السيسي "حد يقول لي الحكومة سياسات و.. وهي الحكومة اللي تعمل ده.. صحيح.. إحنا بنعمل استراتيجيات وسياسات تتنفذ، والحكومة بأذرعها أو بوزاراتها تعمل.. لكن لو ما كناش كلنا مع بعضنا نبقى فاهمين الفكرة، عشان نركز فيها، بتركزوا على إن الابن أو الابنة يجيبوا مجموع كويس أوي عشان يخش الطب والهندسة ولا بأس. بس خلي بالكم".
لا يشارك المواطن المصري في الاختيار بين برامج أحزاب أو مرشحين لتولي مواقع بالسلطة التنفيذية تتضمن سياسات واستراتيجيات، كما أنه يدفع ثمنًا باهظًا لو تجاسر وأبدى رأيًا ناقدًا لأداء وسياسات السلطة.
أيضًا لا يختار الشعب المصري من يصنع القرار، وحتى في الانتخابات "المُهندسة" التي تُجرى لاستكمال الصورة، لا يتمكن من معرفة البرنامج الانتخابي للمرشحين الأوفر حظًا، وبذات الطريقة لا يُمكَّن من انتخاب ممثليه الذين من المفترض أن يراقبوا أداء السلطة التنفيذية، وبالتالي، فالمواطن عادة خارج معادلة الحكم ودائرة صناعة القرار.
نظرة على الهند
لو كانت ناصية البلاد في يد المواطن صاحب السيادة والولاية الحقيقية، لاختلفت الأمور، ولصارت لدينا استراتيجية واضحة لإصلاح منظومة التعليم ضمن برنامج شامل لنهضة هذا البلد، الذي لاحت له العديد من الفرص لكنها أُهدرت نتيجة إصرار مجموعة أو فئة على احتكار كل السلطات، وحرمان باقي الشعب من المشاركة في صناعة القرارات والسياسات، أو حتى مراقبتها ومحاولة تصويبها.
بدأت الهند، تلك الدولة التي قارب تعداد سكانها على 1.5 مليار نسمة، مشروع نهضتها الحديثة بالتزامن مع استقلالها عن بريطانيا في نهاية أربعينيات القرن الماضي، أي في نفس الفترة تقريبًا التي استقلت فيها مصر تمامًا عن إنجلترا.
وبينما تعاني مصر من أزمات اقتصادية طاحنة أثرت على مستوى معيشة مواطنيها كما على استقلال قرارها السياسي، يتوقع مراقبون أن يصبح الاقتصاد الهندي ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول 2027، مع ناتج محلي يبلغ 5 تريليونات دولار، مرتفعًا من 3.7 تريليون اليوم، ومن المرجح أن ينمو بنسبة 7% في السنة المالية 2024 وبذات النسبة في 2025.
ورغم أنَّ الديمقراطية الهندية شهدت تراجعًا نسبيًا في السنوات الأخيرة، وفقًا لمؤشر الديمقراطية الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجموعة "إيكونوميست" البريطانية، الذي يصنفها ضمن البلاد ذات "الديمقراطية المنقوصة"، فإن ما مكن هذا البلد من حجز مكانه ضمن الاقتصاديات الكبرى في العالم هو استناده على قواعد النظم الديمقراطية، واهتمام حكوماته المتعاقبة بالتعليم والاستثمار في ثروته البشرية بتنمية قدرات ومهارات مواطنيه، الذين وصفتهم الباحثة البريطانية أنجيلا سايني بأنهم "أمة من العباقرة".
ففي كتابها الصادر في 2015 بعنوان "أمة من العباقرة .. كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم"، ترجع سايني الفضل في تفوق الهند وتمكنها من غزو العالم بالعلماء في المجالات الهندسية والطبية إلى رئيس الوزراء الهندي الراحل جواهر لال نهرو، الذي وضع قاعدة تعليمية أثمرت بفضل إتاحة مناخ ديمقراطي يضمن مساءلة ومحاسبة صناع القرار.
نهرو الذي أسس نهضة بلاده آمن بأنَّ العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجوع والفقر والخرافات
ودللت الكاتبة على نبوغ وتفوق الهنود بإحصاءات عالمية محققة، وأشارت إلى أنَّ واحدًا من كل خمسة عاملين في مجال الرعاية الصحية في بريطانيا هم من أصل هندي، لافتة إلى أنَّ نسبة المهندسين الهنود الذين يعملون في وادي السليكون في الولايات المتحدة تخطت ثلث العدد الكلي للتقنيين في تلك المنطقة التي تُصدِّر التكنولوجيا للعالم، فضلًا عن أنَّ نحو 750 مديرًا للشركات التقنية الكبرى في بريطانيا، هم من أصول هندية.
وتضيف سايني "تُعتبر الهند أكبر مصدِّر للعلماء والمهندسين في العالم، ففيها نحو 400 جامعة تقدم لسوق العمل سنويًا قرابة مليوني خريج، بينهم 600 ألف مهندس، وهناك نحو 16 معهدًا للتقنية تقدم هذا العدد الكبير من المهندسين والعلماء".
وتذهب إلى أن ذوي الأصول الهندية يشتهرون "بأنهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدّون ومهووسون بالحاسوب"، لافتة إلى أنَّ نهرو، الذي أسس نهضة بلاده، آمن بأنَّ العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجوع والفقر والخرافات، مستدعية ما جاء في خطابه عام 1960 "المستقبل للعلم، ولمن يتخذون العلم صاحبًا".
وتشير إلى أنَّ نهرو، خريج العلوم من جامعة كامبريدج البريطانية، تولى رئاسة وزراء الهند بعد استقلالها عن بريطانيا عام 1947 و"من أوائل الأشياء التي فعلها أنه وضع سياسة للعلوم وجعل نفسه رئيسًا لمجلس الأبحاث العلمية والاقتصادية وهو أكبر هيئة منتجة في مجال الأبحاث والتنمية في الهند".
حدد الهنود منذ عقود هدفهم، فذلك البلد الذي عانى سكانه من ثلاثية الفقر والجهل والمرض، لم يتمكن من منافسة الكبار إلا بوضع التعليم على أولوية اهتماماته، والتعامل مع البشر كثروة قومية تحتاج إلى إدارة واستثمار.
تمكنت الحكومات الهندية المتعاقبة من استثمار ثروة بلادهم البشرية لصناعة تنمية حقيقية، نقلوا إلى بلادهم تكنولوجيا صناعة البرمجيات والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية حتى صارت الهند من أكبر مُصدِّري التكنولوجيا في العالم، كما نجحت أيضًا في تصدير موردها البشري المُدرَّب إلى شتى دول العالم، وهو ما جعلها تتصدر دول العالم في تحويلات المواطنين العاملين بالخارج.
الاستثمار في البشر والإنفاق على التعليم والبحث العلمي، وتهيئة المناخ الديمقراطي الذي يسمح بالمراجعة والتصويب والمساءلة والمحاسبة، ليست ترفًا، فلن يضع بلد قدمه على طريق المستقبل إلا بترسيخ قيم الديمقراطية وممارستها على كل المستويات، وبالإنفاق على إصلاح التعليم، حينها يمكنه أن يُصدِّر مبرمجين وأطباء ومهندسين ومعلمين ومتخصصين في كل المجالات، ويمكنه أن يداوي عجزه ويحل أزماته الاقتصادية، دون منح أو ديون، فيستقل قراره، ويُعمل له حساب في محيطه.