صباح يوم خريفي، وقفت امرأة ترتدي خوذة الحرب تخبر التلاميذ الذين تجمعوا حولها أنها تعيش في عام 1942 في خضم الحرب العالمية الثانية، وأنها تعاني ويلاتها وتحاول التعايش معها.
استرسلت المرأة في الحكي وهي تواصل التحرك كأنها في معركة؛ تُغيِّر ملامح وجهها وترفع صوتها عاليًا أو تخفضه همسًا، ثم فردت أمام التلاميذ خرائط لساحات المعارك ووضعت أمامهم بعض القنابل وبطاقات الهوية؛ ودرَّبتهم على ارتداء قناع الغاز الكبير، وعلَّمتهم كيف يغطُّون نوافذ بيوتهم بالإمكانات البسيطة التي كانت متاحةً للناس في أربعينيات القرن الماضي، ليتواروا عن العدو النازي.
أخبرتهم عن عدوهم وعمَّا فعل، وهي تهمس لهم ببعض الأسرار العسكرية وتشدد عليهم ألَّا يخبروا بها أحدًا، بينما تتلفت حولها خشية أن يسمعها مار ويفشيها للعدو، فالخونة كثيرون.
لم تكن هذه وقائع تصوير عمل درامي يتناول أحداث الحرب العالمية الثانية، بل رحلة مدرسية إلى متحف Gunnersbury Park Museum في لندن، حضرتها مع ابنتي وزملائها في الصف السادس الابتدائي، ضمن مناهج المدارس الحكومية البريطانية. أما المرأة فلم تكن سوى موظفة بالمتحف.
العودة إلى قتال النازي
لستُ من ذلك النوع الذي يمجِّد الغرب وينبهر بأضوائه، لكنَّ وضع هذه الرحلة/الورشة التطبيقية ضمن مناهج الدراسة الرسمية أعجبني وجعلني أتذكر وأقارن كيف تعلمت التاريخ في مصر؛ الحفظ والتلقين آفة مناهجنا.
واصلت ابنتي وزملاؤها رحلة تعلُّمهم الممتعة مع الموظفة التي أخبرتهم أنها ستصرف لهم حصص طعام تكفيهم شهرًا كاملًا إذا كانوا يعيشون تلك الحقبة، وأن عليهم الحفاظ عليها جيدًا. كما أخبرتهم عن القصف الشديد الذي تعرَّض له الحي الكبير الذي يوجدون فيه الآن، وأسفر عن الكثير من القتلى. حكت لهم عن بشاعة الحرب العالمية الثانية، وكأننا لا نعيش مثلها وأبشع هذه الأيام!
وبعدما علَّمتهم كيفية إطفاء القنابل التي لم تنفجر بعد بالماء الذي استخدموا مضخَّةً لجمعه، طلبت منهم التعامل مع القنابل غير المنفجرة التي كانت تسقط على الرؤوس، ثم وضعوا كيس الرمل الكبير عليها؛ وأخيرًا أحضروا جاروفًا حديديًا وماسِكًا لإبعاد القنبلة عن المناطق السكنية.
كنت مثل التلاميذ مستمتعةً كما لم أستمتع في حصةِ تاريخٍ طوال دراستي كلها
بعد ذلك، أخذتهم لمعايشة مخبأ العائلة الآمن الذي يحميهم من القنابل والموت، وهناك شاهدوا ما يضمُّه من طعام وكتب ومجلات وألعاب لقضاء الوقت دون ملل، لأن البقاء في الملجأ قد يمتد أحيانًا لأيام.
بعدما أنهت الموظفة دورها؛ تقدَّمت زميلة لها تتقمص شخصيةً أخرى، حكت للتلاميذ عن دور النساء في الحفاظ على المجتمع بعد أن ذهب الرجال إلى الحرب، وكيف كان عليهنَّ الاعتماد على أنفسهنَّ في توفير الطعام الذي كان شحيحًا، وكيف قرَّرنَ التكافل وزراعة الطعام بعد أن كانت بريطانيا تعتمد على الاستيراد، خصوصًا وأن العدو قطع طريق السفن التي كانت تجلب المؤن.
بعد ذلك، خرج التلاميذ إلى حديقة المتحف للمشاركة في الحفر والزراعة والحصاد كما فعلت النساء وقت الحرب. ورغم تساقط المطر الشديد على الرؤوس، أكمل التلاميذ ما بدأوه، ليتعلموا كيف يتكيفون مع جميع الظروف التي تواجههم بشكل مفاجئ.
كنت، وأنا أشاهد كلَّ ذلك، أنقل نظري بين الموظفة والتلاميذ الذين كانوا يتفاعلون بتركيز واهتمام مع ما يحدث، والأهم أنهم كانوا مستمتعين. أنا أيضًا استمتعت بالورشة كما لم أستمتع في حصةِ تاريخٍ طوال دراستي كلها، وظل السؤال يراود عقلي؛ لماذا؟
إضافة إلى "لماذا"، فكرت في كيفية إدخال هذه الوسيلة التعليمية إلى مناهج بلادنا، نحن الذين نملك تاريخًا حافلًا نفخر بالكثير من محطاته الزاخرة بالمقاومة وتبنِّي القضايا العادلة، وبدلًا من ذلك ننقله إلى الأجيال الجديدة بطريقة التلقين المملّ، ما يفقدهم شغف المعرفة.
هنا؛ تخيلت مُدرِّسًا متقمِّصًا شخصية أحد قادة الجيش المصري المشاركين في حرب أكتوبر، وهو يخبر تلاميذه خلال زيارتهم إلى البانوراما بطريق صلاح سالم بالقاهرة، كيف استعدوا للحرب، ويعرض أمامهم الخطط والتكتيكات وأماكن تمركز قواتنا مقابل تمركز قوات العدوِّ الذي نعرفه جيدًا. أو مُدرِّسةً تُجسِّد إحدى النساء اللاتي قاومن العدوَّ في مدن القناة، وهي تنظم التلاميذ في تشكيلات للمقاومة.
كيف سيكون وقع ذلك على الطلاب؟ وكيف سيترسخ فيهم التاريخ قويًا، وماذا سيتعلمون عن تقلباته أيضًا؟
تعليم ممل في وطن ضائع
لكنني تذكرتُ أن لنظامنا المصري رأيًّا آخر؛ فهو يرفض تطوير التعليم، للإمعان في تجهيل الشعب كله والحد من وعيه بحقوقه محليًا وعالميًا، خصوصًا الأجيال الجديدة. لا يريدنا أن نعرف عن عدونا الأول، فيطلق أبواقه الإعلامية لإنكار أهمية دراسة التاريخ "إيه الاستفادة من دراسة التاريخ 3 سنين؟ بلاش شعارات وخلونا في إللي بيأكل عيش ويجيب تقدم"، في ترديد لفحوى كلام الرئيس نفسه عندما تساءل مستنكرًا قبل ثماني سنوات "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع؟".
يسعى نظامنا بكل جهده ليجعل انتماء المصريين إلى مؤسسات بعينها بعدما كان الانتماء للوطن فقط، ويرسخ في أذهانهم ووعيهم الجمعي سردية واهنة مُخلة، عن فرد واحد حاكم باعتباره "الوطن"؛ فإذا سقط هو سقط الوطن!
أضف على ذلك، أن النظام المصري لا يعتبر عدوَّنا المحتل عدوًا له، بل حليف وجار وصديق. لذا لن تكون لديه دوافع لتدريس حرب أكتوبر ومن قبلها سنوات الاستنزاف والمقاومة الشعبية بتلك الطريقة الممتعة؛ بل، لو كان الأمر بيده لمحا ذلك من كتب التأريخ والتحليل السياسي والاستراتيجي دون ذرة خجل.
أعلم أن جودة التعليم وطرق التدريس ليستا المشكلة الوحيدة التي تعانيها منظومة التعليم. لكنني أعلم أيضًا أن صانع القرار في بلادنا لو أراد لفعل، لتبقى الأسئلة هنا عن إرادته؛ هل سيصلح المنظومة التعليمية ويتيح حق التعليم والتوعية حتى لو أثّر ذلك على استقرار حكمه وإحكام سيطرته على البلاد؟
هل سيلتزم بالتمويل الذي أقرَّه الدستور للتعليم بعد سنوات من مخالفته؟ هل سيضع خطةً لتعيين وتدريب مدرِّسين برواتب لائقة في ظل العجز الكبير في أعدادهم؟
هل سيوفر بيئةً تعليميةً صحيةً وآمنةً للطلاب الذين بلغ تعدادهم 25 مليون طالبة وطالب في مراحل التعليم الثلاث؟ هل سيحافظ على أصول الدولة التعليمية أم سيمنح حق الانتفاع بها للأجانب أو بأصولها للمستثمرين كما يفعل الآن مع مستشفيات قصر العيني التعليمية وكلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان؟
ربما من واجبنا في هذه اللحظات أن نبتكر أساليبَ تعليميةً ممتعةً للأجيال الصغيرة، تعلمهم التاريخ والجغرافيا وتمييز الصديق عن العدو، وتكون إحدى وسائل مقاومة الزيف والتحلّل من هُويتنا.
لستُ صانعة قرارٍ نعم لكنني سأظل أمًّا تحكي لابنتها تاريخنا وتاريخ ثورات ربيعنا ومقاومتنا العظيمة وقضيتنا الأولى ما استطعتُ سبيلًا.