بإعلان نتيجة امتحانات الثانوية العامة، في أغسطس/ آب كل سنة، تنال الأسر المصرية هدنة قصيرة. وفي الشهر التالي تبدأ جولة جديدة في السباق الدراسي للعام التالي.
في مصر فقط سنة ثمة دراسية كبيسة عُرفية لا علاقة لها بالبدء الرسمي للدراسة. خطان متوازيان، لا مصالحة ولا اعتراف. صيغة من حرب باردة تريح المدارس بمديريها وموظفيها ومدرسيها وصولًا إلى أعلى المستويات الوظيفية، وترهق الأهالي بأكثر من 136 مليار جنيه سنويًا. الأهالي، في هذه الحرب، يستبعدون الهزيمة كخيار. شعارهم النصر أو النصر، يراهنون على أن التعليم سلاح ينقذ أبناءهم من الضلال، التعليم لا العلم. يجتهدون في هذه الخطوة، ويؤجلون إحباط ما بعدها، صدمة ما بعد التخرج.
قطاع التعليم دخل مرحلة ما بعد الفشل. الفشل لا الخطأ، فالخطأ يتبعه صواب ثمرة للتفاعل والنقاش في مجتمعات تسمح بالتفاعل والنقاش. الفشل يليه نجاح. لكن ما بعد الفشل هو استهداف الفشل.
احتاج أعداء الاتحاد السوفيتي إلى ميخائيل جورباتشوف، ليتحقق لهم نصر بلا حرب. ما قبل الفشل هو الارتجال لا الاستراتيجيات. في كتابه مصر الحديثة يذكر اللورد كرومر، عام 1892، أن غياب التخطيط عقبة كبرى أمام تقدم التعليم في مصر. مع تغير المسؤول "كانت المدارس تتعرض إلى ما يشبه العبث والتدمير، وكان الاتجاه السائد في كل مرة أن يقوم الوزير باتباع طرق وأساليب إدارية معاكسة لتلك التي كان يسير عليها سلفه".
أصبح "التعليم" لا العلم نظامًا، غير تعليمي وغير تربوي، مع سبق الإصرار.
يسخر الحمقى من دراسات الجدوى، يرونها بلا جدوى. أستاذ القانون الجنائي فتحي سرور تولى وزارة التربية والتعليم عام 1986، وبعد عامين قرر إلغاء السنة السادسة من المرحلة الابتدائية، بحجة "الفقر". وبعد أن أصبح رئيسًا للبرلمان عادت السنة التي سبق أن ألغاها. فأي فتحي سرور من الاثنين كان صائبا؟ (كتبتُ "فتحي شرور"، وانتبهت في المراجعة، وقلت إن عقلي الباطن ربما على صواب).
وفي عام 2013 قرر الوزير إبراهيم غنيم تحويل السنة السادسة إلى سنة نقل عادية، وليست "شهادة". فتحي سرور علل قراره الأول بنقص الاعتمادات المالية. وغنيم قال إن قراره يوفر للدولة خمسة ملايين جنيه. أما الوزير طارق شوقي فأكمل الدائرة.
كان المريض الألماني على حق، عام 2004، باتهامه حسني مبارك بالفساد والاستبداد. الرجل الذي لا يعرف مصر ولا مبارك قال إن الفاسد هو من يحكم بلده أربعة وعشرين سنة، ولا يبني مستشفى يعالج فيه من انزلاق غضروفي. والدكتاتور هو الذي لا يأمن لأطباء بلده أن يعالجوه، فيأتي إلى ألمانيا. وقامت ثورة 25 يناير 2011 على الفساد والاستبداد، واستهدفت بناء "دولة"، وإعادة النظر في مناهج التعليم لتكون عصرية، فإذا بالقوى المضادة للثورة تنسف الهامش المحدود للحريات، وتكاد تنهي مفهوم التعليم كعملية أكبر من تحصيل معلومات تُنسى بعد الامتحانات مباشرة. هكذا أصبح "التعليم" لا العلم نظامًا، غير تعليمي وغير تربوي، مع سبق الإصرار.
عام 2020 أعلن وزير التربية والتعليم الفني الدكتور طارق شوقي أغرب قرارات يمكن أن يتخذها مسؤول تربوي وتعليمي. فاصل جديد من كوميديا سوداء، "وان مان شو" يسمونه مؤتمرًا صحفيًا، لشعب لديه فائض من الكوميديا واكتئاب ما بعد فشل الثورة.
من تفاصيل الكوميديا حضور التلاميذ يومين في الأسبوع، مع تمييز رياض الأطفال حتى الصف الثالث الابتدائي بأربعة أيام. حضور للفرفشة فقط، فيحظر على المدرسين التدريس للتلاميذ في هذين اليومين. حتى في يومي اللعب، يمنع التدريس في المدارس. ولكن المدارس نفسها تستقبل الطلاب أنفسهم؛ ليتلقوا من المدرسين أنفسهم دروسًا خاصة مقابل أموال. نهاية صريحة لمجانية التعليم، وانتقام من حلم طه حسين.
تآمر أنور السادات وحسني مبارك على المصريين، بتقسيمهم إلى جزر تتفاوت أحجامها وقدراتها، وتعزلها أسوار نفسية، وإن تجاورت فلا تتفاعل. نجحت الخطة المخادعة عن طريق التعليم الذي أصبح مجالًا مضمونًا للاستثمار المحلي والأجنبي.
حتى أوائل السبعينيات كانت القسمة ثنائية بين تعليم رسمي مدني عام وتعليم ديني أزهري. يصعب الآن حصر أنواع التعليم ومستوياته. في التعليم الحكومي الرسمي: مدارس للتعليم العام (عربي)، ومدارس تجريبية (لغات) بمصروفات، ومدارس المعاهد القومية (لغات) بمصروفات. وتوجد مدارس أجنبية ودولية ومدارس استثمارية (عربي، ولغات) يملكها أفراد. كما لجأت الجامعات الحكومية إلى منافسة الخاصة والأجنبية في التجارة والاستثمار، وتوجد أيضًا الجامعات الأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية واليابانية والكندية.
لم يكن التعليم أداة تعذيب للأهالي أو أبنائهم، والمدراس الحكومية مؤسسات يحتفظ فيها "المعلم" بهيبة مصدرها الإخلاص في أداء مهامه، فلا يضطر التلميذ إلى "استئجار" مدرس. علاقة تنزع الكبرياء، يد التلميذ هي العليا، والمدرس يتسوّل ويتوسّل.
النظام الغبي يتفنن في التعامل معه مدرسون محترفون، يتفرغون للدروس الخاصة، ولا يتسولون كالمساكين القدامى المتنقلين من بيت إلى آخر.
ذكر تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن المصريين، عام 2020، ألقوا إلى محرقة الدروس الخاصة بأكثر من 136 مليار جنيه. كان التعليم الحكومي تربيةً وتعليمًا ورحمةً بأولياء الأمور، وأتاح ذلك النظام المجاني تكافؤ الفرص. والآن تتعهد مراكز الدروس الخاصة (السناتر) بحشو الأدمغة بالمعلومات، والتدريب على مهارة اجتياز الامتحانات، ومنع التفكير، اكتفاء بإجابة نموذجية، ولو عن سؤال وضعه متنطع يقول: ما جمع كلمة وحي؟
ما جمع كلمة وحي؟ أفلت واضع السؤال من الاتهام بالتآمر على العقول. جلال أمين أدهشه ثبات أسئلة امتحان مادة الاقتصاد في جامعة لندن. ظن خطأ ما أدى إلى تكرار الأسئلة، فأخبرته أستاذة المادة أن الأسئلة ثابتة، لكن الإجابات تتغير. والوزير المصري يقول إن امتحان الثانوية يعتمد على النظام الإلكتروني، ويخاصم الاجتهاد البشري، في الإجابة أو تصحيحها. نظام آلي يعلّب العقول، وينسف الخروج على الإجابة النموذجية، ويكرس ثلاثية التلقين والحفظ والتذكر، ويستبعد أسئلة تحدد القدرة على الفهم والاستيعاب والاختلاف والابتكار والاستنباط والاستدلال. للتصحيح الإلكتروني، بالطريقة الأمريكية، وجهان، صح وخطأ. أما مهارات التعليم، باعتباره "عملية" تربوية، فتشمل الحفظ والتذكر والتحليل والمقارنة والإبداع.
النظام الغبي يتفنن في التعامل معه مدرسون محترفون، يتفرغون للدروس الخاصة، ولا يتسولون كالمساكين القدامى المتنقلين من بيت إلى آخر. أباطرة السناتر موهوبون في تحفيظ التلاميذ الإجابة النموذجية، ويحتشد السنتر الواحد بأعداد تزيد على تلاميذ عدة فصول مدرسية.
العقد بين الطرفين بالتراضي، والمليارات تتدفق، والمدارس فارغة، والدولة التي تراقب التغريدات والدردشات تتعامى عن الأوكار الموجودة في كل مكان، وتهدد بقطع الخدمات عنها. وسيلة عاجز لا يعي أن المدرس الذي يقبض الملايين لا يعجزه تدبير الكهرباء. وأخيرًا أعلنها المدير العام للشؤون القانونية هشام جعفر "تتم مخاطبة وزير المالية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحصيل الضرائب المستحقة".
الدولة لا تحصل ضرائب إلا عن الأنشطة المشروعة، فهل تفتح الضرائب بابًا للاعتراف بالسناتر بدلًا من المدارس؟ ربما تسري العدوى، فتصيب أباطرة الأنشطة المحظورة، ويفرحون بأداء الضرائب؛ ثمنًا للسماح بممارسة أنشطتهم علانية. وقد ترتبط الضرائب برفع قيمة الدروس، وزيادة الأعباء على الأهالي، فيفكرون في النجاة من هذا النظام العقيم، لضمان مستقبل آدمي لأبنائهم. سيكون الهروب إلى المدارس الأجنبية، ومنها إلى الجامعات الأجنبية في مصر، أو التعليم في الخارج ولا يرجعون إلا موعودين بوظائف نوعية، وفرص عمل أكثر تميزًا. ويقوى نفوذهم فيكون أحدهم خليفة للوزير الدكتور طارق شوقي، ويزداد ثراؤهم فينفقون ببذخ على حملات انتخابية تحملهم إلى البرلمان، ويشرّعون قوانين طبقية.
السناتر تضمن النجاح والتفوق. لكنها ستدمر النظام التعليمي الذي يربط الطلاب بالمدرسة، ويحقق التفاعل الإنساني بين الطلاب والمدرسين والإدارة.
سيصبح التعليم للأثرياء. يعيشون في حماية الأسوار، ويتعلمون بأموالنا، ليتحكموا في مصائرنا.
وفي ظل التوازي الذي بدأتُ به المقال، لا يستشار خبراء المناهج وعلوم التربية بشأن مستقبل 23.5 مليون طالب، منهم 700 ألف في الثانوية العامة. وينتظرون انتهاء توزير مستشرق سوف يخلفه وزير، مستشرق أيضًا، بخطة استشراقية جديدة، تذكرنا بملاحظة اللورد كرومر عن غياب التخطيط في سياسة التعليم. المدارس الآن بلا تعليم، وربما نشهد سناتر بلا تعليم. ويخرّج اللا نظام نخبة تلقت تعليمًا نوعيًا، لزوم إدارة البلاد، كان منها جمال حسني مبارك وشلته، وقد أنقذتنا منهم ثورة 25 يناير. نجونا، وغرزنا من جديد.
أشاد كرومر بما سماه الإدارة المستنيرة لناظر المعارف سعد زغلول، "ومستشاره السيد دنلوب"، إذ "جرى التخلي عن الأساليب القديمة في مصر، والتي كانت تقوم على شحن الذاكرة بدون تدريب العقل". أراد انتقاء صفوة، تتعلم لتحكم. يذكر روجر أوين في كتابه عن كرومر أن الحاكم الإمبريالي رفض الوقوع في فخ التوسع في تعليم الذين لا يدخلون ضمن النخبة، ليتفادى "الفائض" من متعلمين قد "يتسببون في الهياج السياسي. "وكان انحياز كرومر لهذه الفكرة واضحا حتى إنه رأى أن التعليم المصري يخرج من يثيرون المتاعب". واستهواه تطبيق البريطاني في الهند لتخريج "هنود يتمتعون بخصائص الهوية الأوروبية وقيمها الأخلاقية التي تعد متطلبًا أساسيًا للإدارة".
كان الإنفاق على التعليم، عام 1902، أقل من واحد في المئة من بند المصروفات في الموازنة. ويعلق أوين "فلا عجب أن نجد المصريين على اختلاف مواقعهم يتحدون في الهجوم على سياسة كرومر التعليمية، فذهبوا إلى أن فرصة التعليم ليست متاحة إلا لعدد محدود من أبناء الأثرياء، وأن التعليم يتم باللغة الإنجليزية دون الاهتمام بالتاريخ والثقافة الوطنية".
جادل كرومر بعدم وجود التمويل الكافي، وقلده الوزيران فتحي سرور وإبراهيم غنيم. وأدت سياسة كرومر إلى زيادة نسبة الأمية، وتؤدي اللا سياسات الحالية إلى النتيجة نفسها، وتكريس نخبة تسيطر على مستقبل البلاد. سيصبح التعليم للأثرياء. يعيشون في حماية الأسوار، ويتعلمون بأموالنا، ليتحكموا في مصائرنا.