مثلما كانت مقترحات "تجريم الدروس الخصوصية" وإجراءت "تشميع السناتر"، وإحالة المدرسين إلى التحقيق، محاولة للتغطية على عجز السلطة عن إصلاح المنظومة التعليمية التي تدهورت بشكل بالغ في العقود الأخيرة، فإن مقترح حوكمة أو "تقنين" مراكز الدروس الخصوصية، دليل على فشلها في وضع حد لذلك الانهيار الذي تبدت آثاره مع بداية الموسم الدراسي الجديد.
كان لوزير التعليم السابق طارق شوقي تصورات لتطوير المنظومة التعليمية، لكنها لم تناسب الواقع والمعطيات القائمة. كان يحلو للرجل دائمًا نقل تجارب دول سبقتنا بعقود، فسعى إلى دفع الطلاب والمعلمين إلى التعامل مع منصات للمعرفة الإلكترونية كأداة بحث بديلًا عن الكتاب المدرسي، وأراد تعميم التابلت في الامتحانات على جميع المراحل، في وقت لا تزال فيه البنية التكنولوجية في مدارس القرى والنجوع متدنية للغاية.
كان ضمن تصورات شوقي غير القابلة للتحقيق، فكرة القضاء على الدروس الخصوصية، فالوزير الذي لم يتمكن من حل أزمة التكدس وعجز المعلمين في المدارس، طرح في نهاية 2018 مقترحًا تشريعيًا لتجريم الدروس الخصوصية يقضي بمعاقبة "كل من شارك فى هذه الجريمة بغرامة تبدأ من 5 آلاف جنيه حتى 50 ألف جنيه، مع تشديد العقوبة إلى السجن من سنة إلى 3 سنوات إذا كرر المتهمون جريمتهم".
وهى خطوة كان يراها الوزير السابق حتمية لتنفيذ سياساته لتطوير التعليم، بعد أن بلغت ميزانية تلك المراكز أكثر من 110 مليارات جنيه سنويًا، فى حين لا تتعدى ميزانية الوزراة نفسها الـ90 مليار جنيه، وفق تصريحاته حينها.
استبق شوقي تحويل المقترح التشريعي إلى قانون (لم ير النور حتى تاريخه)، وأصدر قرارًا بمنح صفة الضبطية القضائية لأعضاء الإدارة العامة للشؤون القانونية بالوزارة ومديريات التربية والتعليم، لتمكينهم من وقف نشاط "سناتر" الدروس الخصوصية بدعوى أنها "تمارس نشاطًا غير قانوني"، وتَوعد المدرسين المشاركين فيها بالفصل وإحالة منظميها للقضاء.
لم تؤت حملات شوقي ثمارها، ورغم أن عمليات "تشميع" مراكز الدروس الخصوصية وملاحقة العاملين بها لم تتوقف حتى بداية الموسم الدراسي الحالي، بحث أولياء الأمور والطلاب الذين فقدوا الثقة في المدارس عن بدائل سواء في "سناتر" داخل جمعيات أهلية مرخصة، أو في المنازل، أو حتى أونلاين.
قرارت ونوايا شوقي وحديثه أن "الدروس الخصوصية مضيعة للوقت، ولن تفيد الطلاب ولا تخدم نظام التقييم الجديد في الامتحانات الذي يعتمد على الفهم ونتاج التعلم والابتكار"، لم تحل أزمات تكدس الطلاب فى الفصول، وسوء مستوى الأبنية التعليمية، وتدهور الكتاب المدرسى، وتخلف المناهج، وتدني مرتبات غالبية المدرسين، بالإضافة إلى ازدواجية نظامنا التعليمي ما بين حكومي وخاص ودولي.
رسالة شوقي التي أراد النواب "الطرمخة" عليها هي أن الكرة ليست في ملعبه، بل في ملعب صاحب القرار الحقيقي
تحت ضغوط الهجوم النيابي والإعلامي المتكرر، نطق الوزير بالسبب الحقيقي للأزمة، ولخصه في "عدم تخصيص الحكومة ميزانية كافية" للنهوض بنظام التعليم ولا بتطوير المنشآت التعليمية المتهالكة ولا بمنح المدرسين الرواتب التي تكفيهم عن "اللف على السناتر والبيوت".
في مواجهة صريحة مع لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب قال الوزير قبل ثلاث سنوات "كل ما نطلب مبالغ مالية نحصل على ما هو أقل منها.. وأعداد الطلاب تتضاعف، ووضع المناهج وتأليفها يكلفنا ملايين، ولو أردنا أن يستمر التطوير يجب أن نضخ أموالًا، ولو ما أخدناش اللى عايزينه المرة دي، مشروع تطوير التعليم هيقف، ودا مش تهديد، عايزين 11 مليار جنيه فوق المعتمد من المالية، مش هكمل من غيرهم، والوزارة هتقفل".
وعندما واجه النواب شوقي العام الماضي بنفس المشاكل التي تحاصر وزارته، أعاد الوزير ما سبق تأكيده "الأزمة تتلخص في الفلوس"، محملًا الحكومة مسؤولية نقص الموارد المالية.
رسالة شوقي التي أراد النواب "الطرمخة" عليها هي أن الكرة ليست في ملعبه، بل في ملعب صاحب القرار الحقيقي الذي وجه الاعتمادات والميزانيات لبناء مدن جديدة ومقرات حكومية فارهه وضن على مشروع بناء المستقبل الحقيقي لمصر "التعليم".
ذهب شوقي، وصفق النواب بقوة تهليلًا لرحيله أثناء جلسة عرض التعديل الوزراي على البرلمان منتصف أغسطس/آب الماضي، وخلفه نائبه رضا حجازي الذي لم يجد حلًا لأزمة تسرب الطلاب من المدارس المتهالكة ولجوئهم إلى مراكز الدروس الخصوصية سوى "شرعنة السناتر"، معلنًا أن وزراته بصدد "حوكمة مجموعات التقوية والدروس الخصوصية".
أوضح حجازي خلال كلمته أمام مجلس النواب الأسبوع الماضي، أن الحكومة ستقوم بـ"ترخيص سناتر الدروس الخصوصية"، وإعطاء المعلم الذي يُدرس بها رخصة "حتى نضمن سلامة البيئة التي يدرس فيها الطلاب من جهة، وتأخذ الدولة حقها من جهة أخرى"، مؤكدًا أن عوائد الدروس الخصوصية تقارب 47 مليار جنيه سنويًا، لا تعلم الحكومة عنها شيئًا.
لو فعلتها الحكومة وشرعت في تنفيذ مقترح الوزير لأحدثت شرخًا مجتمعيًا من شأنه تعميق حالة التمييز الطبقي
على عكس سلفه الذي كان يتحدث عن عودة الطلاب إلى المدارس وتغيير منظومة التقييم لكي تعتمد على الفهم والابتكار وليس الحفظ والتلقين، قرر حجازي ضرب الغاية الأساسية من عملية التعلم في مقتل. وبدلًا من طرح تصور يمكنه، ولو بشكل تدريجي، حل أزمات التكدس وعجز المعلمين في المدارس لجأ إلى حل "تيك آواي"، يرفع عن كاهله ووزارته وحكومته أي التزام ليس تجاه الطلاب وأولياء أمورهم فحسب، بل تجاه مصر ومستقبلها.
مقترح الوزير الصادم يعني اعتراف الدولة بالتعليم الموزاي بديلًا للمدرسة، وأن الحكومة تحولت رسميًا من مقدم خدمة مجانية إلى "جابي" يقتسم غنيمة الدروس التي يجمعها المدرسون من عرق أولياء الأمور.
بحسب تقرير سابق للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تتكلف الدروس الخصوصية 42% من دخل الأسر التي يعيش نحو 30% منها تحت خط الفقر. أرباب تلك الأسر، ومن أجل ضمان مستقبل أفضل لأبنائهم، يعملون فوق طاقتهم حتى يتمكنوا من دفع فاتورة عجز الدولة عن القيام بدورها في توفير تعليم جيد لأولادهم.
لو فعلتها الحكومة وشرعت في تنفيذ مقترح الوزير الذي أشار أنه ناقشه مع رئيس الوزراء، لأحدثت شرخًا مجتمعيًا من شأنه تعميق حالة التمييز الطبقي التي تعاني منها البلاد في العقود الأربعة الأخيرة، فمن يملك ويقدر يدفع للحصول على تعليم جيد لأولاده، ومن لا يملك فعوضه على الله في مستقبلهم. وهو ما قد يتسبب في اضطرابات مستقبلية تقضي على ما بقى من تماسك المجتمع.
لا أعتقد أن السيد الوزير فتح دستور 2014 الذي أقسم على احترامه، فلو مر على المواد التي تتحدث عن ملفه لعرف أن المشرع الدستوري ألزم الدولة بمجانية التعليم وتوفيره وفقًا لمعايير الجودة العالمية، واعتبره حق لكل مواطن يهدف إلى بناء الشخصية والحفاظ على الهوية، إلى آخر ما جاء في المادة 19.
استراتيجة التنمية المستدامة "رؤية مصر 2030" التي تتغنى بها الحكومة منذ إطلاقها في 2016، اعتبرت أن الهدف الأسمى من التعليم "خلق مواطن متعلم متدرب قادر على التفكير"، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال "إتاحة التعليم والتدريب للجميع بجودة عالية دون التمييز، وفي إطار نظام مؤسسي، وكفء وعادل". وظني أيضًا أن لا الوزير، ولا من ناقشهم، مروا مرور الكرام على تلك الاستراتيجة قبل أن يُطلق أفكاره النيرة.
حديث حجازي لا ينسخ الاستراتيجية أو الدستور فقط، بل يعكس أيضًا غياب أي تصور للنهوض بالتعليم الذي ينخفض مؤشر جودته، طبقًا لتقارير التنافسية العالمية، التي أرجعت تأخره إلى "عجز النظام التعليمي عن تحقيق مخرجات تعلم تمتلك المهارات والقدرات اللازمة للانتقال لسوق العمل. وذلك لأن التعليم الحكومي (...) يعاني من تدهور"، بحسب ما أورد الدكتور سامي نصار أستاذ أصول التربية في دراسة له بعنوان "الحق في التعليم في مصر".
باختصار، نظامنا التعليمي الضعيف في الأساس، الفقير في الإمكانيات، الهزيل في المردود، سيُقضى عليه بالضربة القاضية في حال تحول ذلك المقترح إلى تشريعات وإجراءات. ولو مددنا الخط على استقامته فلا نستبعد أن تتحول مدارسنا الحكومية وأفنيتها إلى مراكز تجارية تتراص فيها الكافيهات والسوبرماركت ومحطات الوقود على غرار ما جرى مع العديد من الحدائق والمتنزهات العامة.
في كتابه مستقبل الثقافة في مصر أكد طه حسين أن التزام الدولة بتوفير التعليم ضرورة من ضرورات الأمن القومي "لابد من أن تدبر الدولة ما يحتاج إليه ذلك من المال، كما تدبر ما يحتاج إليه الدفاع الوطني من المال".
التعليم إذن هو خط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري، هو أداة تغيير الحاضر وصناعة المستقبل، فلا نهضة ولا تنمية ولا تقدم ولا استقرار من دون مشروع لتطويره تتوفر له الميزانيات والعقول وكل الإمكانيات.