في اجتماع الـ orientation الذي تعقده مدرسة أولادي بداية كل سنة دراسية، قالت المسؤولة "ابننا (التلميذ) بيتخرج من عندنا وهو متعلم تعليم مختلف، واسمنا معروف في كل مكان"، ذكرني حديثها بالدعاية الشهيرة التي تكتب على واجهات المحلات "لسنا الوحيدون لكننا متميزون".
هل لاحظت أني كتبت orientation بالإنجليزية دون ترجمتها إلى العربية؟ حسنًا، هذا مقصود. استطاعت المدرسة أن تجعل هذه الكلمة مصطلحًا نستخدمه في حياتنا العادية مثل الـsupplies الذي لو استبدلته مصطلح مستلزمات مدرسية، سينظر لي الآخرون نظرة "بلدي أوي يا أستاذ".
ربما هاتين الكلمتين هما الأكثر تداولًا إلى جانب كلمة "الماميز"، بين أولياء الأمور. وهي كلمات تعكس رغبة لدى المدرسة لتأكيد أنها "مختلفة" وتعليمها أجنبي. تلتقي هذه مع رغبة أولياء الأمور بالشعور بالتميز، وأن "فلوسهم ماراحتش هدر".
هذه الرغبات المتبادلة من النأي بالنفس عن البقية تعبّر بصدق عن طبقية التعليم في مصر، والذي تحول من وسيلة لفهم ما حولنا إلى فرصة للترقي الطبقي، حتى لو بمجرد الشكل عن طريق "عوج" اللسان، ونطق أي كلمة إنجليزية.
طريق الأفندية
عرف المصري منذ عشرات السنين أن التعليم هو فرصته الوحيدة للترقي الاجتماعي، والتحول من فلاح بائس إلى أفندي، وخاصة مع بداية إلزامية التعليم مع محمد علي. وبذلك تكونت مع النصف الأول من القرن العشرين "طبقة الأفندية"، وأصبحت "الطبقة الأكثر تأثرًا وتأثيرًا بالأحداث السياسية والأزمات الاقتصادية بمصر"، بحسب دراسة "طبقة الأفندية فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين" للدكتورة عبير حسن عبد الباقي.
أطلق لفظ الأفندية في عهد محمد علي أولًا على تلاميذ المدارس الحديثة، بحسب الدراسة. ولأن الهدف الأساسي من إنشاء هذه المدارس كان إعداد موظفين للعمل في الدواوين التي استحدثها الوالي، فانسحب المسمى على الموظفين أيضًا، ثم امتد بعد ذلك ليشمل المحامين والصحفيين والكتاب والأدباء.
هذه الطبقة كانت شديدة التأثير فى الأحداث العامة، بل وتسلمت راية الزعامة السياسية من المشايخ المعممين الذين شغلوا تلك المكانة طوال القرن التاسع عشر، وأصبح الأفندية قادة الرأي والفكر ونجوم المجتمع.
لذلك، وربما بشكل لا إرادي، تشكّلت داخل الوعي الجمعي قناعة بأن التعليم، ثم ارتداء البدلة والطربوش، هو طريق الخلاص الوحيد من سوط الباشا. وهو ما نجده حاضرًا في سير ذاتية مثل "الوسية" لخليل حسن خليل و"الأيام" لطه حسين.
ولذلك، يتمتع الأطباء والمهندسون دومًا، والمحامون على فترات، بإجلال كبير، لأن هذه الفئات كانت عادة تحصل على فرص أكبر من غيرهم في التوظيف والحصول على دخل أعلى، وبالتالي الصعود الطبقي. غير أن ما كان يعتقده المصري في السابق بأن التعليم وسيلة للترقي الاجتماعي وخطوة لإذابة الفوارق الطبقية لم يعد واقعيًا الآن.
تحول التعليم من حق اجتماعي يعزز العدالة، إلى نظام طبقي في ذاته، ليصبح أحد دلالات الطبقية الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يفسر اختيار أسماء أجنبية للمدارس، واعتماد اللغات الأجنبية في المراسلات، وفرض شروط قبول على شاكلة حصول والدي التلميذ على مؤهلٍ عال وتولي أحدهما منصبًا مرموقًا.
لا يمكن النظر للتعليم بمعزل عن الوضع الاقتصادي؛ فمن يملك المال يمكنه تعليم أولاده بالمدارس الدولية، وحتى تلك متفاوتة فيما بينها. أما من لا يملكون الكثير من المال، لكن بوسعهم تدبير مبلغ معقول، فيمكنهم الذهاب إلى مدارس اللغات، وهي أيضًا متفاوتة، لكنها في الغالب تقدم تعليمًا جيدًا.
أما من لا يملك إلا القليل من المال فلا مفر من التعليم الحكومي، حيث الفصول كثيفة والمدرس مُنهَك وطريقة التعليم عقيمة. لكنهم بالطبع أفضل ممن لا يملكون مصروفات التعليم نهائيًا ومنها الدروس الخصوصية والكتب الخارجية.
أكذوبة مجانية التعليم
نعيش منذ عقود في أكذوبة كبيرة تسمى مجانية التعليم، بينما الحقيقة أن وزارة التربية والتعليم تصدر كل عام قرارًا بقيمة المصروفات لكل مرحلة دراسية، التي لن يتمكن التلميذ من استلام الكتب، وأحيانًا دخول المدرسة، إلا بسدادها.
وبينما يقتطع الإنفاق على التعليم نحو 38.6% من متوسط إجمالي إنفاق الأسرة المصرية، وفقًا لبحث الدخل والإنفاق لعام 2019/2020، تذهب 28.3% منها إلى الدروس الخصوصية.
تأتي هذه النسبة الكبيرة من الإنفاق على التعليم كنتيجة طبيعية لانخفاض مخصصات التعليم في الموازنة العامة للدولة، ففي الوقت الذي نص دستور 2014 على إلزام الدولة تخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل 6% من الناتج القومي الإجمالي، لم تلتزم الحكومة بذلك الحق الدستوري. بل وتحايلت عليه منذ إقرار الدستور وحتى الآن وفق تقرير لمدى مصر يشير إلى أن الحكومة ترى أنها استوفت الاستحقاق الدستوري لاعتمادها على تعريف معدل الإنفاق على التعليم، والذي يسمح بتضخيم الإنفاق، وكذلك تطبيق مفهوم الناتج المحلي بدلًا من الناتج القومي، بسبب ندرة البيانات حول الأخير.
وعليه استطاعت الحكومة أن تحرم التعليم من مبالغ كبيرة كان لها مردودا كبيرا على التعليم الحكومي على كل المستويات، بداية من بناء وتجديد المدارس، ومرورًا بتعديل رواتب المدرسين والعاملين، ووصولًا إلى الأنشطة المدرسية التي باتت محرمة على المدارس الحكومية.
وبالتالي أصبح على من يريد أن يتمتع أولاده بأساسيات تعليم جيد أن يدفع الكثير، لينأى بهم عن 22.5 مليون طالب في التعليم الحكومي، من أصل نحو 25 مليونًا في المدارس المختلفة، ويحميهم من النظرة الدونية.
يدرس هؤلاء التاريخ من وجهة نظر المحتل السابق، وهو ما يفصلهم عن باقي مجتمعهم ويخلق تيارين لا يمكنهما الالتقاء
ولا تتوقف الأزمة بانتهاء الدراسة، بل كلما كان النظام التعليمي أغلى كانت فرصة الخريجين منه أكبر في سوق العمل، سواء الحكومي أو الخاص. ففي نفس الشركة الخاصة الآن راتب الموظف الحاصل على تعليم دولي يختلف عن راتب نظيره الحاصل على تعليم حكومي، وفرصة الأول في الترقي والصعود في الشركة أكبر من الثاني، وهكذا يزداد الغني غنى والفقير فقرًا.
لكن هذه ليست النقطة الوحيدة، رغم أهميتها. فهناك دفعات تتخرج من الجامعات إلى مجتمع لا يعرفون عنه شيئًا، لا عن لغته ولا ثقافته ولا طبيعته؛ فمعظم طلبة تلك المدارس يتلقون تعليمًا غربيًا بلغة أجنبية. حكى لي صديق يدرس ابنه في مدرسة دولية فرنسية، أنه واجه أزمة عندما سأله ابنه "لماذا رفض المصريون حملة نابليون بونابرت واعتبروها احتلالًا، رغم أنها جلبت الحداثة إلى بلد فقير مغيب"؟
يدرس هؤلاء التلاميذ التاريخ من وجهة نظر المحتل السابق، وهو ما يفصلهم عن باقي مجتمعهم ويخلق تيارين لا يمكنهما الالتقاء، وإنما يتوقع أن يحدث بينهما تصادم يؤدي إلى ازدياد الفجوة في المجتمع الواحد، ليس فقط في التعاملات اليومية، وإنما في طريقة النظر إلى مشاكل الدولة التي نعيش فيها جميعًا.
في كتاب مستقبل الثقافة في مصر (1935) لطه حسين، أشار إلى واحدة من أكبر الأزمات التي واجهت التعليم في مصر وقتها، وهي وجود نظامين مختلفين للتعليم؛ المدني والديني. كان يرى أن هذا يخلق أزمة في المجتمع، فكيف يتعامل مواطنان حصل أحدهما على تعليم مدني يرى أن الحل في بناء الأمة هو الفكر الليبرالي أو المدني، والثاني يرى أن بناء نفس الأمة هو في عودتها للمنهج الإسلامي.
كان هذا رأي طه حسين عن نظامين محليين فقط للتعليم، بالإضافة إلى التعليم الأجنبي الذي كان موجودًا أيضًا لكنه كان في العادة مقصدًا لأبناء الجاليات الأجنبية، أو عدد قليل من أبناء الباشوات المصريين، فما بالك بالتعدد الموجود حاليًا في أنظمة التعليم.
قبل أن ينتهي اجتماع الـ orientation وشرح ما يجب وما لا يجب داخل المدرسة، حذرتنا المسؤولة من "البيت ثم البيت أرجوكم، إحنا بنعمل اللي علينا عشان ولادنا يكونوا مميزين ودوركم تأكدوا اللي بنزرعه في الأولاد".