قبيل بداية العام الدراسي الحالي 2024/2025 أتمت الطفلة رهف عمر أحمد، المتعايشة مع متلازمة داون، 6 سنوات، وهي السن القانونية للالتحاق بالمدارس الابتدائية، لكن والدها لم يتعجل في إلحاقها بالدراسة بهذا الوقت نظرًا لأن قوانين وزارة التربية والتعليم تسمح لمن في مثل حالة رهف بالالتحاق بالصف الأول الابتدائي حتى سن التاسعة، إلا أن رسالةً قرأها على جروب واتساب غيّرت كل خططه.
فوجئ عمر بأن غالبية المدارس الخاصة تشترط لقبول الطفل من ذوي الإعاقة ألا يتجاوز عمره عند التقديم سن 7 سنوات، وأن يكون أتم مرحلتي الحضانة "كي جي 1" و"كي جي 2" في حضانات معتمدة من وزارة التربية والتعليم.
يقول عمر لـ المنصة "كانت طفلتي في حضانة عادية ولم تلتحق بحضانة معتمدة ورُفِضَت في أكثر من 20 مدرسة خاصة بحجة عدم وجود فصول مخصصة لدمج ذوي الإعاقة"، ليجد نفسه في سباق مع الزمن للعثور على مقعد لطفلته في إحدى المدارس التي تتضمن فصول دمج وتوفر البيئة المناسبة لذوي الإعاقة.
السبب الذي رُفِضَت بسببه رهف في غالبية المدارس الخاصة يتعارض مع قوانين الوزارة التي تلزم جميع المدارس بإتاحة نسبة 5% من مقاعدها للأطفال ذوي الإعاقة.
هذه ليست أزمة رهف ووالدها فقط لكنها تنسحب على آلاف الأطفال، إذ يوجد نحو 160 ألف تلميذ وتلميذة مقيدين في نظام الدمج التعليمي بجميع مدارس التعليم بأنواعه ومراحله المختلفة، ممن يعانون ظروفًا مشابهةً، إضافة إلى أولياء أمور آخرين يئسوا من المحاولة وأحبطتهم تجارب الآخرين وأثنتهم عنها.
ويعني الدمج إدخال الطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة في نظام التعليم العام مع الطلبة العاديين؛ إذ يوفر لهم الدعم والخدمات اللازمة لتمكينهم من تحقيق أقصى إمكاناتهم التعليمية.
أبواب مغلقة وبدائل معقدة
"في البداية قررنا أن نتجه إلى المدارس الحكومية. هناك نسبة محددة من الأماكن مخصصة لطلاب الدمج، لكنها تتطلب اختبارات ذكاء. خضعت رهف للاختبارات واجتازتها، لكن المشكلة أن الفصول الحكومية مزدحمة جدًا"، يتحدث عمر عن الخيارات التي بدأ يستكشفها لحماية فرص طفلته في التعليم.
وتساءل "كيف يمكن لطفلة مثل رهف، التي تحتاج رعاية خاصة ومتابعة دقيقة، أن تندمج في فصل به 60 تلميذًا ومعلم واحد بالكاد يستطيع إدارة الصف؟".
وللخروج من هذه المعضلة، نصح البعض والد رهف بأن يقدم في مدرسة حكومية، ويتفق مع الإدارة بشكل ودي "عشان نعفيها من الحضور اليومي وتروح الامتحانات بس"، أو اللجوء للاتجاه الثاني المتمثل في "أنها تتعلم home schooling أو التعليم المنزلي، لكن كنت متردد لأني لو سجلتها في مدرسة حكومية وبعد شوية حبيت أنقلها لمدرسة خاصة هيبقى صعب لكن العكس صحيح".
في مدارس الحكومة لا رعاية مناسبة ولا مناهج تُنمّي قدرات الأطفال
على ذكر التعليم الحكومي، وبينما كان عمر محتارًا في تسجيل رهف، عانى محمد شاور من تسجيل طفليه من ذوي الإعاقة؛ عبد الله الذي يبلغ من العمر 9 سنوات، ومالك الذي يبلغ من العمر 7سنوات. "من البداية، حاولنا نعمل اللي علينا عشان ندمجهم في التعليم، لكن الموضوع مش سهل"، يقول محمد لـ المنصة.
ويسرد الصعوبات التي واجهته لدى إلحاق طفليه بإحدى المدارس الحكومية في محافظة الشرقية "كنا فاكرين الإجراءات واضحة، لكننا فوجئنا بتعقيدات غير مفهومة؛ كل شوية حد يقول لي ورقة هنا وتصديق هناك، لحد ما جه حد من الإدارة وعرض علىّ إنه يختصر كل ده مقابل ألفين جنيه، للأسف ما كنتش شايف حل غير كده، فاضطريت أوافق".
كان اليوم الأول لعبد الله ومالك في المدرسة صعبًا، صُدِم والدهما مما سمعه منهما عقب العودة إلى المنزل "الولاد رجعوا البيت بيكرروا كلام قاسي سمعوه من زمايلهم. ولاد صغيرين تنمروا عليهم وأذوهم، نفسيًا وجسديًا. الولاد ماكانوش واعين كفاية إزاي يدافعوا عن نفسهم، وما لقتش رعاية ولا رقابة من المدرسة فقررت ما يروحوش تاني إلا وقت الامتحانات، ما كنتش حابب يمروا بالتجربة دي تاني".
غياب الرعاية في المدارس الحكومية كان الأزمة نفسها التي عانت منها إسراء عطية والدة الطفل إياد الملتحق بمدرسة أبو شحاتة في محافظة الإسماعيلية.
تقول لـ المنصة "أطفالنا في مدارس الحكومة مظلومون، لا رعاية مناسبة ولا مناهج تُنمّي قدراتهم، ويتعرضون لتنمر يمتد مصدره أحيانًا إلى أولياء الأمور، والمدرسين".
لم تلحظ إسراء أي تطور في مستوى تعليم إياد على مدار سنتين قضاهما في المدرسة فأخذت بنصيحة أصدقاء لها بإلحاقه بمركز خاص للتأهيل، وبالفعل كانت نصيحة موفقة إذ شهدت الأم تطورًا كبيرًا في مستوى طفلها بعد أشهر قليلة.
هل المدارس الخاصة الحل؟
بينما لجأت إسراء لإلحاق ابنها بمركز تأهيل، خاض عمر رحلة طويلة للبحث عن مقعد لرهف في مدرسة خاصة ظنًا منه أن البحث في المدارس الخاصة أسهل من الحكومية لكنه اكتشف أن عددًا كبيرًا من هذه المدارس لا يقبل حالات الدمج "قدمت لها في أكثر من 15 مدرسة خاصة في محيط المعادي والمقطم، كلهم رفضوا، وفيه 3 مدارس قالت بنقبل لكن هنرد عليكم لو في مكان".
وسع عمر من دائرة بحثه وإن حمله هذا المزيد من الأعباء المالية، وفكر في إلحاق ابنته بمدرسة خاصة "إنترنشونال" تُدرس النظام التعليمي الأمريكي، يقول "سمعنا إنه أسهل من النظام الناشونال، لأنه يعتمد على تقييم الطلاب بطرق متعددة وليس على الامتحانات النهائية فقط"، وبعدما قدم للمدرسة كل الأوراق المطلوبة للتقديم لم تحدد له إدارة المدرسة موعدًا لاختبار رهف ولم يتواصل معه أحد.
يشير إلى أن أسلوب "عدم الرد" قابله في أكثر من مدرسة، "بيستلموا الورق ويقولوا لنا هنبلغكم بموعد الاختبار والمقابلة وبعدين يختفوا"، مضيفًا بأن أغرب سبب رفض سمعه في رحلته مع المدارس الخاصة هو أن طفلته "ما ببتكلمش"، لافتًا إلى أن هذا السبب أحد أكثر الشكاوى الشائعة لأولياء الأمور في الجروبات الخاصة بهم على السوشيال ميديا.
وعدم قبول الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يعد مخالفة صريحة للكتاب الدوري رقم 9 الصادر عن وزير التعليم السابق رضا حجازي، في نهاية فبراير/شباط الماضي، بشأن تخصيص نسبة 5% للطلاب ذوي الإعاقة البسيطة، كنسبة زائدة عن الكثافة المقررة بالمدارس الخاصة بنوعيها، والمدارس التي تطبق مناهج ذات طبيعة خاصة (دولية).
تحفظ وزارة التربية والتعليم الشكاوى ضد المدرسة الممتنعة عن قبول الطلاب
حسب بيان الوزارة، فإن دوافع القرار تتمثل في "رصد إحجام عدد من المدارس الخاصة عن قبول ذوي الإعاقة البسيطة بالمخالفة للقانون رقم 10 لسنة 2018 بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والقرار الوزاري رقم 252 لسنة 2017".
وتضمن القانون عقوبات متدرجة ضد المدرسة التي ترفض قبول هؤلاء الطلاب تبدأ بالإنذار وتصل إلى إلغاء الترخيص.
أزمة رهف سبق وواجهها الطفل نوح، حين حاولت جدته حياة مخلص تسجيله في عدد من المدارس الخاصة، وقوبلت محاولاتها بالرفض.
يعاني نوح من متلازمة أسبرجر التي جعلته لا يتحدث إلا اللغة الإنجليزية، فضلًا عن إصابته بطيف التوحد، وتقدمت جدته بشكوى لوزارة التربية والتعليم ضد مدرسة قبلت نوح في الحضانة ورفضت نقله إلى الصف الأول الابتدائي، وردت عليها الوزارة بإبلاغها بتشكيل لجنة لفحص الشكوى، وبعد فترة أبلغتها بحفظها، وحفظ طعنها على القرار.
شروط خاصة وسماسرة
لا يعاني أولياء أمور الأطفال ذوي الإعاقة من صعوبة تسجيل أبنائهم في المدارس فقط، لكنهم يعانون أيضًا مما سمّاه عمر "تمييزًا سلبيًا في الشروط"، موضحًا أن "المدارس الخاصة شروطها قاسية، مصاريف مضاعفة، تصل إلى 60 ألف جنيه سنويًا للطفل من ذوي الإعاقة وهو ضعف ما يدفعه الطفل العادي في الفصل نفسه، إضافة إلى اشتراط وجود شادو تيتشر أو معلمة خاصة ترافق الطفل طوال اليوم الدراسي، وهو أمر مكلف ماديًا أيضًا".
49.9 في المائة من ذوي الإعاقة أمّيون وحصل 5.4 في المائة منهم فقط على شهادات جامعية
يوضح عمر أن الشادو تيتشر يجري التعاقد معها بشكل منفصل، وتتحمل الأسرة تكاليفها التي تتراوح بين 8 و10 آلاف جنيه شهريًا. "يعني بنتكلم عن حوالي 150 ألف جنيه في السنة مصاريف".
يفتح هذا الوضع السوق أمام من يسميهم عمر "سماسرة مدارس الدمج"، يقول "اكتشفنا وجود سماسرة بيسهلوا التسجيل ويعدونا من الاختبارات ويخلصوا الشروط مقابل مبلغ مالي بيتم الاتفاق عليه".
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، تقدمت النائبة فاطمة سليم، عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة موجه إلى وزيري التربية والتعليم والتضامن الاجتماعي، بشأن التحديات التي تواجه طلاب الدمج في المدارس، جاء فيه أن التعليم رغم كونه أحد الحقوق الأساسية التي تضمنها الدولة، فما زال يواجه عقبات على أرض الواقع رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة لدعم ذوي الإعاقة.
واقع الدمج التعليمي في مصر
طلب الإحاطة يشير إلى فجوة كبيرة بين ما تتحدث عنه الحكومة من دعم ودمج لذوي الاحتياجات الخاصة والتنفيذ على الأرض الذي يعاني من أوجه قصور كبيرة، تنعكس في بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء التي تشير إلى أن 49.9% من ذوي الإعاقة أميون، بينما حصل 5.4% منهم فقط على شهادات جامعية.
تشير ياسمين السيد، الاختصاصية النفسية ومسؤولة برنامج الدمج في إحدى المدارس بمحافظة الشرقية، إلى أزمتين أساسيتين في التعامل مع أطفال الدمج؛ أولاهما ندرة مراكز التأهيل الحكومية، واضطرار الأهالي للجوء إلى مراكز خاصة بتكاليف مالية مرتفعة، والثانية العجز الكبير في أعداد المدرسين المؤهلين للتعامل مع أطفال الدمج.
لذلك تقترح استحداث نظام تعليم خاص بالأطفال ذوي الإعاقة، يكون شاملًا التحاق الطفل بمدرسة ومركز تأهيل تابعين للوزارة حيث يتم تدريس المناهج بطريقة تتناسب مع قدراته الذهنية، ويحضر في المدرسة لدمجه مع الأطفال.
وتضيف لـ المنصة "الإعاقة الذهنية تختلف عن باقي أنواع الإعاقات، فالكفيف يمكنه التعلم باستخدام طريقة برايل، والمعاق حركيًا يمكنه الذهاب إلى المدرسة بمساعدة كرسي متحرك. لكن الإعاقة الذهنية تحتاج إلى خطة خاصة بناءً على درجة ونوع الإعاقة".
وتكمل "رغم وجود قصص نجاح نادرة، مثل التي ألهمت أحداث مسلسل حالة خاصة، فإن الواقع يشير إلى أن الوصول لمراحل تعليمية متقدمة، مثل الجامعة، يتطلب دعمًا نفسيًا وماليًا كبيرًا من الأسرة. وفي حال غياب هذا الدعم، يصبح من الصعب جدًا على الطفل وأهله تحقيق مثل هذا الإنجاز".
توجهت المنصة بأسئلتها للمتحدث الإعلامي لوزارة التربية والتعليم، شادي زلط، الذي رفض التعليق لحين مراجعة القرار مع المختصين، وبعد ذلك تواصلت معه المنصة هاتفيًا ومن خلال الواتساب لكنه لم يجب حتى نشر القصة.
تكللت رحلة بحث عمر عن مقعد لطفلته بالنجاح، إذ عثر على مدرسة خاصة قبلت تسجيل رهف دون إلزامها بالحضور اليومي. يقول "مش أحسن حل لكنه الأقل ضررًا، اتفقت معاهم متحضرش وربنا يقدرني أوفر لها مدرسين يجوا لها البيت". لكن آلاف أولياء الأمور مع أطفالهم من ذوي الإعاقة ما زالوا مستمرين في البحث.