في عام 2021، توفي زوج شاهندة أحمد تاركًا في رقبتها إعالة ثلاث بنات، اثنتان منهن في سن التعليم الأساسي، ورغم صعوبة الأوضاع المعيشية التي تتفاقم يومًا بعد آخر، لم تكن المصاريف المدرسية واحدة من تلك الأعباء المادية التي تؤرقها، قبل أن تغير وزارة التربية والتعليم كل شيء فجأة.
تُعفي الدولة الأيتام من المصاريف المدرسية، باستثناء بعض الرسوم الزهيدة، التي لا تتخطى في أغلب الأحيان مائة جنيه، وكانت شاهندة تتكلف، في ظل الإعفاء، نحو 47 جنيهًا رسومًا بريدية بدلًا من 350 جنيهًا، لكنها صارت مطالبة الآن بدفع تلك الرسوم كاملة، لابنتيها اللتين تدرسان في مدرسة تجريبية رسمية تابعة لإدارة العمرانية التعليمية بالجيزة، بالإضافة إلى دفع مصروفات المدرسة، مقابل الخدمات الإضافية والأنشطة الطلابية، التي تتجاوز قيمتها 2500 جنيه لكارمن، الابنة الكبرى المنقولة للصف الأول الابتدائي، ونحو ألف جنيه مصروفات للصغرى التي تدرس بمرحلة رياض الأطفال بإحدى المدارس التجريبية التابعة لإدارة العمرانية التعليمية دون أن تشمل شراء الكتب الدراسية والزي المدرسي.
ذلك ما أبلغ به البريد شقيقها، الذي ذهب نيابة عنها لسداد الرسوم الدراسية لصالح حساب صندوق دعم وتمويل وإدارة وتشييد المشروعات التعليمية، "الموظف قال لأخويا إن أسماء البنتين اتشالت من على سيستم البريد من الفئات المعفاة وإنها مسألة وقت وكل الأسماء هتتشال"، تشتكي شاهندة في حديثها مع المنصة.
سددت الوزارة خلال العام الماضي نحو ثمانية ملايين جنيه مصروفات دراسية لتلاميذ غير مستحقين للإعفاء
اضطرت شاهندة إلى دفع المصروفات الدراسية كاملة كي تفتح ملف نقل ابنتها كارمن للصف الأول الابتدائي، رغم الظروف المادية السيئة التي تمر بها منذ وفاة زوجها. إذ لم يكن مؤمّنًا عليه في عمله، وبالتالي لم تحصل الأم وبناتها على معاش بعد وفاته، في حين تكتفي عائلة زوجها الراحل بدفع إيجار الشقة، ومساعدة شهرية ضئيلة للفتيات الثلاث قدرها 500 جنيه فقط.
وعلى الرغم من عمل الأرملة الثلاثينية في إعداد وجبات الطعام في المنزل وبيعها في دوائرها المحدودة، فإنها لا تستطيع أن تفي باحتياجات بناتها.
أزمة اللوائح والقرارات
يُواجه العديد من طلاب المدارس التجربيبة الرسمية، ممن فقدوا آباءهم، تعنتًا من إدارات المدارس عند سداد المستحقات، بحجة أن الإعفاء لا يشملهم، بما يتعارض مع القرارات الوزارية الصادرة بهذا الشأن.
كانت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني أعلنت في يونيو/حزيران من العام الجاري أن الفئات المعفاة من مصروفات العام الدراسي المقبل، هي المنصوص عليها في القرار الوزاري رقم (45) لسنة 2020، وهم "أبناء شهداء ثورة 25 يناير، والطلاب يتامى الأب، والطلاب الملتحقون بدور الرعاية الاجتماعية، وأبناء المرأة المعيلة ومهجـورة العائل والمطلقة، وأبناء المكفوفين، وذوي الاحتياجات الخاصة، وأبناء ذوي الاحتياجات الخاصة، وأبناء الذكور المفرج عنهم من السجون حديثًا غير القادرين، وذلك بعد إجراء بحث اجتماعي، وأبناء مصابي الثورة، بعد تقديم المستندات الدالة على ذلك".
لكن المنصة رصدت حالات تعنت في عدة مدارس بمحافظتي الجيزة والإسكندرية. وتُبرر إدارات تلك المدارس التجريبية امتناعها عن تطبيق الإعفاء على الأيتام وأبناء المطلقات، قرارهم لأولياء الأمور بما جاء في المادة (19) من القرار الوزاري الصادر في عام 2014، والمنشور في الجريدة الرسمية في 7 يوليو/تموز، التي نصت على جملة "أثناء قيدهم في المدرسة" لوصف الحالة التي يُستحق فيها الإعفاء للأيتام وأبناء المرأة المعيلة والمطلقة؛ أي أن تتغير حالتهم الاجتماعية أثناء التحاقهم بالدراسة. في حين لم ينص القرار الوزاري رقم 141 لسنة 2022 على ذلك، بما يعد إلغاءً للقرار السابق.
المدرسة مربط الفرس
وهو ما يؤكده دكتور عربي أبوزيد، وكيل أول وزارة التربية والتعليم بالإسكندرية، الذي يقول لـ المنصة "الفئات التي تضمنها القرار الوزاري لعام 2022، معفية من المصروفات الدراسية ولا تسدد سوى الرسوم التي نص عليها القانون، ومنها رسوم التأمين الصحي".
ويُحدد أبو زيد المواصفات التي تجعل يتيم الأب معفيًا من المصروفات، "أن يكون الأب مصريًا، وكان العائل للطفل"، ويضيف "يجب أن يتقدم من بيده الوصاية التعليمية على الطفل بشهادة وفاة الأب، أثناء فتح الملف والقيد بالمدرسة، ولا يتطلب الأمر بحثًا اجتماعيًا"، مؤكداً أن مربط الفرس في هذا الموضوع هو المدرسة نفسها. غير أن مديرو المدارس الذين توجهت إليهم المنصة بالسؤال، في محافظتي الجيزة والإسكندرية، لم يجيبوا عليه بدعوى التزامهم بقرار عدم التحدث مع وسائل الإعلام.
المادة 19 من القرار الصادر في عام 2014 هي السبب في اللغط الدائر حول قرارات الإعفاء
ويُلفت أبو زيد إلى أنه من حق أي تلميذ مستحق للإعفاء ويواجه تعنتًا من إدارة مدرسته أن يتقدم بشكوى إلى المديرية، رغم أنه حسب قوله " لم أتلق أي شكاوى مماثلة بالإسكندرية".
ويُوضح أبو زيد أنه بمقدور أي تلميذ غير قادر على سداد المصروفات الدراسية، حتى لو كان غير معفي، أن يتقدم بطلب لمديرية التربية والتعليم وسيتم الدفع بحالته لمنظمات المجتمع المدني لتقوم بسداد المصروفات، "سددت الوزارة خلال العام الماضي نحو ثمانية ملايين جنيه مصروفات دراسية لتلاميذ غير مستحقين للإعفاء" حسب ما صرح وكيل الوزارة.
تمييز بين الأيتام
لكن ذلك لم يحدث مع نوال بركة التي سددت مصروفات البريد لأبنائها الثلاثة، بالقيمة المخفضة 47 جنيهًا، وكُتب في فئة السداد ضمن بيانات إيصال الدفع معفي، وهو الإجراء الذي تقوم به كل عام قبيل بدء العام الدراسي، غير أن المدرسة لم تقبل بالإيصال وأبلغتها بأنها ملزمة بدفع مصروفات الدراسة والخدمات الإضافية كاملة.
"أنا مش مقتنعة إزاي يبقى مكتوب في الإيصال الفئة معفي والمدرسة تجبرني أدفع؟!" تتساءل نوال الأرملة الثلاثينية.
لكنها لم تستسلم، تقول لـ المنصة أنها ذهبت إلى إدارة العمرانية التعليمية التابعة لها المدرسة للاستفسار من المسؤول عن القطاع المالي، فأخبرها أنه عندما توفي زوجها كان اثنان من أبنائها مقيدان في المدرسة، فيما التحقت الابنة الصغرى بالمدرسة بعد وفاة والدها بشهر، وبالتالي فإن الطفلين الأكبر سنًا معفيان من المصروفات، أما شقيقتهما الصغرى مريم فليست كذلك.
"سجلتيها بالمدرسة التجريبية وهي والدها متوفي، كنتِ تقدري تسجليها في حكومة عربي من الأول" كما أبلغها الموظف.
لا تعرف نوال حتى الآن مصير ابنتها مريم ومستقبلها الدراسي؛ من المفترض أن تنتقل من مرحلة رياض الأطفال إلى الصف الأول الابتدائي، وبينما لم تستطع والدتها سداد مصروفاتها الدراسية، فإن المدرسة لم تسمح لها بفتح ملف لنقل التلميذة لمرحلة دراسية جديدة.
أما فرح فلم تكن معفاة من سداد الرسوم الدراسية في مدرستها التجريبية، حين كانت ملتحقة يإحداها في القاهرة، حيث كانت تعيش مع والدتها إلهام زكريا. مع انتقالها للإسكندرية اكتشفت أن لها الحق في الإعفاء من المصروفات بعد التقدم بأوراق وفاة والدها، وقد كان.
استمر الحال سنوات، حتى العام الحالي مع إنتقال فرح من الصف الثالث الإعدادي إلى الأول الثانوي، طالبت إدارة المدرسة التابعة لإدارة وسط إسكندرية الأم بسداد المصروفات حتى يمكنها الإنتقال للمرحلة الثانوية.
لغط اللوائح والقرارات
وبينما افترض مصدر مسؤول في المكتب الإعلامي بوزارة التربية والتعليم لـ المنصة، تحفظ على ذكر اسمه، "أن تلتزم الإدارات التعليمية ومديريات التربية والتعليم والمدارس الرسمية بقرارات الوزارة الأحدث، غير أن المدارس تعود للمادة 19 التفصيلية من القرار الصادر في عام 2014، والتي لم يرد ذكرها في اللائحة الصادرة في عام 2022، ولا في قرارات الوزارة الصادرة في عام 2023؛ حيث أن كثيرًا من مواد هذه اللائحة تم تغييرها في لائحة عام 2022 والبعض الآخر لا يزال ساريًا العمل به"، وربما ذلك ما يثير الارتباك في التعامل مع الحالات المستحقة للإعفاء.
وأشار المصدر إلى أن بمقدور أولياء أمور التلاميذ المتضررين التوجه بشكوى إلى مركز خدمة المواطنين التابع لوزارة التربية والتعليم، ومقره لاظوغلي، يقول "هناك يمكن توجيهها إلى الجهة المختصة التي أصدرت اللائحة أو القرار".
جاءت تصريحات سليمان إسماعيل، مدير عام صندوق دعم وتمويل المشروعات، لـ المنصة، قاطعة، وهو المختص بالمصروفات الدراسية والنشرات الوزارية المتعلقة بها، يقول "كان يوجد إعفاء في المدارس التجريبية خلال السنوات الماضية، بخطأ أو بجهل من إدارات المدارس، لعدم تفعيلها المادة 19 من قرار 2014، معتمدة على قرار 2020". ويضيف "غير أن تشديد الرقاة الوزارية على إدارات المدارس وتفتيش اللجان المختصة، كشفت عن التلاميذ غير المستحقين للإعفاء، من ضمنهم الأيتام".
بالرغم من أن تصريحات إسماعيل قد تكون حاسمة الدائر حول أي لائحة تُنفذ في المدارس التجريبية وفق القانون، إلا أنها تفتح الباب لجدل جديد حول مستحقي الدعم، منهم شاهندة ومثيلاتها من أمهات الأيتام، اللاتي لا يعرفن سببًا لحرمان أبنائهن من حق تكفله الدولة، وتنص عليه القوانين.
فشاهندة التي استطاعت تدبير المبلغ المطلوب بصعوبة كي تلحق ابنتها كارمن بالعام الدراسي الحالي، ربما لن تتمكن من فعل ذلك العام القادم.