عَرِفَت هدى صلاح الدين مرض التوحد عن قرب؛ أدركت أن ابنها عاصم، وهو في الثالثةِ من عمره، يواجه مشكلةً، إذ يعاني تأخرًا في الكلام، مع عدم استجابة لكثيرٍ من المؤثرات حوله.
رحلة طويلة قطعتها هدى مع ابنها؛ مرت بالكثير من المصاعب، أقساها المرحلة الأولى بعد تشخيصه بـ"التوحد"، تقول لـ المنصة "كان بياخد أدوية للأعصاب دمرت جهازه العصبي، وأثرت عليه بشكل كبير وسببتله نوبات صرع ونوبات غضب، ما اتخلصناش منها غير بوقف الأدوية".
رغم معاناة عاصم الكبيرة من المرض، فإنه يملكُ مواهبَ متنوعةً؛ هو حالة خاصة، كتلك التي ظهرت مؤخرًا في المسلسل الذي يحمل الاسم نفسه وجسدها الممثل طه الدسوقي.
تابعت هدى، التي تعيش في محافظة الجيزة، المسلسل بشغف، لأنه يعبر عن حالة ابنها. كانت سعيدة بأن تلتفت الدراما إلى مثل هذه الحالات المرضية، لكنها أصيبت بالخذلان فـ"المسلسل ركز على مواهب مصاب بمتلازمة أسبرجر ولم يركز على معاناته"، حسب قولها.
نوع مميز من التوحد
يعاني عاصم، مثل نديم في المسلسل، من متلازمة أسبرجر، وهي نوع من التوحد، يملك المصابون بها قدراتٍ ومهاراتٍ متنوعةً مقارنةً بأشكال التوحد الأخرى، لكنهم في النهاية مرضى توحد يعانون منه.
تتسب متلازمة أسبرجر في معاناة المريض من صعوبة التواصل مع الآخرين، مع محدوديةٍ في تعبيرات الوجه وتجنب التواصل البصري أثناء التحدث، والتركيز على شيء معين أو موضوع ما.
بالإضافة إلى الصعوبة التي يواجهها مريض التوحد في مجاراة النقاش مع الآخرين والتنقل بين الموضوعات بسلاسة، وكذلك ضبط نبرة صوته بالارتفاع والانخفاض بما يلائم الموقف، يعاني أيضًا من صعوبة فهم مشاعر الآخرين أو تفسير لغة الجسد، ولا يدرك الإيماءات، ولا يفهم المزاح. كما يفضل الروتين، وينزعج من التغيير ولو كان بسيطًا.
تتحدث هدى عن هذا الجانب الذي أغفله المسلسل في استعراض المأساة التي يعيشها المريض فمثلًا "لعلاج التوحد مدارس مختلفة وكل دكتور بيجتهد، فيه دكاترة بتعالج بالتغذية واختيار أنواع معينة من الأكل مثلًا، ومش كل حالة بيتناسب معها نوع العلاج"، هذه معاناة في حد ذاتها لم يتطرق إليها "حالة خاصة".
وتضيف "ابني قضى سنوات طويلة في جلسات التأهيل من وهو 3 سنين، واللي من خلالها اكتشفنا إنه موهوب".
ينبغ عاصم، الذي يبلغ من العمر الآن 15 سنة في مجالات عدة، منها الموسيقى والرياضيات والسباحة والغناء، "عنده قدرة على حفظ الأرقام ممكن حد يقوله آية قرآنية يعرف هي آية رقم كام من سورة إيه وصفحة كام كمان، وبطل سباحة وعازف وبيغني"، لكنه على الجانب الآخر يفتقد قدرات التواصل الاجتماعي، حسب هدى.
"ابني غير قادر على التواصل اجتماعيًا وتكوين صداقات، لسه بيتوتر ويضطرب في مواقف كتير، مش بيعبر عن نفسه ولا بيحكي ولا بيعرف يستخدم الضماير وهو بيتكلم"، تقول هدى.
استسهال الدراما
يترافع "نديم"، في المسلسل، أمام المحكمة، يستجوب الشهود، متجاوزًا بذلك واحدةً من المصاعب التي يواجهها مريض التوحد وهي التواصل مع الآخرين.
توضح أمنية الصفتي، اختصاصية تأهيل مرضى التوحد ومديرة المركز العربي لتنمية المهارات، أن "المريض بمتلازمة أسبرجر، التي يتحدث عنها المسلسل، يعاني اضطرابًا سلوكيًا يجعله غير قادر على التواصل الجيد مع الآخر، لكنه يتمتع بقدرات كبيرة".
تدين أمنية لـ المنصة اقتصار الأعمال الفنية على "تناول الحالات التي تحرز تقدمًا ويكون الأمل فيها كبيرًا"، "مع إنها مش منتشرة، وبتعاني مضاعفات تانية".
هذه ليست المرة الأولى التي تتناول فيها الأعمال الفنية مرض التوحد، سبق وتناوله فيلم التوربيني. تقول هدى "الفيلم كان كويس ونجح لأنه مأخوذ عن الفيلم الأمريكي Rain Man وده كان حلو جدًا ووضح تفاصيل كتيرة في حياة مريض التوحد، والتمثيل كان حقيقي".
وسبق لهدى أن اعترضت على تناول الدراما لمرض ابنها "رفعت أنا وأمهات غيري قضية على مؤلف في كل أسبوع يوم جمعة، لأنه أظهر مريض التوحد قاتلًا يسهل التحكم فيه، ودا مش حقيقي خالص".
كما اعترضت هدى أيضًا على الصورة الذي ظهر بها مريض التوحد في مسلسل إلا أنا قائلة "الحالة مكنش لها علاقة بالتوحد، أي إنسان عنده توحد مبيتكلمش بالطريقة دي، ولا حتى أسبرجر. المؤلفين مش عايزين يتعبوا نفسهم ولا يقابلوا حالات".
أما السبب الذي يدفع هدى للاعتراض على ما يقدمه "حالة خاصة" فهو رفع توقعات المجتمع من المرضى، "الناس لما بتشوف المسلسلات دي، بتبقى مستغربة من الولاد اللي مش بتتكلم أو مش بتتجاوب، على اعتبار أن التوحد نوع واحد اللي هو اتقدم في الدراما، القادر على تحقيق انجازات، ودا ضغط إضافي على الأمهات".
يقدَّر عدد المصابين بالتوحد بحوالي مليون طفل دون سن الثانية عشرة حسب المسح القومي، الذي أجري عام 2022، وكشف عن أن النفقات الطبية للطفل الواحد تبلغ 130 ألف جنيه سنويًا، ما يمثل عبئًا إضافيًا على كاهل الآباء.
معاناة منسية
"المسلسل في حتة وإحنا في حتة تانية خالص"، هكذا عبرت سونيا أحمد عفيفي، والدة الطفل مؤمن، المصاب بالتوحد لـ المنصة، "عانيت لأكثر من 12 سنة مع ابني عشان يعمل حاجات بسيطة زي حل مسألة حسابية".
لذا تشعر سونيا، التي تسكن مدينة طنطا، بابتعاد المسلسل عن واقعها، فابنها المتعثر في التعليم لا يشبه نديم في شيء، "ابني ضاع مني في الشارع قبل كده، وأنا عندي شلل أطفال مقدرتش أروح أدور عليه والجيران ساعدوني. وفي مرة تانية لولا ستر ربنا كنا هنروح في حريقة في البيت وهو مش دريان بحاجة حواليه".
مثل هدى، تعتقد سونيا أن الأعمال الدرامية التي تجسد مصاب التوحد بطلًا خارقًا تزيد من ضغط المجتمع على أهالي المرضى "الناس بتشوف مسلسلات زي إلا أنا وتتهمني بالتقصير، وإني لو ركزت معاه شوية هيتطور ويبقى كويس".
وهو ما تؤكد عليه إيمان كريم، رئيسة المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة، بأن مسلسل حالة خاصة لا يعبر عن واقع مرضى التوحد. تقول لـ المنصة "طبيعي أن الدراما تكون أكثر رومانسية، وفيها جزء كبير من الخيال والأحلام" ولهذا إيجابيات، "استطاع العمل لفت الانتباه لمرضى التوحد، وأتمنى أن يكون هناك الكثير من الأعمال بعده تنظر بعين الرأفة لهذا القطاع".
الطفلة منة مصابة كذلك بمتلازمة أسبرجر، وتعاني والدتها سارة محمد من المشكلة نفسها مع ضغط المحيطين. تقول لـ المنصة "قريبتي بعد عرض مسلسل حالة خاصة بتقولي بنتك هتبقى عبقرية، والحقيقة مش كل حالات أسبرجر كده".
منة ذات الإحدى عشرة سنة موهوبة في الرسم والرياضيات، إلا أن سارة تصفها "عنيدة جدًا وعندها مشاكل في الحفظ"، بالإضافة إلى صعوبة التواصل مع الآخرين.
تؤكد الأم الأربعينية "الموضوع مش سهل زي ما الناس فاكرة. ومفيش حالة توحد أو أسبرجر زي التانية، كمان الاهتمام بطفل متوحد بيحتاج فلوس كتير جدًا، غير همّ اختيار المدرسة وهمّ الحفاظ على نفسيتهم من التنمر، وغير مشاكل العلاج اللي كل يوم يطلع فيه جديد".
وتخشى حسناء الدباوي أخصائية الطب النفسي بمستشفى العباسية أن ترفع هذه الأعمال من آمال الآباء بصورة مبالغ فيها، تقول لـ المنصة "70% من مرضى التوحد معدل ذكائهم أقل من الطبيعي. والأعمال دي بتشكل ضغط على الأهالي إنهم يخلوا أطفالهم طبيعيين وأكثر من الطبيعيين، وممكن يدخلوا في دائرة تأنيب النفس واللوم".
وتتخوف حسناء من أثر ذلك أيضًا على الأطفال أنفسهم، "لن يُقابل شخص مثل نديم بالرفض والتنمر في المجتمع، وقد يكون ذلك عائقًا أمام باقي المرضى، وهم الأغلبية في الحقيقة، فهم ليسوا نديم بكل تأكيد".
الفن مرآة المجتمع
ترى الناقدة الفنية منار خالد، أن العمل الدرامي ينطلق من رؤيته للواقع ولكن لا ينقله حرفيًا، "مفهوم نقل الواقع في الفنون ملتبس بعض الشيء. لأن الواقع جزء من مصدر إلهام المبدع، لكنه مش هو الفن، ونقله لا يمكن تسميته بالعملية الإبداعية، وحتى الأفلام التوثيقية لا تخلو من رؤية وإضافات".
إلا أنها ترى أن الأمر يختلف فيما يخص تناول الأمراض في الدراما، توضح لـ المنصة "رسم شخصية تعاني من مرض معين، لا علاقة له بالخطوط الدرامية. يجب أن تتوافق السمات كليًا مع الواقع لتُصدق، وهذا يختلف عن تطور الأحداث".
وتشير إلى أن مساحات الإبداع والتجلي في الدراما "تكمن في الفرضية الدرامية ذاتها، بينما أبعاد الشخصيات لا يجب أن تحيد عن الواقع، لأنها تخاطب شخصيات مشابهة لها بين المتلقين، وعليه يجب البحث والتأني في فهم طبيعة تلك الحالات وأنواعها، ومراحل المرض. وأن المرض الواحد لا يمكن أن تكون جميع حالاته متشابهة".
تهدف هدى من خلال اعتراضها على ما تقدمه الدراما للوصول إلى ما يشبه الحقيقة "عايزين حد يعرض صورة من حياة أولادنا مكتملة وحقيقية، دون خداع أو مبالغة". ربما تجد يومًا عملًا يلبي رغباتها.