لم يمض وقت طويل منذ تحررت من قيود الذنب واللوم لأن طفلي مُختلِف. الآن أشعر أني أُحبه وأتقبله كما هو، حتى لو لم يتقبله ويتفهمه الآخرون.
أدركت أنه لم يكن لي من الأمر شيء، ولم أرتكب جُرمًا بحق صغيري، الذي قُدر له أن يأتي للحياة ومعه سمات مختلفة تُعرف بـاضطراب طيف التوحد.
دخلت دوامة الشعور بالذنب على يد الأطباء؛ وُلد حمزة ناقص النمو رغم تأكيد طبيبتي أنه موعد آمن لولادته، جاء يحمل نقصًا في الأكسجين وشُخّص بارتفاع في ضغط الشريان الرئوي وعدم اكتمال نمو الرئتين، ما استدعى نقله على الفور لحضّانة.
في قسم رعاية المبتسرين قالت الطبيبة إن طفلي لا يمكن أن يكون وصل لمنتصف الشهر التاسع، واتهمتني بأنني السبب و"ربنا ينتقم مني"!
كنت أشعر أن حلقة ما في التواصل بيننا مفقودة
حمَّلتني الذنب وحدي، ولم توجه حتى اللوم للخطأ الطبي الذي ارتكبته الطبيبة بحساباتها الخاطئة.
أمضى حمزة ثلاثة أسابيع قاسية يصارع الموت في الحضّانة، حتى حدثت المعجزة الإلهية وانخفض ضغط الشريان الرئوي وأصبح يتنفس دون جهاز التنفس الصناعي، وسُمح لنا باصطحابه إلى البيت، لكن أحدًا لم يبلغنا أن نقص الأكسجين الذي عانى منه، قد تكون له عواقب صحية ستلازمه مدى الحياة.
أم لطفل مُختلف
في اللحظة الأولى التي ضممته فيها إلى حضني شعرت بأن الأمور مختلفة، وكأني أمارس الأمومة للمرة الأولى. كان كثير البكاء، يجد صعوبة في الرضاعة الطبيعية. وصف له الطبيب بخاخة للأنف اعتقادًا منه أن السبب الحساسية، وعلى النقيض من شقيقه الأكبر كان يفضّل النوم بعيدًا عني، وظننت أن ذلك عائد لقضائه الأسابيع الأولى من عمره بالحضّانة.
كلما كبر أكثر، كلما زاد اختلافه وضوحًا. كنت أشعر أن حلقة ما في التواصل بيننا مفقودة، جعلتني لا أمتلك حدس الأمهات الذي يجعلنا نشعر بما يحتاجه أطفالنا، أو لغة العيون التي يخبروننا بها عمّا بداخلهم.
في عمر الستة أشهر واجهت صعوبة بالغة في إطعامه، كان يبدو لي كمن يخاف تجربة أي غذاء، وبمرور الشهور لاحظت ميله إلى الوحدة وقلة ضحكه، كما لم يكن منجذبًا للألعاب ويكتفي بوضعها في فمه.
رغم تلك التفاصيل لم أتصور أن حمزة الذي يرى ويسمع بشكل طبيعي، واستطاع الحبو والمشي ونطق بعض الكلمات في الموعد الطبيعي، لديه إحدى الإعاقات الذهنية غير الظاهرة كالتوحد، بل إني لم أكن قد سمعت به من قبل!
اكتشاف الإصابة
المرة الأولى التي قيل لي فيها إن طفلي ربما يكون مصابًا بالتوحد، كانت حين أبدت شقيقتي استغرابها من عدم لعبه مع شقيقه وابن خالته، واكتفائه بالمراقبة أو الركض والتحرك بمفرده.
في عامه الثاني لاحظت أنه لم يعد يستجيب للنداء، ولا ينفذ الأوامر أبدًا، لا ينظر إلى أعيننا، ولا يدرك المخاطر، يتركنا ويفرّ في الشارع.
دائمًا ما تلام الأم بدعوى أنها مهملة وتترك طفلها أمام التليفزيون ولا تتكلم معه
وازدادت الأمور سوءًا فلم يعد يتناول معظم أصناف الطعام، يفضل تلك غير الصالحة للأكل، وراح يرفرف كالطيور، وبات كثير البكاء والصراخ، يعضنا ويصاب بنوبات غضب أو ضحك هستيري، وأحيانًا يفقد الشعور بالألم والجوع والشبع، وفي أحايين أخرى يبالغ في ذلك الشعور.
بحثت في الإنترنت، لأصدم بأن كل تلك الأعراض ما هي إلا سمات اضطراب طيف التوحد؛ قلة الاتصال بالعين، عدم الاستجابة للاسم، وعدم الاكتراث لمقدمي الرعاية، رفض العناق، واللعب بمفرده، عدم الكلام أو التأخر فيه، لا يفهم الأسئلة أو التوجيهات البسيطة، لا يعبر عن عواطفه أو مشاعره، وغير مدرك لمشاعر الآخرين، التفاعل الاجتماعي على نحو غير ملائم بأن يكون متبلدًا أو عدائيًا أو مخرّبًا، صعوبة التعرف على الإشارات غير اللفظية.
رحلة العذاب
كان حمزة دون الثالثة من العمر حين بدأنا رحلة التشخيص، اصطحبته للعديد من الأطباء ومراكز التأهيل، وفي كل مرة كانت الأسئلة ذاتها؛ إذا كان الأمر وراثيًا بالعائلة فأرد نافية، يتبعه سؤال عما إذا كنت أتركه طويلًا أمام الشاشات؛ تلك الأكذوبة التي يرددها كثير من مقدمي الرعاية والتأهيل في مجال التربية الخاصة لإيهام الأهالي بأن أطفالهم يعانون عَرضًا مؤقتًا سببته الرسوم المتحركة وأغاني الأطفال وسيزول بمنعها وقليل من جلسات التخاطب ويصبح الطفل طبيعيًا.
لا أدري أذلك جهل منهم أم رغبة في منح الأهالي أملًا زائفًا ليستمروا في استنزافهم ماديًا. تتمثل الأكذوبة في حقيقة أنه لا علاج للتوحد، فهو اضطراب عصبي نمائي يصيب أجزاء في الدماغ، ويختلف تمامًا عن التأخر اللغوي، لكنها الذريعة التي تجعل الأم الملامة لأنها "مهملة تترك طفلها أمام التليفزيون ولا تتكلم معه".
شملت الرحلة على مدار ثلاث سنوات 7 مراكز تأهيل؛ أول جلسة تخاطب لابني الذي كان وقتها يبلغ من العمر عامين وتسعة أشهر، رفض التواصل مع الأخصائية وتنفيذ أوامرها والجلوس على الكرسي، فكان ردها أنها لن تتمكن من التعامل معه بسبب فرط الحركة، إلا حال تناوله مهدئات، وأحالته لطبيب المخ والأعصاب، الذي طلب رنينًا مغناطيسيًا ورسم مخ، ووصف له منشطات للمخ، لكني رفضت بسبب الآثار الجانبية للمهدئات والمنشطات، فقررت تغيير الطبيب والأخصائية.
تجربتنا الثانية كانت مخيبة للآمال؛ الأخصائية الشابة نظرت إلى حمزة بدهشة واشمئزاز، وهو يُكثر من الحركات العشوائية ولعق الكرسي وحجاب رأسها، وكأنها لم تتعامل مع حالة مماثلة، سألتني عما إذا كان معتادًا على تلك التصرفات، وحاولت التواصل معه لكنه تجاهلها والتصق بي باكيًا ورفض الجلوس على الكرسي.
اكتشفت أن طفلي بحاجة لنظام اليوم الكامل الذي يتيح له الاندماج مع أطفال آخرين
عرّفتني صديقتي بقريبتها أخصائية التخاطب التي اكتشفت أن طفلي لديه اضطراب في التكامل الحسي بجانب التوحد، وبصعوبة وجدت مركزًا يُقدم جلسات للتكامل الحسي، وللمرة الأولى ومنذ جلسة التقييم رأيته يتفاعل وينفذ الأوامر، ولدهشتي عانق الأخصائية وقبّلها، لكن الجلسة الأولى كانت شاقة، فبمجرد دخولنا الغرفة الحسية الغارقة في الظلام والأضواء الليزرية الفسفورية المتحركة والأصوات الإلكترونية، دخل ابني في نوبة فزع وصراخ وأخذ يركلني ويضربني.
ألزمتني الأخصائية بست جلسات أسبوعية لتنمية مهارات حمزة والتكامل الحسي لديه، وعلى مدار أشهر من الاستنزاف المادي والإرهاق شعرت بتحسنه وازدهر الأمل بداخلي، لكن فجأة انتكست حالته بشدة، أخذ يصرخ ويدور حول نفسه رافضًا تناول الطعام والنوم لأسبوع.
طوق النجاة
استشرت المتخصصين والأهالي عبر مجموعات الدعم على السوشيال ميديا وبحثت في الإنترنت لأكشف خطأ تشخيص النقص الحسي، وأن الجلسات زادت من فرط الحس لديه وجعلت أعصابه تنهار؛ فتوقفت عن إرساله للمركز، وأخذته لآخر، لكن بمجرد رؤيته للأخصائية الجديدة أخذ يصرخ ويعضّها ويغرس أظافره في يديها، وحاولت إعطاءها فرصةً أخرى، لكن تكرر الأمر نفسه.
فقدَ حمزة تدريجيًا قدرته على النطق وصرت مرهَقة ومستنزفة ماديًا، توقفت، فهجرنا المراكز لمدة عام، اشتريت بدلًا منها أدوات وألعاب مونتيسوري لأقوم بمهمة تدريبه.
وفي البداية واجهت عنادًا ورفضًا للتعلم، مع الوقت بدأت في جني ثمار التعب، مع تحسن التواصل البصري لديه واكتسابه مهارات الإشارة والمُطابقة والفرز، لكني لم أنجح في جعله يتقن التقليد أو العناية الذاتية والنظافة الشخصية.
بعد عام حاولت إلحاقه بمركز جديد لكن مديره كان مصرًا على الاعتماد على المهدئات والمنشطات وإخضاعه لسحب المعادن الثقيلة، الذي تخوفت منه كونه أحد البروتوكولات العلاجية سيئة السمعة.
ولاحقًا أدخلني مركز تأهيل آخر في دوامة العلاج بالمكملات الغذائية ومضادات السموم المستوردة، بعدما أظهرت التحاليل الطبية التي أجريناها لحمزة، في معمل تحاليل بأوروبا، أن لديه نسبًا عالية من الرصاص والألمونيوم، لكن التكاليف الباهظة لم تسفر عن تحسن ملحوظ.
في النهاية، اكتشفت أن ابني بحاجة لنظام اليوم الكامل الذي يوفر له الاندماج مع أطفال آخرين في بيئة نظامية لتعديل سلوكه وتأهيله مجتمعيًا، عملًا بنصيحة المختصتين أمنية الصفتي، أخصائية علاج التوحد، والدكتورة داليا سليمان، رئيس الجمعية المصرية للتوحد، اللتين تريان أن طفل التوحد يحتاج لعدد ساعات يومية من الأنشطة والتدريب وهو ما لا تتيحه جلسات التخاطب الاعتيادية.
للمرة الأولى صار في إمكان حمزة المشاركة في الأنشطة التعليمية والترفيهية واللعب مع أطفال في مثل عمره، بعضهم يُشبه حالته، إلى جانب جلسات التخاطب وتنمية المهارات.
تحرر حمزة أخيرًا من خوفه المرضي من الابتعاد عني أو دخول الأماكن الجديدة وحتى استخدام ألعاب الكيدز إيريا، كما تحسنت مهارته نسبيًا في العناية الذاتية وأصبح أكثر قابلية لتنفيذ الأوامر وانضباط السلوك.
الأهم أن ذلك النظام سمح لي بالتقاط الأنفاس خلال ساعات وجوده بالرعاية النهارية، لأوفر وقتًا لإخوته ولنفسي.
لا يزال ابني متأخرًا كثيرًا عن أقرانه وغير قادر على الكلام، لكن التحسن الذي وصلنا إليه هو وأنا جعلني قادرة على التعامل مع المتنمرين وتعليقات الغرباء، لم تعد تعنيني في شيء، كما توقفت عن لوم نفسي، حين تأكدت أن أسباب التوحد غير معروفة بشكل قاطع، وليس له علاج جذري، لكن يمكن إعادة تأهيل الأطفال وتحسين حالتهم؛ فتقبّلت طفلي كما هو، مع قبول حقيقة أن مشواري معه شاق وشائك، وأحببته حبًا غير مشروط، وأنا على يقين من أن هذا ما يحتاجه.