تصميم مؤسسة أريج
صورة تعبيرية عن مراكز الإدمان غير المرخصة

تجارة الديتوكس وعلاج الإدمان.. مراكز بدون ترخيص تزهق الأرواح

منشور الثلاثاء 25 مارس 2025

"تعالى خد ابنك عالجه عشان تعبان".. استقبل والد إسلام غنيم مكالمةً مفاجئةً من إدارة مركز لعلاج الإدمان أودع فيه ابنه للعلاج، تطلب منه استلامه.

لم يستوعب ما سمعه، تساءل: كيف أعالجه؟! ومِن ماذا أعالجه وهو داخل المركز؟ لم تمر ساعات حتى وجد ابنه يترجل من سيارة أمام المنزل في حالة من الإنهاك والانهيار وعلى جسده آثار حريق؛ حينها أدرك المغزى وراء المكالمة "عشان عارفين إن الواد كان بيموت".

قبل خمسة أيام فقط من عودته إلى البيت على حالته تلك، وجد إسلام، الذي يبلغ من العمر 29 عامًا، نفسه مشحونًا في سيارةٍ من المنزل إلى مركز خاص لعلاج الإدمان في مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة، كان الأب ادخر 5000 جنيه أملًا في إنقاذه من إدمان مخدري الحشيش والشابو/الميثامفيتامين.

كان مشهد شحن إسلام قاسيًا على الابن والأب معًا، "اعتقدتُ أن فريق الشحن سيستخدم حُقنًا مخدرة"، لكن بدلًا من ذلك تجمع الأهل والجيران والأصدقاء في الشارع يحاولون مساعدة الفريق للإمساك بالشاب حديث الزواج أمام أعين المارة.

لم تفلح توسلات إسلام لوالده لكي يتراجع عن قراره. يندم الأب على الطريقة التي شُحن بها ابنه "كَسَرْت كرامة ابني من غير ما اقصد".

مع بداية الألفية، انتشرت مئات المراكز غير المرخصة لعلاج الإدمان في مصر، وفيها يتعرض المدمنون لتعذيب ممنهج وانتهاكات جسيمة تسببت في وفاة العشرات منهم. كثيرًا ما يكون أصحاب هذه المراكز والعاملين فيها مدمنين سابقين، يتعاونون مع فِرَق شحن لنقل المرضى إلى تلك المراكز رغمًا عن إرادتهم، وبعد الدخول لا يتلقى النزلاء العلاج بطرق علمية، وفي بعض الحالات تم إعطاؤهم عقاقير محرمة طبيًا.

من خلال الحديث مع ضحايا ونزلاء وبعض مَن عملوا في مراكز غير مرخصة، وأطباء نفسيين واخصائيين وأهالٍ وشهود، توثق المنصة في هذا التحقيق على المدى الزمني من يناير/كانون الثاني 2013 إلى شباط/فبراير 2025 جرائم التعذيب والإيذاء البدني والنفسي والاعتداءات وطرق العلاج الخاطئة التي أدت إلى وفاة عشرات النزلاء، لنرصد انتهاكات ممنهجة وليس مجرد حالات فردية يمارسها بعض أصحاب تلك المراكز.

لن أسامحكم أبدًا

آثار حروق على جسد إسلام، ضحية أحد مراكز علاج الإدمان غير المرخصة

لم يصدِّق إسلام غنيم أنه عاد إلى بيته، وحين اطمأن لوجود أسرته أطلعهم على ما تعرض له من العاملين في المركز الذي دخله قسرًا في سبتمبر/أيلول 2024؛ قال إنهم أحرقوا مواضع بجسده، وكانوا يتلذّذون بإطفاء السجائر في جسده العاري، وفق روايته.

خضع إسلام لعمليتين جراحيتين لترقيع الحرق الذي أصاب جانبه الأيمن أثناء وجوده في المركز، لكنه لم يتجاوز المأساة التي لا تزال جاثمة على صدره.

قاطع الشاب والده ولم يسامحه لأنه رغم نيته الطيبة في إنقاذه من المخدرات، رمى به في الجحيم. أما الأب فيحمد الله على أن إسلام "نجا من الموت"، ويعترف بأنه خُدع بالمظاهر، فالمركز  كان "فيلا فاخرة" في منطقة راقية. يتذكر الأب بأسى "ابني نبهني أكتر من مرة وحذرني".

رغم كل هذا، فإن إسلام كان أفضل حظًا من غيره؛ فعشرات الحالات تدخل "مشحونة" إلى هذه المراكز "للعلاج"، وتخرج منها محمولة إلى المقابر.

عصابات الشحن

دفع تنسيق دخول الجامعات والمعاهد حسين مصطفى(*) للالتحاق بمعهد تمريض تابع لمستشفى حكومي للصحة النفسية. فضَمِن بهذا وظيفة حكومية ثابتة عقب تخرجه من المعهد داخل المستشفى العتيق. ولكن مع راتبه المتواضع، اضطر للبحث عن عمل إضافي يساعده على تكاليف الزواج.

استغل حسين مهاراته كممرض في الانضمام إلى إحدى "فِرَق الشحن"، وبذلك ضمن وظيفة إضافية مُجزية. تنقل فِرَق الشحن المدمنين من منازلهم إلى مراكز علاج الإدمان، رغمًا عن إرادتهم، بناءً على استدعاء من الأسرة. ويدل لفظ "الشحن" على سلب إرادة المريض، الذي يتحول إلى طرد عليهم تسليمه.

غالبًا ما تتعاون تلك الفِرَق مع المراكز غير المرخصة نظرًا لمخالفة عملها لقانون الصحة النفسية رقم 71 لسنة 2009، وغالبًا ما يتكون فريق الشحن من خمسة أشخاص؛ اثنان من التمريض وثلاثة من الأمن، يتحركون باتجاه العنوان المستهدف فور تلقيهم مكالمة هاتفية.

ولأنها مهنة تُمارس في الظلام؛ يحصل المشتغلون بها على مقابل كبير. فحسين الذي كان عمره لا يتجاوز 22 سنة عندما بدأ شحن المدمنين، وصل أجره لـ 900 جنيه يوميًا. لكنّه شهد حدثًا جعله يقرر التوقف، والاكتفاء بالراتب الحكومي.

 "شحنت مدمنين من كل حتة ومن كل الطبقات الاجتماعية، متبقاش لي غير الأقصر وأسوان وابقى اشتغلت في كل محافظة في مصر"، يقول حسين.

تشهد عملية شحن المرضى انتهاكات ممنهجة، يندم حسين حين يتذكر خداع الضحايا. في إحدى المرات استقبل الفريق مكالمةً هاتفيةً لشحن فتاة من أسرة ميسورة الحال تعيش في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة.

انتهاكات تعرض لها أحد النزلاء داخل مركز غير مرخص لعلاج الإدمان

صعد رجال الشحن إلى الشقة، لم تكن الفتاة على علم بحضورهم أصلًا، سألتهم مَن أنتم؟ أخفوا هويتهم. يُفضل مصطفى ألا تعرف الحالات بحقيقة ما يجري تفاديًا للمقاومة. أحيانًا يستسلم البعض للأمر الواقع، لكن الأغلبية يقاومون فريق الشحن الذي عادة ما يلجأ لاستخدام حيل غير مشروعة "نخبرهم أننا نريد عينة من الدم"، والحقيقة أنها حقنة مُخدرة.

خدّروا الفتاة ثمّ حملوها على الأكتاف ووضعوها في سيارة الشحن.

كان دور مصطفى ينتهي عند باب مركز علاج الإدمان بمجرد تسليم الحالة، لكنه اكتشف ذات مرة أنه يشحن الحالة ذاتها للمرة الثانية. دار حديث طويل بينهما، حكى له الشاب عن الانتهاكات الجسدية التي تعرض لها داخل المركز، مثل الضرب والحلاقة والإهانة في الأيام الأولى، "كأنه في السجن".

يقول إن أصعب ما سمعه من هذا الشاب هو تجاهل أهله لشكواه اعتقادًا منهم أنه يخدعهم بهدف الخروج من المركز والعودة للمخدرات، حينها قرر مصطفى أن يترك "الشغلانة".

"شغلانة شمال، كلها أخطاء، مش بتعالج المريض، وأحيانًا يكون المركز بيئة خصبة لتسويق المخدرات"، يَصف مصطفى تلك المراكز من واقع تجربته.

لماذا المراكز المشبوهة؟

تمنع "ثغرة" تتعلق بمدى خطورة المدمن في قانون الصحة النفسية الصادر عام 2009، إجبار أغلبية مرضى الإدمان على دخول المستشفيات للعلاج؛ ومن هنا لا يجد الأهالي أمامهم إلا المراكز الخاصة غير المرخصة التي تتعاون مع فِرَق الشحن مستغلة تلك الثغرة، فتجبر المرضى على "العلاج" بصرف النظر عن الانتهاكات الجسدية واللفظية التي تمارس بحقهم. 

يتجاهل أهالي مدمني المخدرات هذه الانتهاكات بحق ذويهم أملًا في علاجهم، ولعدم وجود بديل "حكومي آمن" يقبل أبناءهم من دون رضاهم. فمريض الإدمان عادة ما يرفض العلاج.

ورغم تصريح المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور حسام عبد الغفار لـ المنصة بأن مريض الإدمان يُعامل معاملة المريض النفسي وفق المادة 13 من قانون الصحة النفسية؛ أي أنه يجوز إدخاله إلزاميًا -رغمًا عن إرادته- للعلاج إذا كان يمثل خطرًا على حياته أو الآخرين، فإن الثغرة تأتي من أن ليس كل المدمنين يمثلون خطرًا على حياتهم الشخصية أو الآخرين، وهو ما أوجد المبرر لعمل هذه المراكز غير المرخصة.

المادة 13 من قانون الصحة النفسية

1500 سرير لمليوني مدمن

كانت المستشفيات الحكومية الملاذ الوحيد لآلاف المرضى حتى ظهرت مراكز غير مرخصة لتسدُّ الفراغ ما بين محدودية عدد الأسرَّة المتاحة لمرضى الإدمان وعدد المدمنين، إذ تصل نسبة التعاطي بين المصريين إلى 5.6%، أي نحو ستة ملايين شخص، بينما تصل نسبة الإدمان إلى 2.3%، ما يعادل مليونين و461 ألفًا، حسب ما ذكره مدير صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي، الدكتور عمرو عثمان، بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، خلال أحد اللقاءات التليفزيونية.

لا تواكب الطاقة الاستيعابية للمستشفيات الحكومية التي تعالج الإدمان احتياجات المجتمع، وهو ما يؤكده المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبد الغفار، الذي كشف أن عددها 1500 سرير فقط.

عجزٌ هائلٌ يدفع أغلب الأهالي للمراكز غير المرخصة التي لا تخضع لرقابة وزارة الصحة. ويفيد المدير السابق لإدارة علاج الإدمان بوزارة الصحة، الدكتور تامر العمروسي، بأن محافظة القاهرة وحدها بها أكثر من 500 مركز غير مرخص لعلاج الإدمان، من بينها 50 مركزًا بحي المقطم فقط؛ أغلبها تحت إدارة مدمنين سابقين.

مراكز للموت بدون لافتات

تعاطى علاء نبيل أقراص الترامادول عام 2010، وهو المُخدر الذي راج وقتها بين الشباب.

وصل الطالب الجامعي إلى درجة الإدمان وهو في العشرين من عمره، فلم يجد والده من طريقةٍ لعلاجه إلا إيداعه مصحةً نفسيةً خاصةً بحي النزهة الجديدة بالقاهرة؛ لكن ارتفاع تكلفة علاجه دفعت الأب لإخراجه من المصحة والبحث عن سرير لابنه داخل أحد المستشفيات الحكومية للصحة النفسية، لكن من دون جدوى.

"مفيش أماكن. شفت بعيني والدة أحد المرضى تقول لإدارة المستشفى، خدوا ابني في أي مكان حتى لو تحت السرير"، تتذكر والدة علاء إحدى محاولاتها لإلحاق ابنها بمستشفى حكومي.

اضطر الأب للبحث عن مركز خاص حتى قاده إعلان على السوشيال ميديا لمركز بحي المقطم بالقاهرة. اتصل برقم الهاتف، ووصل فريق شحن تابع للمركز ليأخذ علاء بالقوة، ورافقهم الوالدان إلى المركز.

انتهاكات مختلفة داخل مراكز علاج الإدمان غير المرخصة في مصر

دفع الأب حينها 1500 جنيه تحت الحساب، على أن يدفع 3500 جنيه بعد يومين، كان ذلك مساء يوم 27 يناير عام 2013.

خلال اليوم الأول لعلاء داخل المركز، اتصل والداه عدة مرات تليفونيًا للاطمئنان عليه، وكان الجواب دائمًا "علاء بخير".

لم يعرف الأب والأم أن ابنهما يتعرض للتعذيب إلا في مساء يوم 29 يناير؛ أي بعد يومين من دخوله، حين تلقت الأم اتصالًا هاتفيًا من مدير المركز "ابنك قطع شرايينه ووصلناه المستشفى"، بعد قليل جاءها اتصال آخر "ابنك مات". هرول الوالدان إلى المركز ليجدا ابنهما جثة هامدة.

لم تكن الباحثة القانونية داليا زكي تعرف أنَّ الدور الرابع من العقار الذي تسكنه منذ عام ونصف يشغله مركزٌ لعلاج الإدمان.

لا لافتةٌ على مدخل العقار ولا أي دليل، لكنها اعتادت سماع أصوات مريبة "كنا بنسمع كتير بالليل ناس بتصرخ وناس بتتألم وناس بتزعق".

في الليلة التي شهدت موت علاء، انتبهت داليا لأصوات قادمة من الطابق الذي تشغله المصحة، وفوجئت بتجمع أشخاص أمام باب العقار. دفعها الفضول للنزول إلى الشارع، فعرفتْ من والد علاء أن ابنه كان نزيلًا في الدور الرابع وأنه يحوي مركزًا لعلاج الإدمان، وأنه فارق الحياة داخله. وعندما سألت صاحب المركز عمّا حدث، أخبرها أنه "مدمن وعنده ميول انتحارية شنق نفسه في الحمام".

سمعتْ الباحثة القانونية صاحب المركز، الدكتور محمد الحجار، وهو ينصح والد علاء أن يأخذ ابنه ويدفنه بهدوء، متعهدًا بإنهاء الإجراءات، فلا حاجة إلى إبلاغ الشرطة حفاظًا على الجثة من التشريح و"البهدلة". لكنّ داليا استرجعت الأصوات المريبة التي كانت تسمعها بشكل يومي، وشجعت الأب على الاتصال بالشرطة، فاستجاب لها.

مجرد ضرب أفضى إلى موت

تشكّلت لجنة من وزارة الصحة بقيادة الدكتور ممدوح الهادي، مدير عام الإدارة العامة للمؤسسات العلاجية غير الحكومية، وكشفت في تقريرها أن المركز مُسجّل كعيادةً خاصةً وليس مركزًا، طبقًا لقانون تنظيم المنشآت الطبية 51 لسنة 1981، والمعدل بالقانون 153 لسنة 2004؛ حيث يمكن للعيادة أن تحوي أسِرّة للملاحظة، وليس الإقامة، على ألا يتجاوز عددها ثلاثة، وتعدّ تلك إحدى طرق التحايل على اشتراطات تراخيص مراكز علاج الإدمان. 

بمجرد وصول الشرطة، فرّ صاحب المركز تاركًا الكمبيوتر الخاص به داخل المركز، وعندما فحصته النيابة كان به مقاطع فيديو وصور فوتوغرافية لبعض المرضى يجردهم العاملون بالمركز من ملابسهم، ويربطونهم من الخلف ويعتدون عليهم بالضرب.

جانب من الانتهاكات داخل أحد مراكز علاج الإدمان غير المرخصة

وقالت تحريات رئيس مباحث قسم المقطم في مقتل علاء إن المتهمَين محمد وأحمد الحجار قاما بإنشاء مركز غير مرخص لعلاج الإدمان، تُستخدم فيه وسائل غير قانونية في علاج النزلاء، تمثّلت في إعطائهم عقاقير مخدرة واحتجازهم، وتعذيبهم وهتك عرضهم، وإيهام أهلهم باستجابتهم للعلاج وضرورة استمرار ذويهم في المركز.

وقال محضر التحريات أيضًا إن المتهمَين تعدّيا بالضرب على المجني عليه، وحاولا إعطاءه عقاقير مخدرة، لكنّه رفض، "حينها خنقه محمد الحجار بيده حتى زهقت روحه، ثم قاما بربط تي شيرت حول عنقه وتعليقه على شماعة الحائط بدورة مياه المركز؛ لإيهام جهات التحقيق بأن المجني عليه مات منتحرًا".

بعد عامين، تحديدًا في 13 يناير 2015، حكمت المحكمة بالسجن ثلاث سنوات على المتهمَين، بتهمة ضرب أفضى إلى موت، وليس القتل العمد، وذلك في القضية التي حملت رقم 7597 لسنة 2014 جنايات المقطم، المقيدة برقم 14 لسنة 2013 حصر جنوب القاهرة.

عبْر مكالمة هاتفية في فبراير 2025، أخبرتنا أم علاء أن العقوبة الجنائية طُبّقت على اثنين فقط من العاملين بالمركز، بينما نجا صاحب المركز وشقيقه، على الرغم من أنهما كانا متهمَين رئيسيين في التعذيب والقتل.

لا مجال للهرب

أحدث موت علاء ضجةً في ذلك الوقت ما أعاد إلى الواجهة عددًا من الحوادث التي شهدها المركز نفسه؛ مركز الندى لعلاج الإدمان بحي المقطم، فقبل أربعة أشهر من موت علاء لقي أحد النزلاء مصرعه نتيجةَ تعذيب واعتداء جنسي، في حين نجا ثلاثة آخرون من الموت، كان من بينهم محمود محمد، الشهير بـ"بِسّة". 

في يونيو/حزيران عام 2012، أُودع محمود الذي كان عمره 22 عامًا للتعافي من إدمان الترامادول. وبمجرد وصوله للمركز، طلبوا من والده الانصراف "قالوا لي امشي وهنتصل بيك، مفيش زيارة قبل 25 يوم".

بعد انقضاء المدة ذهب الأب لزيارة ابنه، لكنّهم رفضوا "محمود كويس، وما ينفعش الزيارة دلوقت، عشان نفسيته متتعبش"، ليكتفي بدفع باقي تكاليف العلاج قبل الانصراف.

بعد مرور نحو 40 يومًا سُمح له بالزيارة، فأخبره الابن بما يتعرض له "بيعذبوني، وبيضربوني على أيّ حاجة بقولها". لم يتعامل الأب بجدية مع شكوى محمود التي تكررت عدة مرات، ظنًّا منه أنها حيلة للخروج من المركز والعودة للمخدرات.

"كانوا بيعذبونا عشان منمشيش من المركز ولا نشتكي، وياخدوا فلوس من أهالينا"، يقول بسَّة الذي توقف عن إطلاع والده عما يتعرض له خوفًا من انتقام القائمين على المركز "اللي اتعمل معايا مينفعش يتحكي".

ولكن بعد مقتل علاء نبيل داخل المركز، أصبح من الممكن الإفصاح عما كان مسكوتًا عنه، وتم الكشف عن الجرائم التي ارتكبت في حق أربعة من النزلاء، من بينهم شاب فارق الحياة.

جانب من الانتهاكات داخل أحد مراكز علاج الإدمان غير المرخصة

تعود الواقعة لليوم الذي قرر فيه خمسة نزلاء الهرب من المركز على وقع التعذيب الذي يتعرضون له، لكن الإدارة علمت بخطة الهروب.

عقابًا لهم، تمّ حقنهم بمواد مخدرة، وجردوهم من ملابسهم ثمّ انهالوا عليهم ضربًا بالعِصي؛ فرد أحد النزلاء يُدعى محمود "أنا همشي، واللي عايزين تعملوه اعملوه، ولما أمشي هاخد حقي منكم"، فأدخل أحد العاملين عصا في مؤخرته أمام بقية النزلاء، وانهال عليه بالضرب والشتائم وهو يصور ذلك بهاتفه متفاخرًا بفعلته، حسب بسة.

تأثر محمود جسديًا ونفسيًا بهذه الواقعة، وسارع مسؤولو المركز بالاتصال بأسرته، وطلبوا منهم الحضور لاستلام ابنهم. عرف بسة بعدها أن زميله محمود فارق الحياة في اليوم التالي لخروجه.

قتل ممنهج

مجرد ساعات لم يقض ممدوح السبكي غيرها داخل مركز الحياة لعلاج الإدمان، وفارق الحياة. في يوليو/تموز 2013 عانى ابن الـ42 سنة أزمةً نفسيةً بعد خسائر منيت بها تجارته؛ فقرر شقيقه ناصر إيداعه بأحد مراكز علاج الإدمان بمنطقة حدائق الأهرام، القريبة من محل سكنهما في حي الهرم بمحافظة الجيزة.

لم يتوقع ناصر أنها ستكون المرة الأخيرة التي يرى فيها شقيقه حيًا؛ إذ أتاه اتصال هاتفي من المركز يفيد بأن ممدوح أُصيب بضيق حاد في التنفس، وجرى نقله إلى مستشفى الهرم.

في الأثناء، اتصل المركز بسائق سيارة خاصة لنقل ممدوح إلى المستشفى، لكنّ السائق شكّ في أمر الحالة فأبلغ الشرطة عند أقرب كمين/حاجز شرطة؛ ليتبيّن أنه جثة هامدة، حسب تحقيقات النيابة.

شهود العيان داخل المركز أفادوا بأن ممدوح أصيب بالهياج بمجرد وصوله، فاعتدى باليد على أحد العاملين، لينهالوا عليه بالضرب ثمّ أعطوه عقاقير تسببت في وفاته.

جانب من التحقيقات في قضية ممدوح السبكي

قالت تحقيقات النيابة إن ممدوح لم يكن مدمنًا، ولكن شقيقه أودعه المركز ظنًا منه أنه مصحة نفسية سوف تساعده على التعافي، غير أن العاملين بالمركز لم يكونوا سوى مدمنين سابقين.

شهد أحمد الذي يبلغ من العمر 30 عامًا وفاة ممدوح حيث كان نزيلًا بالمركز هو الآخر، إلا أنه هرب مع باقي النزلاء بمساعدة أصحاب المركز قبل وصول الشرطة؛ سعيًا من الملّاك لتجنب توثيق شهادات النزلاء من قِبَل الجهات الأمنية.

اتصل أحمد بوالدته ليخبرها أنه هرب من المركز بعد مقتل أحد النزلاء خشية القبض عليه لأنه لم يؤدِ الخدمة العسكرية، وروى لوالدته ما شهده هناك؛ فطلبت منه إبلاغ النيابة.

لكن بعد مرور أربعة أيام من مكالمة ابنها، جاءتها مكالمة هاتفية: "ابنك أحمد مات"، وجدوه جثة في ترعة الإسماعيلية، قبل الإدلاء بشهادته أمام النيابة.

تقرير الطب الشرعي الخاص بحالة علاء نبيل

الديتوكس.. الربح قبل كل شيء

يجني أصحاب المراكز غير المرخصة أرباحًا خيالية، بالأخص خلال الأيام الأولى لدخول المرضى لمراكز علاج الإدمان، التي تسمى "الديتوكس"، وهي فترة انسحاب أثر المخدرات من الجسم، وخلالها يستنفد أصحاب هذه المراكز أهل المريض.

كما أن أصحاب المراكز يتعمدون إطالة فترة إقامة النزلاء لمراكمة الأرباح من جيوب الأهالي. وفي سبيل ذلك، يرتكبون مخالفات صحية وقانونية بحق المرضى؛ تشمل انتهاكات نفسية وجسدية من إذلال وتعذيب.

يعمل حمادة كبريتة مُعالجًا في مستشفى المطار الحكومي للصحة النفسية، وهو مدمن متعافٍ يشتغل بهذا المجال منذ عام 2005، ويعرف الكثير عن هذا العالم الخفي.

جرت العادة الاستعانة بالمدمنين المتعافين عُمالًا أو ممرضين للاستفادة من خبراتهم، وهو ما حدث مع حمادة، فبعد تعافيه من الإدمان عمل بالمستشفى لمساعدة الأطباء والممرضين في متابعة خطط العلاج. يقول لـ المنصة "لا يمكنني كتابة العلاج للمريض، مهمتي تتنفيذ البرنامج العلاجي الذي يصفه طبيب مختص"، وهو ما لا يحدث في المراكز غير المرخصة.

جانب من الانتهاكات داخل أحد مراكز علاج الإدمان غير المرخصة

يُرجع كبريتة إقبال الأهالي على المراكز غير المرخصة، التي يسميها "بير السلم"، للظروف الاقتصادية، فبينما تتراوح تكلفتها بين أربعة إلى خمسة آلاف جنيه شهريًا، قد يتكلف علاج الإدمان في مركز خاص مرخص نحو 18 ألف جنيه شهريًا.

تعتمد تلك المراكز على قطع التواصل بين المريض وأسرته "مفيش زيارات قبل شهر"، حسب كبريتة، وتستعين بأطباء يزورون المركز كل فترة، يجلسون ساعة مع المرضى، ثمّ يكررون الأدوية.

تكدس تلك المراكز عشرات المرضى في مكان صغير، ويُقدّم لهم طعام قليل التكلفة، يغلب عليه الـ "فول وعيش"، ومَن يعترض "يكون مصيره الضرب"، مع استخدام متكرر لأدوية تُضعف قدرة المريض على المقاومة أثناء العقاب.

تلعب المراكز بنزلائها "زي الكورة"، كما يقول حمادة، تعطيهم أدوية مثل بوبرينورفين، نالوكسون، ميثادون، سافينيز، هالونيز، كويتابكس؛ لذلك تستمر الإقامة مددًا قد تصل ستة أشهر. 

يقول كبريتة أن بعض حالات الوفاة تكون نتيجة جرعات خاطئة من الأدوية أو أخطاء في طريقة تعاطي الدواء، كما يحدث مع حالات مثل مُدمني الهيروين الذين يضيفون قَطرة مدرابيد على جرعات الهيروين، ما يمنحهم "هبَّة" أكبر، أي تأثير مزاجي أقوى، لكنها تتسبب في خراريج/دمامل على الرئة. 

عندما يصل مدمن الهيروين إلى المستشفى الحكومي، تُجرى له أشعة وتحاليل لمعرفة تأثير المخدر على الجسم، ومدى انتشار "الدمامل" على الرئة، لوصف الدواء المناسب للمريض. لكن في المقابل، فور وصول المرضى للمراكز غير المرخصة، يعطونهم الأدوية دون فحص؛ وهو ما يفسر به كبريتة حالات الوفاة في الأيام الأولى.

تقصير حكومي

رغم القتل والانتهاكات التي كُشف عنها أكثر من مرة، قلما تقع تلك المراكز تحت المساءلة الحكومية أو حتى التفتيش.

يوضح المدير السابق لحقوق المرضى بالمجلس القومي للصحة النفسية وعلاج الإدمان الدكتور خالد السياجي لـ المنصة أن الجهة الوحيدة التي لها حق الضبطية القضائية هي إدارة العلاج الحر، التابعة لوزارة الصحة.

حسب السياجي، فإن قسم حقوق المرضى التابع للمجلس القومى للصحة النفسية هو المسؤول الوحيد عن استقبال شكاوى المرضى النفسيين وذويهم، ومن ثمّ تُرسل لإدارة العلاج الحر، التي من المفترض أن تقتحم المركز لتتأكد من التراخيص؛ لكن هذا التفتيش لا يحدث إلا قليلًا.

العاملون في هذه المراكز معظمهم مدمنون سابقون غير مدربين أو مؤهلين

يعمل الدكتور خالد في علاج الإدمان منذ أكثر من 25 عامًا، يدير جلسات جماعية لمدمنين من مختلف الأعمار، ويعترف أنه أثناء توليه مسؤولية قسم حقوق المرضى "فشلنا في إغلاق هذه المراكز، لأن القانون لا يعطي الحق في اقتحام أيّ مركز لا توجد به لافتة من الخارج، والمراكز غير المرخصة لا توجد عليها لافتات؛ فهي في نظر القانون شقق لا يجوز لوزارة الصحة اقتحامها".

يلجأ بعض أصحاب المراكز للعمل بشكل غير قانوني بسبب ارتفاع تكلفة الترخيص التي قد تصل، حسب كبريتة، إلى"أكثر من مليون جنيه، وحتى إن وفرت المبلغ هتحتاج إجراءات طويلة من أكثر من جهة رسمية للحصول على التراخيص".

ويُعرّف دليل خدمات وزارة الصحة، وكُتيّب معايير تراخيص مستشفيات الصحة النفسية المستشفى الخاص بأنه كل منشأة أعدت لاستقبال وعلاج والكشف على المرضى، ويوجد بها على الأقل 15 سريرًا وتوجد بها غرفتان للعمليات وغرفة للإفاقة، على أن يدير المستشفى طبيبٌ مرخصٌ له بمزاولة المهنة، وتعمل طبقًا للقانون رقم 153 لسنة 2004.

ويوضح الدليل أن الأوراق المطلوب تقديمها للعرض على اللجنة الدائمة عند إنشاء مستشفى خاص تصل لنحو 20 مستندًا، تطبيقًا للقانون 51 لسنة 1981 والقانون 153 لسنة 2004، والقرارات الوزارية رقم 223 لسنة 1999، والقرار 311 لسنة 2011. 

ويحمِّل الدكتور نبيل القط الحاصل على دكتوراه في علاج إدمان المراهقين، الحكومة وتحديدًا وزارة الصحة مسؤولية انتشار المراكز غير المرخصة، بسبب ضعف الرقابة، مشيرًا في المقابل إلى أن "الروتين الحكومي يحرم أصحاب المراكز الخاصة من تسجيل المنشأة. الترخيص يتطلب عشرات الخطوات المعقدة، فأصحاب المراكز بيختاروا الطريق الأسهل، ودا بيفتح الباب أمام غير المؤهلين للعمل في المجال".

يؤكد نبيل القط لـ المنصة أن العاملون في تلك المراكز "معظمهم مدمنون سابقون، غير مدربين أو مؤهلين.

تواصل معدّ التحقيق مع إدارة العلاج وصندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي، وكان ردهم بأن المتحدث باسم وزارة الصحة هو المنوط بالإجابة عن أسئلة معدّ التحقيق. 

بدوره قال الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث باسم وزارة الصحة لـ المنصة إن هناك رقابة دورية من الإدارة المركزية للتراخيص والعلاج الحر والمجلس القومي للصحة النفسية، تتمثل في قيام الجهتين بحملات للتفتيش بالتنسيق مع الإدارة العامة لمكافحة المخدرات والأمانة العامة للصحة النفسية كطرف فني للتعامل مع المرضى.

وأرجع الدكتور عبد الغفار سبب الانتشار السريع للمراكز غير المرخصة إلى الرغبة في تحقيق الربح المادي السريع، والخوف من الوصم المجتمعي في حال اللجوء إلى المراكز الحكومية.

وفيما يخص الاتهامات التي تُوَّجه للوزارة بصعوبة الحصول على التصاريح اللازمة للمراكز الخاصة، أشار المتحدث باسم وزارة الصحة إلى أن "إدارة العلاج الحر جهزت موقعًا إلكترونيًا لتسجيل المنشآت، يحقق سياسة الشباك الواحد في ترخيص المنشآت العلاجية؛ ومنها منشآت الصحة النفسية ومنشآت علاج الإدمان".


(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر

تنشر المنصة هذا التحقيق بالتزامن مع "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج) في إطار اتفاق شراكة.