"لن تكون الأخيرة"، هكذا علق الطبيب حسام الجمال على خبر وفاة الطبيبة الشابة بمستشفى الزهراء الجامعي نورا نجيب، أثناء نومها خلال راحتها بين النوبتجيات بالمستشفى.
حسام، طبيب تخدير يعمل في مستشفى عام بإحدى مراكز محافظة الدقهلية، يؤكد للمنصة أن اثنين من دفعته توفوا خلال السنوات الثلاث الماضية نتيجة ضغط العمل، مشيرًا إلى أن الطبيبين ماتا قبل أن يتما الـ26 عامًا، "كانوا بيشتغلوا 72 ساعة متواصلة مقدروش يستحملوا"، يقول الطبيب الشاب.
لا تملك نقابة الأطباء إحصاءً محددًا بعدد الأطباء الذين توفوا نتيجة الإجهاد في العمل. غير أن بيانًا للنقابة، نُشر في سبتمبر/ أيلول الماضي، جاء فيه أن أعداد وفيات شباب الأطباء، من خارج إصابات كورونا، يرتفع سنويًا، مشيرًا إلى وفاة اثنين من الأطباء شهريًا في عام 2022، في مقابل طبيب كل 3 أشهر في عام 2018.
وهو ما يؤكده أحمد حسين، عضو مجلس نقابة الأطباء، الذي أعد الحصر، بقوله إن الوفيات في تزايد مقارنة بالأعوام السابقة، مشيرًا في حديثه مع المنصة إلى أن هذا ما استطاعت النقابة حصره، وهو "ليس دقيقًا وقد يكون أكبر من ذلك، لأنه اعتمد على ما بُلّغت به النقابة من أهالي الأطباء المتوفين أو ممن نُشرت أسباب وفاتهم في وسائل الإعلام".
المشقة في الطريق
يمر الطبيب بأربع مراحل أساسية في حياته العملية؛ الأولى فترة الامتياز (التدريب الإجباري بعد التخرج)وفي الغالب يقضي فيها من سنتين إلى ثلاث سنوات، ثم مرحلة الطبيب المقيم (الممارس العام)، ثم الطبيب الاختصاصي (النيابة) لمدة لا تقل عن 5 سنوات عادة، وهنا يستطيع فتح عيادة متخصصة، ثم المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الطبيب الاستشاري.
إبراهيم كامل، أخصائي باطنة في مستشفى عام بالدقهلية، يشرح للمنصة ما يمر به خريج كلية الطب قبل الوصول للحظة فتح العيادة الخاصة به، "بعد الامتياز والشهادة، بيروح الطالب للنقابة ووزارة الصحة عشان الترخيص، واللي ممكن بيه يفتح عيادة بصفته ممارس عام، لكن ماحدش من العيانين هيروح لممارس عام، الناس بتفضل تروح العيادة لاستشاري، عشان كده لو فتحت عيادة، هعمل فيزيتا قليلة، إللي هو يدوب هدفع إيجار العيادة ومرتب السكرتيرة".
أما أحمد عبد الفتاح، طبيب مسالك بولية، يعمل بمستشفى عام بالغربية، فيشير في حديثه للمنصة إلى أن ما يتردد عن الوضع الاقتصادي للأطباء، بسبب عملهم في المستشفيات الخاصة وامتلاك عيادة بعيد عن الواقع، فها هو يبلغ من العمر 37 عامًا، ولازال أخصائي، يقول "هما مش عارفين الطريق الطويل اللي بنمشيه عشان نوصل لفتح عيادة خاصة، والشغل في المستشفيات الخاصة مش رفاهية ولا دليل عليها".
ويتفق إبراهيم وأحمد وحسام على أن فترة الامتياز واحدة من "أسوأ" الفترات على الطبيب، ويقول حسام "في الأصل أنا في الامتياز للتدريب على يد الأطباء الأقدم والأكبر في السن، لكن في الحقيقة أنا شغال مرمطون وبدون إجازات تقريبًا".
فيه فرق بين العمل تحت ضغط والعمل حتى الموت، اللي بيحصل هو الحالة التانية
حسام لن يفتح عيادة لأنه طبيب تخدير، وعوضًا عن ذلك يضطر للعمل في أكثر من مستشفى لساعات طويلة تصل في بعض الأحيان إلى 72 ساعة متواصلة، ويقول "بنام ربع ساعة على ما المريض ينزل العمليات، أو ممكن في التاكسي وأنا رايح من مستشفى لمستشفى. أنا تقريبًا منتمنش 6 ساعات متواصلة من وقت ما اتخرجت من الجامعة"، حسام دفعة 2015.
يوضح أحمد أن العمل يعتمد على الأقدمية، الأكبر يضغط على الأصغر ،"يعني زي ما الطبيب المقيم بيسخف عادة على الامتياز، النائب بيسخف على المقيم والاستشاري بيسخف على الكل، و دي حاجة بترجع للشخص في الأول والآخر"، يقول طبيب المسالك.
هذه الطريق الطويلة التي يقطعها الطبيب ركضًا دون نوم، يمكن اختصارها، إذا كان من أوائل الدفعة، وحضر نيابته في مستشفى جامعي، مما يساعد في سرعة حصوله على الماجستير بالمقارنة مع زملائه في مستشفيات وزارة الصحة، فبمجرد الحصول على الماجستير يصبح أخصائي، بحسب حسام.
ويوضح حسام "معظم الأطباء المقيمين بيستقيلوا من وزارة الصحة وبيتقدموا عشان ياخدوا فترة النيابة من الجامعة على نفقتهم الخاصة، لاختصار الطريق، بيعملوا نفس اللي بيعمله النايب العادي، الفرق إنهم بدل ما يقبضوا آخر الشهر من المستشفى بيدفعولها فلوس تختلف من جامعة للتانية".
وهو ما تؤكده منى مينا، أمين عام نقابة الأطباء السابقة في حديثها مع المنصة، بأن الدولة يمكنها التوسع في نيابات الجامعة للتخفيف على الأطباء المقيمين، وفي الوقت نفسه زيادة كفاءتهم وخبرتهم.
تزيد منى على طول مدة الدراسة والتدريب العديد من المشاكل التي تشكل أزمة الأطباء في مصر، والتي شملتها جميعًا الاستقالة التي نشرها الطبيب محمد الشرقاوي في فبراير/شباط 2022، ورصد فيها الكثير من المشاكل في إدارة المنظومة الصحية، وتؤكد منى أن "شهادة محمد وغيره من الأطباء الشباب تشير إلى أزمة كبيرة، وعلى الدولة أن تعمل لحلها في إطار إنقاذ المنظومة الصحية".
اعمل حتى تموت
وترى منى أن الأطباء الشباب أكثر قدرة على التحمل والعمل "لكن هناك فرق بين العمل تحت ضغط والعمل حتى الموت، اللي بيحصل هو الحالة التانية"، على حد تعبيرها.
في سبتمبر الماضي، ناقشت هيئة مكتب النقابة العامة للأطباء مقترحًا مقدمًا من حسين خيري النقيب العام، بتنظيم ورشة عمل لمناقشة ساعات العمل المثلى للأطباء، التي لا تؤثر سلبًا على صحتهم الجسدية والنفسية، وكذلك على تقديم الخدمة الطبية للمواطنين، لكن المقترح لم ينتج عنه أي جديد حتى الآن، بحسب مصدر بمجلس النقابة، تحدث للمنصة.
حسب منظمة الصحة العالمية يوجد في مصر 7.09 طبيب لكل 10 آلاف مواطن
كان إيهاب الطاهر، عضو مجلس نقابة الأطباء، كتب على صفحته الشخصية على فيسبوك أن "تكرار وفيات شباب الأطباء أثناء أو بعد نوبتجيات العمل الطويلة المرهقة، أصبح ظاهرة تستحق دراسة جادة. ولحين إجراء هذه الدراسة فإن هناك أمرًا واضحًا يجب إقراره، وهو وضع حد أقصى آدمي لعدد ساعات العمل المتواصلة". وهو نفس ما ذهب إليه عضو مجلس نقابة الأطباء خالد أمين أيضًا الذي قال إن "ظاهرة وفيات شباب الأطباء مفزعة منذ فترة، وطرحنا على مجلس النقابة في أكثر من مناسبة فتح هذا الملف والسعي في كل خطوة لإقامة مرصد خاص يقوم بإحصائيات وتحليل لوفيات الأطباء، وارتباطها بالتخصصات وساعات العمل والمستشفيات والظروف وغيرها".
ويرجع أعضاء مجلس النقابة الحاليون والسابقون في حديثهم مع المنصة، أزمة العمل لساعات طويلة إلى سببين؛ قلة الأطباء بسبب هجرتهم للعمل بالخارج، والسبب الثاني ضعف الرواتب التي يتقاضاها الأطباء، الشباب خاصة، وتدفعهم للعمل في أكثر من مكان لتحسينها.
يقر حسام بأنه، كما زميليه المتوفيين، كان يعمل ساعات طويلة متصلة، لكن "ربنا نجاني، مش عارف ليه بس أنا بعاني لحد دلوقتي من مشاكل صحية نتيجة الشغل لساعات طويلة متصلة".
وهو ما جعل أحمد حسين عضو المجلس يصف الحالة التي يتحدث عنها حسام بأنها "سُخرة"، مشيرًا إلى أن كل الأطباء حديثي التخرج يعانون في بداية حياتهم العملية من هذا الوضع. ويقصد عضو المجلس هنا بحديثي التخرج؛ أطباء الامتياز، وأطباء التكليف (الممارس العام) أول درجة يُعين عليها الأطباء.
تتعاظم المشكلة، كون هذا الضغط الكبير على الطبيب في بداية حياته، لا يوجد له مردود مادي يشجعه على الاستمرار، بحسب إيمان سلامة، التي تقول إن "طالب الامتياز، يحصل على مكافأة شهرية غير ثابتة، لكنها في كل الأحوال لا تتعدى 2800 جنيه شهريًا، رغم أن تعديلات قانون مزاولة المهنة، والتي أقرت في 2019 نصت على أن طبيب الامتياز يحصل خلال فترة تدريبه على نسبة 80% من قيمة ما يتقاضاه الطبيب المقيم، والذي يتقاضى حاليًا نحو 4100 جنيه، ما يعني أن مكافأة الامتياز حوالي 3280 جنيهًا"، وتضيف أن "متوسط راتب الطبيب المقيم 4 أو 5 آلاف جنيه شهريًا".
من جهته، يؤكد أحمد حسين أن "راتب الطبيب ضعيف جدًا أمام الالتزامات الكبيرة عليه، ومحدش يقدر يعترض".
وبحسب أحدث تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الصادر في 7 أغسطس/آب الجاري، بلغ عدد الأطباء البشريين العاملين في القطاع الحكومي 100.742 طبيبًا وطبيبة في عام 2021، دون ذكر عدد الأطباء العاملين في القطاع الخاص، بينما رصد تقرير سابق صدر في مايو/آيار 2021 عن عدد الأطباء عام 2020 في القطاع الحكومي والخاص 121.394 طبيبًا وطبيبة، بينهم 91.454 في القطاع الحكومي، و29.940 طبيبًا وطبيبة في القطاع الخاص.
وأشار التقرير إلى أن متوسط عدد السكان إلى الأطباء البشريين يبلغ 829 نسمة لكل طبيب، في وقت تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن معدل الأطباء في مصر بالنسبة للمواطنين عام (2019) هو 7.09 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، وهو رقم متدنٍ حتى بالمقارنة بدول أخرى في المنطقة، ففي الجزائر يوجد 17 طبيبًا لكل 10 آلاف، بينما تشير المنظمة إلى أن الحد الأدنى المقبول هو 10 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، في وقت ترى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن متوسط الأطباء بالنسبة للسكان استنادًا إلى 33 دولة هو 3.41 طبيبًا لكل 1000 شخص.
هذه الأرقام تعني أن ما يفعله على الأقل 10 أطباء يفعله 7 فقط في مصر، "لكن الحقيقة أن 5 فقط اللي بيعملوا كده، الشغل بيشيله الدكاترة الصغيرين"، كما يقول حسام.
وتتفق كل من منى مينا عضوة المجلس السابقة، وإيمان سلامة العضوة الحالية، على أن ضغط العمل يتحمله في العادة الأطباء الشباب، وتؤكدان أن الوضع يؤثر على الطرفين الطبيب والمريض. وتقول منى "أي شخص يعمل لمدة 24 ساعة متواصلة يفقد تركيزه، وبالتالي لن يقدم للمريض خدمة جيدة كما نريد جميعًا".
تتضافر جميع تلك العوامل لتخلق تحديًا أمام شباب الأطباء، تجبرهم على العمل لساعات طويلة دون راحة، ليسقطوا فريسة الإجهاد والإعياء. ولا تبدو أن هناك حلولًا مطروحة في الأفق، يمكن التطلع إليها، رغم المحاولات المستمرة من جهة الأطباء، والتي يعلو صوتها مع كل سقوط جديد. حيث لا يبقى أمام الأطباء سوى الحلول فردية، التي تتراوح ما بين المقاومة، أو الهجرة.