لم تكن نورهان سيد حنفي تعلم أن عليها البقاء رهينة الانتظار كلَّ هذه المدة ليحين دورُها ضمن القوائم لإجراء عملية تغيير مفصل في ساقها.
شعرت الفتاة العشرينية نورهان بألم في إحدى ساقيها في مايو/أيار 2022، لكنها لم تلقِ له بالًا، غير أن الألم لم يفارقها لتبدأ رحلة علاج طويلة، تصفها لـ المنصة "رحت الأول عيادة خاصة، لكن العلاج طوّل والأسعار غالية، فرحت مستشفى حكومي".
في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام توجهت نورهان إلى مستشفى الهلال، الذي حولها لمستشفى شبرا العام، ثم مستشفى الشرطة، وبعدها مستشفى تابع لهيئة التأمين الصحي. وفي كل مرة كانت تسمع تشخيصًا جديدًا لحالتها، "فيه حد قال لي الألم بسبب شرخ في الحوض، ومستشفى تاني أكدوا إني محتاجة عملية تثقيب رأس عظمة الفخذ". انتهى الأطباء إلى ضرورة تغيير المفصل "قالوا لي محتاجة عملية تغيير مفصل، وكان المفروض أعملها في معهد ناصر بس ماكنش فيه مفاصل، واتحطيت على قوائم الانتظار".
مبادرة رئاسية
قوائم الانتظار واحدة من المشاكل المزمنة التي يواجهها قطاع الصحة في مصر، وتضم هذه القوائم المرضى الذين صدرت لهم قرارات علاج على نفقة الدولة، ويستفيد منها "أي مواطن مصري الجنسية، ومن لا يتمتع بمظلة تأمين صحي".
واحدة من المبادرات الصحية التي أطلقتها الرئاسة في 2018، على خلفية الانتخابات الرئاسية، كانت إنهاء قوائم انتظار الجراحات العاجلة، وأنجزت في السنة الأولى فقط 38 ألفًا و799 جراحة.
استمرت المبادرة في تقليل وقت الانتظار حتى وصل إلى متوسطات الانتظار العالمية، حسب أحمد مصطفى المدير التنفيذي لمبادرة إنهاء قوائم الانتظار.
غير أن رحلة نورهان مع المستشفيات بدأت في نوفمبر 2023، أي بعد خمسة أعوام من انطلاق المبادرة، فلم تشهد هذه الإنجازات، "شهور وأنا مستنية، وكل مرة أطلّع قرار علاج على نفقة الدولة، ويتأجل عشان مفيش مفصل مقاسي". تصدر قرارات العلاج على نفقة الدولة بمدة زمنية محددة تنتهي بعدها صلاحية القرار، ما يستلزم إصدار قرار جديد في حال عدم إجراء الجراحة.
الأزمة مستمرة رغم الإفراجات الجمركية
أقر مدير مستشفى أم المصريين السابق محمود شقوير بأزمة نقص المستلزمات الطبية، رابطًا بينها وبين طول قوائم الانتظار. يقول شقوير لـ المنصة "المفاصل ناقصة في مصر كلها، المريض بيدخل عندي المستشفى يتسجل، ويستنى شهور على ما ييجي دوره"، تصل المريض رسالة أو اتصال من وزارة الصحة تُحدد اليوم الذي سيرسل فيه المفصل لإجراء العملية.
تتولى الوزارة التعامل مع قوائم الانتظار، "مفيش ولا مستشفى فيها مخزن للمفاصل، لأن التوزيع مركزي" يقول شقوير.
ورغم تأكيد رئاسة وزارة الصحة على انفراج الأزمة مع الإفراجات الجمركية التي تزامنت مع التعويم الأخير فبراير/شباط 2024، فإن الأزمة لا تزال مستمرة، حسب دكتور عمرو محمد مدير مستشفى أم المصريين.
الأمر نفسه أكده دكتور فيصل جودة مدير إدارة الحوكمة بهيئة الرعاية الصحية، قائلًا لـ المنصة "توجد أزمة في المفاصل على مستوى الجمهورية".
وأرجع مصدر ثالث، يعمل في المكتب الإعلامي لوزارة الصحة، رفض نشر اسمه، تأجيل عمليات المفاصل لاحتياجات الأطباء "الطبيب يحتاج إلى 3 مقاسات حتى يختار المقاس المناسب حسب الحالة".
إنجاز ناقص
عدد العمليات التي تم إجراؤها ضمن قوائم الانتظار من بداية العام الجاري حتى 13 مارس/آذار 85,587 جراحة في الـ11 تخصصًا المدرجة بالمشروع، ليصل إجمالي المرضى الذين تم التعامل معهم إلى 2,116,688، حسب المدير التنفيذي لمبادرة إنهاء قوائم الانتظار.
تجنب دكتور مصطفى الإجابة بشكل مباشر عن سؤال المنصة حول عدد المنتظرين في مختلف المستشفيات المشاركة، بقوله "إجمالي منتظرين من كام؟ عشان نقول إجمالي المنتظر في السنين السابقة لازم نعرف عدد المرضى المسجلين كل سنة".
بينما اعترف مدير مشروع قوائم الانتظار "فيه عدد من العمليات في الانتظار في بعض التخصصات، ولكن مش طوابير"، مضيفًا "المشروع حقق نجاحات كبيرة لثقة المواطنين فيه. عدد المرضى المسجلين على قوائم الانتظار وصل إلى ما يقارب مليونين و400 ألف مواطن، وعدد المستشفيات المشاركة 499 مستشفى" دون تحديد عدد المرضى الذين ينتظرون دورهم بسبب نقص المستلزمات.
المستلزمات مقابل العملية
تقول نورهان التي تعيش في انتظار مفصل "3 مرات جبت قرار العملية على نفقة الدولة واتأجلت. كل مرة بيقولولي في المستشفى هاتي فلوس المفصل ونعملك العملية على طول". وهي ليست الوحيدة التي طُلب منها إحضار المستلزمات الطبية لعمليتها، إذ أكد مصدر مسؤول في مستشفى أم المصريين ومطلع على ملف القوائم لـ المنصة أن المستشفيات تطلب من المرضى شراء المستلزمات الطبية على حسابهم الخاص حتى يتمكنوا من إجراء العمليات لهم بأسرع وقت.
وأشار المصدر، الذي رفض نشر اسمه، إلى أن هناك من يشترون المستلزمات الطبية على حسابهم، "فيه شركة بتورد المستلزم وبيدفع المريض ثمنه، وبنعمله العملية"، مضيفًا أن من لا يملك مصاريف المستلزم الناقص ينتظر دوره حتى توفره الوزارة.
نقص الدولار سبب في تأجيل العمليات
يعزي المصدر قدرة المرضى على توفير المستلزمات التي تنقص الوزارة إلى عدم التزام بعض الشركات بعقودها مع الوزارة لتوريد المستلزمات الطبية، وتدفع الشرط الجزائي، حتى تبيع المستلزم للمريض مباشرة وتستفيد من فرق سعر الدولار. "علشان كده الوزارة مش لاقية معظم المستلزمات، وفي نفس الوقت متقدرش تدفع فرق الأسعار لشراء المفاصل بالسعر الجديد بسبب محدودية الميزانية"، حسب المصدر.
يتفق مع هذا التفسير دكتور حمودة الجزار وكيل وزارة الصحة في القليوبية يقول لـ المنصة "الشركة الموردة للمفاصل لم توردها بشكل منتظم طول السنتين اللي فاتوا بسبب أزمة الدولار". تولى الجزار منصبه في محافظة القليوبية في شهر يناير 2024، حين انتقل إليها من محافظة البحيرة حيث عمل لمدة عام. "عاصرت أزمة النقص الشديد في المفاصل في المحافظتين" يقول الجزار.
تتفق دكتورة منى مينا الأمينة العامة السابقة لنقابة الأطباء في سبب الأزمة، تقول لـ المنصة "يوجد عجز في ميزانية الصحة في ظل الأزمة الاقتصادية بسبب الدولار، المستلزمات زادت وميزانية الصحة زي ما هي".
تنسحب مشكلة المقاسات إلى "الجوانتي الجراحي"، تقول منى "كتير من الدكاترة دلوقتي بيشتروا جوانتي مقاسهم على نفقتهم الخاصة لأن هيئة الشراء مش هتوفر غير اللي عندها".
الواسطة تزيد المشكلة
لا يقتصر الأمر على المفاصل، عانت أسماء عادل من الانتظار لمدة 6 أشهر على قائمة انتظار بمستشفى معهد ناصر، لأنها تحتاج لإجراء عملية استكشاف لإزالة المبيض وإرساله للتحليل، بسبب وجود ورم خبيث بالرحم.
لكن العملية تأجلت بسبب حقن التخدير، تقول أسماء لـ المنصة "بعد ما جبت متبرعين وعملت كل التحاليل على حسابي بره المستشفى، العملية اتأجلت".
اضطرت أسماء خلال شهور الانتظار إلى استخراج أكثر من قرار للعلاج على نفقة الدولة لأن له مدة محددة حسب الحالة، ولم تتمكن من إجراء العملية إلا بعد الحصول على واسطة "حطوني أولوية وقدرت أعمل العملية" تقول أسماء.
وفي محاولة لتدارك المشكلة، تقدم عدد من النواب بطلبات إحاطة في مجلس النواب بشأن طوابير قوائم الانتظار، يقول محمد رجب النائب عن محافظة بني سويف لـ المنصة "بخلاف أزمة الدولار ونقص المستلزمات الطبية، فيه موظفين عرّضوا المرضى للخطر بسبب المحسوبية في الاختيار بين قوائم الانتظار، بدل من اختيار الحالات الحرجة بيختاروا القرايب وأصحاب الوسايط".
خطوة طلب الإحاطة جاءت بعد تقدم رجب مع عدد من نواب بني سويف بشكوى لمدير مستشفى بني سويف الجامعي للتحقيق مع الموظفين المسؤولين عن طول قوائم الانتظار، "ولكن دون جدوى" حسب رجب.
طلب الإحاطة ليس الوحيد، حسب النائب هشام حسين، أمين سر لجنة الاقتراحات والشكاوي بمجلس النواب، يقول لـ المنصة "تلقينا عدد من الاستغاثات من مرضى تأخرت عملياتهم لمدة تجاوزت الـ6 شهور، بسبب نقص المستلزمات الطبية".
يرجع حسين الأزمة إلى "التوتر في البحر الأحمر وأزمة الدولار وتقييد حركة الاستيراد، وتخزين المستلزمات لدى بعض التجار". لكنه أكد أن الفترة القادمة ستشهد انفراجة في توفير المستلزمات "لعل ذلك يقضي على طوابير قوائم الانتظار".
يتفق ذلك مع ما قاله الدكتور محمد إسماعيل، رئيس شعبة المستلزمات الطبية، لـ المنصة "التعويم سيساهم بشكل كبير في حل تلك الأزمة".
إذ كانت شركات المستلزمات الطبية تطلب من هيئة الشراء الموحد، وهي الجهة المنوطة بالتعاقد مع شركات المستلزمات الطبية لتوريد الأجهزة للمستشفيات الحكومية، أن ترفع لهم أسعار المستلزمات لتغطية خسائرهم من سعر الدولار ولكن الرفض كان ردهم المستمر، ويوضح إسماعيل "ذلك الرفض كان سبب نقص المستلزمات الكبير الموجود في المستشفيات".
كما تسبب في خسارة فادحة للشركات، "عن نفسي خسرت حوالي 40 مليون جنيه فرق التعويم" يقول دكتور إسماعيل، لكنه يستدرك "الخسارة دي هعوضها فيما بعد ولكن كل اللي يشغل تفكيري حاليًا هو ازاي أسدد للشركة اللي بنستورد منها المستلزمات".
ويشير رئيس شعبة المستلزمات الطبية إلى أنه بعد تحرير سعر الصرف الأخير رفعت الهيئة الأسعار وحاسبت الشركات المتعاقدة بالسعر الجديد. "وده معناه إن الأزمة هتتحل بشكل تدريجي" يقول إسماعيل.
وهو ما يبدو متفقًا مع القرارات الأخيرة بالإفراجات التي ساعدت في حل مشكلة البضائع المستوردة لكن صداها لم يصل نورهان بعد، التي لا تزال في انتظار المفصل لإجراء عمليتها لتتمكن من العودة لممارسة حياتها مرة أخرى بصورة طبيعية.