"انتم بتقولوا إيه؟".. يشكو الطفل آدم ياسر بصفة متكررة لوالديه من عدم قدرته على السمع، فرغم التأكيدات المتكررة لرئيس الوزراء على انفراج أزمة شح الدولار، فإن معاناة آدم تظهر عكس ذلك، فسماعات الأذن المستوردة ما زالت شحيحةً في السوق.
يعيش آدم، الذي يبلغ من العمر 10 سنوات، مع أسرته في محافظة الدقهلية، إلا أنه يعجز عن التواصل مع أقرب الناس له بسبب تلف ميكروفون إحدى قوقعتي الأذن الاصطناعيتين، اللتين تعوضانه عن الضعف الخلقي لسمعه، بما يؤثر على نموه الإدراكي والعاطفي وثقته بنفسه. تقدمت الأسرة لشركة مستوردة بطلب ميكروفون بديل منذ يناير/كانون الثاني الماضي، لكنها لم تتلق ردًا بتوفير القطعة المطلوبة حتى وقت نشر هذه القصة.
تعكس مشكلة آدم استمرار أزمة نقص العملة الصعبة، التي لا تقتصر تأثيراتها على نقص السلع المطلوبة، لكن الأسر التي وصلتها قطع غيار من الشركات المستوردة تفاجأت بارتفاع صارخ في أسعارها، ما زاد من أعباء توفير وسائل السمع لأبنائها.
في انتظار الميكروفون
اضطر آدم خلال سنوات عمره العشرة لإجراء عمليتي زراعة قوقعة في أذنيه، الأولى كانت على نفقة التأمين الصحي وهو في سن الثالثة، والثانية كانت بتبرعات طوعية وهو في سن الثامنة، أملًا في علاج حالة ضعف شديد إلى عميق في السمع، يعاني منها منذ الولادة.
تروي والدة آدم، شيماء حامد، لـ المنصة كيف كافحت من أجل تدبير نفقات قطع غيار القوقعتين، حيث احتاجت الأسرة، التي يعمل عائلها منسق حدائق، إلى تدبير 44.5 ألف جنيه لشراء الميكروفون المستورد للقوقعة، وبفضل التبرعات الطوعية استطاعت جمع المبلغ وسداده للشركة المستوردة منذ مارس/آذار الماضي.
لكن جمع المبلغ لم يكن كافيًا، فـ"إلى الآن لم يتمكن الوكيل المستورد من توفيرها بدعوى أزمة الدولار والجمارك"، كما تقول الأم.
خلال الشهر نفسه الذي كانت تسعى فيه أسرة آدم لجمع ثمن الميكروفون كان رئيس الوزراء يبشر بانفراج أزمة نقص الدولار المتفاقمة منذ 2022، وذلك بفضل استثمارات إماراتية بمدينة رأس الحكمة وتمويلات دولية من صندوق النقد والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي.
وفي واحد من المؤشرات التي أعلنها رئيس الوزراء للتدليل على انفراج الأزمة، كان حديثه عن الإفراج عن بضائع عالقة في المواني بقيمة تتجاوز الـ8 مليارات دولار.
لكن نظرةً سريعةً على أحوال أسرة آدم، التي تنتظر ميكروفونًا مستوردًا منذ شهور، تكشف عن استمرار الأزمة على الرغم من التصريحات الحكومية المتفائلة، "ابني لا يكف عن البكاء والصراخ منذ تلف القطعة القديمة لعدم استيعابه كلامنا أو سماعه لما نقول" كما تضيف الأم.
زيادات 463% في الأسعار خلال سنة
خلال العام الماضي عانت العديد من الأسر من تأخر مماثل في استلام قطع غيار قواقع الأذن، لكن صدمتهم كانت أكبر عندما عرفوا بالزيادة في سعر القطعة، بالمقارنة بالأسعار السابقة.
الطفلة ريناد وُلدت بعيب خلقي في العصب الحسي السمعي ما استدعى إجراءها عملية زراعة قوقعة قبل عامين ونصف العام بأحد مستشفيات محافظة القاهرة على نفقة الدولة، وتحتاج الصغيرة إلى تغيير قطع غيار للقوقعة، يتحملها والدها على نفقته الشخصية في ظل عدم إتاحة أي مساعدات من الدولة لتغطية هذه النفقات.
"في مارس 2023 اضطررت لاستبدال كابل ومغناطيس وفلتر للقوقعة على نفقتي الشخصية لتلفها، وبعد أشهر معدودة احتاجت ابنتي بطارية جديدة للقوقعة، توجهت لمقر الشركة وكيل المصنع في فبراير/شباط 2024 فقالوا لي غير متوفرة الآن، وعليك الانتظار حوالي أسبوع، امتد الأسبوع لثلاثة"، كما يروي إسلام محمد، والد الطفلة الذي يعمل سائقًا في القاهرة لـ المنصة.
وبينما كانت أسرة ريناد، ذات الخمس سنوات، تتوقع استلام البطارية بسعر 10500 جنيه، وهو سعرها في بداية العام الجاري على حد قوله، تفاجأت عند الاستلام، في مارس/آذار الماضي، بصعود السعر إلى 16900 جنيه "أصيبت زوجتي بصدمة عندما أبلغتها الشركة بهذا السعر واضطررنا للاستدانة لسداد فارق التكلفة".
يقول محمد إن سعر هذه البطارية قبل عام واحد، أي في مارس 2023، كان في نطاق 3000 جنيه، أي أن سعرها زاد بنحو 463% خلال هذه الفترة.
في الشهر نفسه الذي تلقت فيه أسرة ريناد صدمة السعر الجديد للبطارية، كانت الحكومة تحتفي بقرار البنك المركزي الحفاظ على مرونة سعر الصرف، وهو ما تسبب في ارتفاع السعر الرسمي للدولار من نحو 31 إلى 50 جنيهًا.
استهدف هذا الإجراء وقف نزيف المضاربات على سعر الصرف في السوق الموازية، وجاء استجابة لمطالبات صندوق النقد الدولي لتوحيد سعر الصرف، لكنه مثَّل أيضًا اعترافًا صريحًا بالتهاوي المتسارع لقيمة الجنيه أمام الدولار.
وبينما تقود الدولة قرارات جريئة مثل تحرير سعر الصرف، يقول محمد إن الحكومة "لا تتحمل تكاليف صيانة القوقعة، حيث تدفعها للمرة الأولى خلال عملية الزرع حال أجريت على نفقة الدولة فقط".
الأمر ذاته عانت منه الطفلة أميرة رمضان، ذات التسع سنوات من الدقهلية، فبعد تأخير 3 أشهر في توفير بطارية للقوقعة، من أبريل/نيسان إلى يوليو/تموز 2023، تلقت الأسرة صدمة السعر الجديد للبطارية.
يروي والد أميرة، رمضان عبد الجواد، لـ المنصة "منذ ولادتها تعاني من ضمور بالعصب السمعي ما استدعى إجراء عملية زراعة قوقعة الأذن منذ 5 سنوات بمستشفى جامعة المنصورة على نفقة الدولة. ولكن القوقعة تحتاج للصيانة الدورية سنويًا وأحيانًا ما تصاب بأعطال أو تلف أي من أجزائها. منذ زراعتها تم تغيير البطارية مرتين آخرهما في يوليو 2023 بتكلفة 17 ألف جنيه. وهو سعر 2 بطارية صغيرة الحجم".
يطالب رمضان الدولة بمساعدة أهالى المرضى بتحمل تكاليف الصيانة الدورية للقوقعة، أو جزء منها، باعتبارها العلاج الوحيد لأصحاب الإعاقة السمعية.
المستوردون يعترفون بالأزمة
تواصلت المنصة مع 3 شركات لاستيراد قطع غيار القواقع، عبر الهاتف، وأجمع المتحدثون الثلاثة باسم الشركات أنهم واجهوا صعوبات خلال الفترة الماضية بسبب أزمة الدولار، ما أعاقهم عن توفير مستلزمات قوقعة الأذن في التوقيتات الطبيعية.
وتوقع مسؤول في إحدى هذه الشركات، طلب عدم نشر اسمه، أن تنفرج الأزمة خلال الشهرين المقبلين، مع تيسير التعاملات الدولارية خلال الفترة الأخيرة، بالتالي توافر قطع الغيار.
رغم الأهمية الكبيرة التي توليها الدولة لمساعدة معاقي السمع، لا ينعكس ذلك الاهتمام على تغطية تكاليف قطع غيار وصيانة قوقعة الأذن، ويقول خبراء لـ المنصة إن أزمة الدولار الأخيرة ساعدت في تسليط الضوء على أهمية توفير هذا الدعم، بالنظر للتكلفة المرتفعة لقطع الغيار وصعوبة استيرادها.
وكان رئيس الجمهورية أطلق في 2019 مبادرة للكشف المبكر وعلاج فقدان السمع لدى الأطفال حديثي الولادة، وفي إطار هذه المبادرة يمكن تركيب سماعة للأذن، أو تحويل الطفل لإجراء عملية زرع القوقعة لمن تستدعي حالته.
كما تشجع الدولة على المبادرات التطوعية في هذا المجال، حيث أشرفت وزارة التضامن الاجتماعي في 2021 على إطلاق مبادرة "بقوقعتي أنا أحيا" التي تنفذها منظمات من المجتمع المدني لتوفير قطع غيار للقوقعة الإلكترونية.
لكن "القوقعة أو السماعة جهاز إلكتروني، في حال تعرضه للرطوبة أو القطع أو الصدمات يحتاج للتغيير بصفة منتظمة، ما يعد تكلفة كبيرة على الأسر" كما يقول مؤسس مبادرة صوتك ونس للصم وضعاف السمع، أحمد ممدوح، لـ المنصة.
يضيف ممدوح "قرارات زراعة القوقعة على نفقة الدولة لا تغطي تكاليف الصيانة والبرمجة المستمرة، وهناك حاجة لأن تتحمل هيئة التأمين الصحي تكلفة توفير البطارية أو دعمها جزئيًا".
ويحذر أخصائي طب السمع والاتزان هاني عبده من التأثير السلبي لتعطل قوقعة الأذن الاصطناعية على قدرة الطفل على التواصل واكتساب اللغة.
ويقول عبده "عملية زراعة القوقعة تصاحبها عملية تأهيل سمعي بمعرفة أطباء التخاطب و البرمجة. توفير قطع الغيار والبطاريات والبرمجة المستمرة مسألة مهمة جدًا كيلا يفقد الطفل التواصل ونعود لنقطة البداية".
لا ترى أسرة الطفل آدم المستقبل القريب بنفس التفاؤل الذي يبدو في خطاب رئيس الوزراء، فهم وإن تحصلوا على الميكروفون المطلوب للقوقعة لا يدرون كيف سيدبرون المبالغ المطلوبة لصيانة القوقعة بسبب سعر الصرف.
وتقول والدة آدم "إلى الآن لا نعلم موعد وصول القطعة المسدد ثمنها منذ مارس الماضى، فضلًا عن حاجة القوقعة لتغيير الكابل وبيت الحجارة بتكلفة حوالي 29000 جنيه، وهو ثمن بيعها من وكيل المستورد في مارس 2024. رغم توفر القطعتين لدى الوكيل فإن سعرهما فوق مقدرتنا، وحاليًا منتظرين تبرع إحدى الجمعيات الخيرية".