تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
ذوو الإعاقة

تمكين ذوي الإعاقة.. لافتات مُعلَّقة على جدران الإقصاء

منشور الاثنين 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

لن يُصيبني الملل وأنا أتحدث عن الفجوة بين الكلمات الرنانة والواقع المرير الذي يعيشه ذوو الإعاقة، ولا عن الشعارات البرّاقة التي تُزيّن جدران الإقصاء السميكة. ماذا يكمن وراء تلك اللافتات؟ ما الأصوات التي تُخنَق قبل أن تصل إلى آذاننا؟ ماذا عن تلك المعارك اليوميّة التي نخوضها بصمت بعيدًا عن عدسات الكاميرات وضجيج المؤتمرات؟

هذه ليست محاولة لاتهام الكون بالتقصير، إنما غوصٌ أعمق في بحر التجاهل، لالتقاط الصرخات المكتومة التي يتردد صداها في المدى.

تناولُ موضوعات "الدمج" و"التمكين" يبدو سهلًا ومنمّقًا على المنصّات، لكنه يفقد بريقه ومعناه حين يصطدم بعثرات المعارك اليوميّة التي يخوضها الإنسان ذو الإعاقة. ولا أعني هنا المعركة ضد جسد قد يخذل أحيانًا؛ لكن ضد مجتمع يتقن إدارة الظهر، ويرى في الاختلاف عبئًا ووصمةً. مجتمع يكتفي بالتعاطف السلبي أو التجاهل، حتى أصبحت "لافتات التمكين" ديكورًا يُخفي قبح الإقصاء الفعليّ. إقصاء يتغلغل في النظرات والتعاملات والفرص الضائعة، والكرامة المهدورة.

ففي مجتمع يتغنى بالتنوع والمساواة والتقبّل، يواجه ذوو الإعاقة، مرئيةً كانت أو غيرَ مرئية، جدرانًا من التهميش والإقصاء وسوء الفهم. الإعاقة ليست مجرّد تحدٍّ شخصي، إنما مرآة تعكس مدى استعدادنا كمجتمع لاحتضان الاختلاف. وبين شعارات التمكين المزخرفة التي يُصفقّون لها في المبادرات الشكلية والواقع القاسي، تبرز الحاجة إلى نقاش صريح عن مسؤولية المجتمع عن إزالة القيود التي تُكبِّل ذوي الإعاقة. 

الإقصاء باللغة والتنمّر بالصمت

تتجلى أولى صور إقصاء ذوي الإعاقة في اللغة ذاتها. قد تكون مصطلحات مثل "ذوي الهمم" نابعة من نوايا حسنة، لكنها كثيرًا ما تحمل في طياتها عبئًا إضافيًا، كونها تضع التحدي بكامله على صاحب الإعاقة، وكأن المجتمع بريء من مسؤولياته.

يتناسى هذا المصطلح أن الإعاقة، وإن احتاجت همَّةً من صاحبها، تحتاج أيضًا تيسيرًا واجبًا على المجتمع، حتى يتخلص صاحب الإعاقة من قيوده المرئية وغير المرئية. ولكل مصطلح ومسمى مقال، لكن تبقى "الإعاقة" بتصريفاتها هي المصطلح الأوسع انتشارًا بحثيًا ومؤسسيًا، بداية من جمعية أهلية أوضة وصالة، وحتى اليونسكو.

قد يفهم المجتمع أصحابَ الإعاقات الظاهرة التي نراها بالبصر لكن ماذا عن البصيرة؟

من اللباقة إدراك الفارق بين "الوصم" باستخدام مسميات مثل العاجز والأكتع والمكسّح والأطرم والأطرشّ من جهة، و"الوصف" بلغةٍ تحتفي بالاختلاف من جهة ثانية، ومحاولات التجميل اللغوية التي تُستخدم قناعًا لتبرير التقاعس أو لتحويل المسؤولية من جهة ثالثة. بعض هذه المحاولات للأسف لا تعدو كونها تجارية وقتيّة، تهدف للتجمُّل بتوصيات تدَّعي المساواة بينما الواقع يصرخ بالتمييز.

في القصة المأساوية التي حُذفت من سرديّات الذاكرة؛ تنمّر مدير على موظف كثير الذهاب إلى دورة المياه بسبب إعاقة غير مرئية أو مرض ما، قبل سنوات قليلة. كان المدير يرى أن الموظف لو لم يحقق التارجت فـ"في داهية يمشي وييجي غيره". انتحر الموظف، وكانت الجنازة ساخنة على السوشيال ميديا. لكن صفعات المؤثرين لم تصل لخد المدير، وركوبه الترند لم يُدْمِهِ، وممارساته المؤذية لم تُعرِّضه لأي مساءلة؛ كلماته كانت رصاصات، وتجاهله كان سُمًّا بطيئًا. لم تكن هناك جريمة بالمعنى القانوني ولا أداة قتل مادية، لكن النتيجة كانت موتًا، عفوًا؛ قتلًا حقيقيًا.

ما أكثر الإعاقات غير المرئية. شخصيًّا أرى كلَّ ما يعوقُ المرءَ عن العيشِ بصورةٍ طبيعيةٍ يستحقُ أن يسمى "إعاقة". قد يفهم المجتمع أصحابَ الإعاقات الظاهرة، التي نراها بالبصر، لكن ماذا عن البصيرة؟ عن إعاقة غير مرئية بسبب مرض نادر؛ طيف توحد، تصلب لويحي، أو بعض الأمراض النفسية والصرع، أو بعض حالات أمراض العضلات، التهاب الأعصاب المزمن، ومتلازمة التعب المزمن، والفيبروميالجيا.

وكم من الأرواح تُقتل يوميًا ببطء بالتنمر، الاستهزاء، والسخرية، والتهميش في أماكن العمل والدراسة وحتى في الشارع؟ كم من الكرامات تُسحق تحت وطأة كلمات وأفعال لا تجد من يحاسب عليها لأنها ببساطة لا تترك دليلًا ماديًا؟ إنها جرائم تكتمل أركانها مع سبق الإصرار والترصد في صمت، بعيداً عن عدسات العدالة.

وقبلَ شهور في محافظة الغربيّة تعدَّت مخلوقات آدمية على شاب أبكم بعد أن أمرتْهُم لا إنسانيتهم بمضايقته، فانصاعوا لأمرها. الشاب لأنه كما يقولون "في حاله" ترك لهم المكان، فساروا خلفه، واستمروا في التحرش به بحركاتٍ بذيئة استفزته كثيرًا، كلما ابتعد لحقوا به، مزقوا ملابسه بمشرط وأصابوه في كتفه، فر منهم إلى بيته، حكى لشقيقته بالإشارة منفعلًا ما حدث، وتغيرتْ ملامحه وحالَ لونه ثم سقط على الأرض ميتاً؛ مات مقتولًا و"بهيّة" تعرف القتلة، في قضيّةٍ لن يُشفي فيها القصاص.

الدندنة بأغنيات المسؤوليّة المجتمعيّة و"التقبّل" تصطدم بالتناول السطحي والمجتزأ لقضايا الإعاقة في الإعلام والمبادرات المجتمعية. إن ابتعدنا عن الملهاة المأساوية المسمّاة  بـ"الإتاحة"، سنجد حلقات مسلسلات التمكين طالت حتى أصبحت مملة، و"الاهتمام والدمج" تحوّلا إلى مسرحيات وأفلام بعيدة عن الواقع، والتجارب الإنسانية المعقدة اختُزلت في قصص نجاح فردية استثنائية، أو في مشاهد تعاطف لحظية. ومع تُغييب المعاناة الحقيقية والتحديات البِنيويّة مع ترسيخ هذه السردية، يُشعر كثيرون من المعاقين غير القادرين على إثبات أنفسهم وطاقاتهم في سردية النجاح الاستثنائي هذه بالتهميش وبأن تجاربهم وآلامهم ليست ذات قيمة، وأن أصواتهم غير مسموعة.

الدعم يواجه البيروقراطية

من فعاليات المؤتمر الدولى السنوي السابع للاتصالات لتمكين ذوي الإعاقة، 27 يوليو 2018

هنا تتجاوز القضية المصطلحات والمبادرات الشكلية لتصل إلى جوهر الكرامة الإنسانية. عندما أذكر أن كل تلك الجهود لم تُعطِ صاحبَ الإعاقة بجنيه كرامة، فإنني فقط أُشير إلى حقيقة مؤلمة: أن الكرامة لا يمنحها قرار ولا يجلبها مؤتمر، بل تُكتسَب بالاحترام الحقيقي، والفرص المتكافئة، والاعتراف بالحقوق الأصيلة.

وعجز المجتمع عن استيعاب صاحب الإعاقة فشل أخلاقيّ وإنسانيّ قبل أن يكون فشلًا مؤسسيًا، لأن المسؤولية لا تقع فقط على الحكومات، بل هي مسؤولية "منا وفينا"، تبدأ من طريقة تربية الأبناء، وتمر بتعاملاتنا اليومية، وتصل إلى سياسات التوظيف والتعليم والإعلام.

من الإنصاف الإشارة إلى محاولات جادة من قيادات سياسية وأهليّة وأكاديمية في أقطار عالمنا العربي نحو الحوار، وتشريع قوانين تجعل الحياة أكثر انفتاحًا وعدلًا للجميع. على المستوى الشخصي يلامسني مصطلح قادرون باختلاف الذي دشنته الدولة منذ بداية احتفالاتها بالمعاقين قبل سنوات، لأنه فتح الباب لتغيير مسميّات الإقصاء الموروثة في وعينا الجمعي، بما يمحو اللبّس بين الوسم والوصم.

كذلك القانون الذي صدر في 2018، جاء مُبشِّرًا لأنه تناول أمورًا تخلق عالمًا أفضل، بمواد أكثر دعمًا لأصحاب الإعاقات، وأخرى تزيل المشقة عن ظهور من يكفل ويعول، لكن التطبيق يحتاج الكثير من المرونة والرحمة وتناسي البيروقراطية.

هناك "مئات الحكايات" التي لم تُذكر بعد، قصصٌ عن كدمات ورضوض وسحجات نفسية أعمق بكثير من أي إصابة جسديّة؛ عن أبواب أُغلقت وأحلام وُئِدت وأصوات بُحَّت وهي تحاول أن تُسمَع.. أتمنى أن يأتي الوقت لنتوقف عن التصفيق لكل المشاهد التمثيلية، ونبدأ في الاستماع بقلوبنا وعقولنا لتلك الحكايات الصامتة، وأن نتحمل مسؤوليتنا في هدم "جدران الإقصاء" حجرًا حجرًا، فالاحتضان الحقيقي للاختلاف لا يكون بالكلمات، ولا "الحوارات" ذات الطرف الواحد، بل بالأفعال التي تعيد للإنسان كرامته وحقه في الحياة و"المشاركة" الكاملة، فقوة أي مجتمع تكمن في تقبله لكل أفراده، بكل أشكالهم واختلافهم وقدراتهم وأجهزتهم المساعدة والتعويضية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.