استيقظ محمد مجدي صباح يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بمسكنه في حي الهرم بمحافظة الجيزة، متأهبًا لرفع طلب تجديد بطاقة الخدمات المتكاملة الخاصة بذوي الإعاقة عبر الموقع الإلكتروني الخاص بوزارة التضامن، تمهيدًا لتقديم طلب التحاق بوظيفة في إحدى الشركات الخاصة في مجال الصناعة التي ستفتح أبوابها أمام طلبات ذوي الإعاقة بداية 2024، ضمن نسبة الـ 5% المخصصة لهم من إجمالي عدد العاملين.
وتلزم وزارة القوى العاملة منشآت القطاع الخاص بتعيين ذوي الإعاقة بنسبة 5% من إجمالي العاملين، وفقًا للقانون رقم 10 لسنة 2018 في المادة 22.
تخيَّل محمد ذو الـ35 سنة أنه بدأ في تجهيز أوراقه مبكرًا؛ لديه شهران بالكامل قبل فتح باب الوظيفة التي يحلم بها، وهي فترة كافية لتجديد بطاقة الخدمات المتكاملة بعد انتهاء صلاحيتها البالغة 5 سنوات والمنتهية في 2023، وتصور أن الأمر لن يستغرق أكثر من ثلاثة أيام، لكنه مرَّ برحلة شاقة استغرقت سنة كاملة.
بداية الرحلة
على مدار شهر كامل، ظل محمد، الذي يستخدم العكاز في تحركاته، يدخل يوميًا على الموقع الإلكتروني منتظرًا تحديد موعد الكشف الطبي حتى شعر باليأس؛ "هل رُفض طلبي؟ هل قمت بأمر خاطئ أثناء التقديم؟ هل الموقع يعمل بشكل طبيعي أم أنه متوقف؟"، أسئلة كثيرة دارت في خلده.
توفر البطاقة العديد من الخدمات والمميزات منها الدمج التعليمي في المدارس والجامعات، والتعيين ضمن نسبه الـ5% من عدد العاملين، والإعفاء من الضرائب المفروضة على الدخل بنسبة 50%، والإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية على السيارات والأجهزة الواردة من الخارج لاستخدام الأشخاص ذوي الإعاقة، حسب الدكتور محمد العقبي مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للاتصال الاستراتيجي والمتحدث الرسمي للوزارة لـ المنصة.
تُصدر وزارة التضامن الاجتماعي البطاقة بالتنسيق مع وزارة الصحة بناءً على تشخيص طبي ووظيفي معتمد، ويُعتد بالبيانات التي تتضمنها هذه البطاقة في إثبات الإعاقة ونوعها ودرجتها أمام جميع الجهات التي يتعامل معها، بما فيها جهات التحقيق والمحاكمة.
كشف مدفوع
شارك محمد تساؤلاته عن طلبه الذي دخل ثقبًا أسود ولم يعرف مصيره، مع أحد أصدقائه "قالي ولا شهرين كمان عشان يعبروك ويحددولك معاد، بس متخافش طلبك ماترفضش ولا حاجة والموقع شغال عادي بس ده الطبيعي بتاعهم، بياخدوا 3 ولا 4 شهور عشان يردوا"، قال محمد لـ المنصة.
ومع تلقيه الصدمة، لم يستسلم محمد وحاول إنقاذ الوظيفة من التبخر، وأجرى محاولات متكررة مع الشركة للحصول على موعد جديد استثنائي بعد إقناعهم بتقديم أوراقه كاملة وصورة من بطاقة الخدمات القديمة، وكتابة تعهد بتسليم صورة من البطاقة الجديدة خلال شهر فبراير/شباط على أبعد تقدير، لتغمره السعادة والنشاط مجددًا.
غير أن سعادته لم تدم، فأطل فبراير مظلمًا كئيبًا حاملًا هم ضياع الوظيفة، كانت قد مرت ثلاثة أشهر على تقدمه بالطلب، لكنه لم يتلق ردًا.
أخيرًا ظهرت النتيجة على الموقع في أول مارس/آذار، وتحدد موعد الكشف الطبي على محمد من أجل عمل الفحوصات اللازمة في مستشفى حكومي يحصل بعده على تقرير تفصيلي بنوع وحجم الإعاقة بشرط أن يكون مختومًا بختم النسر.
"تاني يوم الصبح رحت أقرب مستشفى في الهرم لعمل التقرير، طالبوني بدفع 950 جنيهًا لعمل التقرير والأشعة، ودي كانت الصدمة الثانية لأن إحنا المفروض بنكشف مجانًا في الأيام العادية إزاي عشان تقرير أدفع قرب الألف جنيه؟".
يجيب الدكتور محمد العقبي على السؤال بأن "الكشف مجاني في المستشفيات لحاملي بطاقة الخدمات المتكاملة"، ومن هنا تعاملت المستشفى مع محمد وحاملي البطاقات المنتهية باعتبارهم غير معاقين!
العسكري أصدق
حصل محمد على تقرير المستشفى بعد سداد الرسوم، وبدأ في تجهيز أوراقه تمهيدًا لإجراء الكشف الطبي إلا أن عائقًا جديدًا ظهر في طريقه "النتيجة بتقولي روح لمستشفى عسكري في منطقة 6 أكتوبر، معلش يعني ليه يودونا لمستشفيات عسكري؟ إحنا مش مصابي حرب".
ممتلئًا بالقلق، حاملًا في يديه الأشعة والتقرير المختوم من المستشفى الحكومي، وصل إلى المستشفى العسكري لينتظر ساعات طويلة رفقة قائمة طويلة من المحولين للمستشفى نفسه، ومع سماع نداء الموظف باسمه ذهب مسرعًا ليطلب منه دفع 250 جنيهًا قيمة الكشف الطبي الحركي.
"بان على وشي الزعل جدًا، ولما وصلت عند موظف الخزينة قالي إحمد ربنا، ده في إعاقات تانية بتدفع 650 جنيه للكشف، دفعت في صمت وانتظرت دوري تاني في انتظار الصدمة الرابعة"، يقول محمد.
دخل اللجنة الطبية بالمستشفى العسكري وهو يحلم بانتهاء هذا اليوم العصيب، وقبل أن ينطق بكلمة مد يده بالأوراق ليفاجأ برفض اعتماد التقرير الطبي، مع طلب بإعادة الكشف والأشعة في نفس المستشفى العسكري.
ما بين الرغبة في معرفة الأسباب والخوف، حاول محمد التماسك وسأل "بعد إذنك التقرير معايا زي ما طلبتوه من مستشفى حكومي وبيأكد إن عندي إعاقة حركية"، ليرد الطبيب "اللوائح والتعليمات تنص على إنه لا تعتمد أي تقارير إلا من المستشفيات العسكرية".
دارت الأسئلة في رأس محمد "ليه اتطلب مني أروح أجيب تقرير من مستشفى حكومي مش من مستشفى عسكري؟ ليه أدفع ألف جنيه على الفاضي؟ ليه يمرمطونا بين المستشفيات؟" ظلت هذه التساؤلات داخله، منعه الخوف من الإفصاح عنها.
بعدما استجمع قواه سأل الموظف "أعمل إيه دلوقت؟؟" ليستقبل الصدمة الخامسة "تعالى بعد شهر عشان الكشف الطبي المعتمد"، هذه المرة خرجت كلماته مدغمة "حسبي الله ونعم الوكيل فيكم ضيعتوا الوظيفة و5 شهور من عمري ع الفاضي".
يحدث أن تتحول طلبات بعض المواطنين الخاصة باستخراج بطاقة الخدمات المتكاملة إلى المستشفيات العسكرية، حسب مصدر مسؤول بإدارة التأهيل في وزارة التضامن الاجتماعي لـ المنصة الذي برر ذلك "لتجنب بعض المخالفات التي قد تحدث في بعض المستشفيات الحكومية".
"بعض المواطنين يحصلون على تقارير طبية من مستشفيات حكومية دون إجراء أي فحوصات مقابل بعض الأموال، وهو ما يمكن تجنبه بإلزام بعض المواطنين بالحصول على التقارير من مستشفى عسكري، خاصة الإعاقات القابلة لتغير حالتها، مثل الإعاقة السمعية" يوضح المصدر، الذي طلب عدم نشر اسمه.
يشير المصدر إلى أن الإعاقات الدائمة التي لا تتغير بمرور الوقت عادة ما يجري تحويلها لأقرب مستشفى حكومي والموافقة على تقريرها "ويجري حاليًا دراسة إلغاء هذا الإجراء لمثل هذه الحالات"، ويقصد بالإجراء الحالات الدائمة التي لن تتغير إعاقتها.
لف وارجع تاني
في أبريل/نيسان وفي الموعد المحدد وصل بطلنا إلى المستشفى العسكري، ليطلب منه الموظف دفع 650 جنيهًا في الخزينة قيمة الأشعة وكتابة التقرير المعتمد، وبعد تنفيذ الأشعة واستلام التقرير الذي كان نسخة طبق الأصل من السابق، توجه للموظف للدخول للجنة الطبية مرة أخرى ومعه التقرير والأشعة الجديدة، ليتلقى الصدمة السادسة إذ رفض الموظف توقيع الكشف عليه في نفس اليوم، "قالي لازم أقدم طلب استكمال أوراق على الموقع وأستنى معاد جديد زي ما عملت في الأول بالظبط".
حذف نحو 150 ألف مستفيد خلال عمليات التنقية
لم يتمالك محمد نفسه " كده هرجع لنقطة الصفر! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله حرام سنة كدة تضيع من عمري على الفاضي"، ثم غادر دون انتظار أي رد، فهو يعلم أن الموظف لن يستطيع فعل أي شيء له.
في صباح اليوم التالي انكب محمد على الكمبيوتر لتقديم الطلب والحصول على موعد جديد للكشف الطبي، وبعد أسبوعين حصل على موعد بعد شهرين في المستشفى العسكري نفسه.
توجه محمد للمستشفى في منتصف يونيو/حزيران حسب الموعد "ناس كتير جايه من محافظات بعيدة، زي الفيوم وبني سويف والإسماعيلية"، ليسجل الصدمة السابعة في طريق رحلة الحصول على البطاقة، لكن هذه مرة الصدمة كانت حسرته على ما يعانيه مواطنون آخرون.
كشف مساعد وزيرة التضامن الاجتماعى لـ المنصة عن وصول أعداد المستفيدين من بطاقة الخدمات المتكاملة وإثبات الإعاقة بعد تنفيذ عمليات التنقية إلى أكثر من 1.15 مليون مستفيد.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، كانت مرجريت صاروفيم نائبة وزيرة التضامن الاجتماعي أشارت إلى إصدار 1.3 مليون بطاقة خدمات متكاملة، ما يعني حذف نحو 150 ألف مستفيد خلال عمليات التنقية.
انتهى يوم ثقيل آخر بعد انتهاء توقيع الكشف على محمد بجملة الموظف "تابع تحويل طلبك لمكتب التأهيل على الموقع بعد شهر"، عاد إلى منزله محملًا بأعباء يوم شاق متكبدًا أموالًا إضافية، بينما يتذكر حال المواطنين الذين صاحبوه على مدار اليوم، وما سيعانونه من مشقة العودة لمنازلهم.
كعب داير
استغرق الأمر شهرًا إضافيًا، لتظهر رسالة "تم تحويل طلبك للتضامن" دون أي معلومات إضافية في شهر أغسطس/آب، ليبدأ محمد رحلة فك الشفرة وتحديد وجهته المقبلة. بعد العديد من الاستفسارات فهم مغزاها "توجه لأقرب مكتب تأهيل تابع لوزارة التضامن".
توجه إلى مكتب تأهيل منطقة بولاق الدكرور الأقرب لمنزله "طلبوا مني أدفع فلوس تاني، 55 جنيه في ماكينة فوري، عشان يرفعوا الملف للوزارة وأستنى شهرين وأتابع على الموقع لما تظهر رسالة تم الطباعة لاستلام بطاقة الخدمات المتكاملة".
تطبيق إلكتروني جديد لتتبع حالة طلبات ذوي الإعاقة
كالعادة، يزيد فرق التوقيت بشهر، انتظر محمد ثلاثة أشهر حتى ظهرت الرسالة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ليتوجه إلى مكتب الشؤون الاجتماعية في منشية البكاري بحي فيصل لاستلام البطاقة. وبينما يستعد لنهاية الرحلة، فوجئ بالصدمة الثامنة "أول حاجة سألت عليها هي البطاقة بتاعتي اطبعت، قالولي أيوه بس روح أدفع 105 جنيهات في بنك ناصر الاجتماعي، بيعاملونا كأننا بنك متحرك وبيعاقبونا زي المساجين كعب داير، مافيش مراعاة لحالتنا".
اضطر محمد للذهاب إلى فرع بنك ناصر القريب لمنزله والبعيد عن مكتب الشؤون ليعود مرة أخرى للمكتب في اليوم ذاته حاملًا الإيصال ليتمكن بعد رحلة شاقة مليئة بالصدمات امتدت على مدار عام كامل من الحصول على البطاقة، كاد أن يحتفل إلا أن الفرحة أوقفتها الصدمة التاسعة "لقيت الصلاحية 3 سنين بس"، وهو ما يخالف تأكيد مستشار وزيرة التضامن لـ المنصة أن صلاحية بطاقة الخدمات المتكاملة تستمر 5 سنوات، إلا إذا حدث تغير في حالة إعاقة المواطن.
آلية جديدة
يعتبر محمد العقبي، مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي، الرحلة التي خاضها محمد مجدي في طريقها للانتهاء، إذ يكشف عن إعداد الوزارة لآلية مميكنة عبارة عن تطبيق إلكتروني لتتبع حالة طلبات الأشخاص ذوي الإعاقة بالتعاون مع شركة إيفاينانس لتمكين كل أعضاء المنظومة من المتابعة اللحظية لموقف البطاقات المصدرة والمسلّمة بالفعل.
انتهت الوزارة من إعداد هذا التطبيق وتدريب الفريق المركزي والعاملين في 5 محافظات، على أن يتم تدريب باقي المحافظات تباعًا، حسب العقبي.
يتيح التطبيق المتابعة الدورية لحالات طلبات الأشخاص ليكون تسجيل بيانات المواطنين ورفعها على هذه المنظومة بموافقة أو رفض مدير المكتب في نفس يوم تقديم الطلب، على أن رد المديرية المختصة والإدارة العامة المختصة في ديوان عام الوزارة في غضون ثلاثة أيام من تاريخ تقديم الطلب.
تبدو رحلة محمد متناقضة مع توجه الدولة في التيسير على أصحاب الإعاقات، إذ سبق وأعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي تخصيص عام 2018 ليكون عام ذوي الإعاقة في مصر.
يشعر محمد بذات التناقض ما بين تصريحات المسؤولين في الدولة، وما لاقاه في رحلته لتجديد البطاقة "أول مرة استلمتها على عنوان البيت بالبريد من غير ما أعمل مشوار واحد أو أدفع أي مصاريف".
رحلة محمد مجدي، التي استغرقت عامًا كاملًا ليست فريدة، تماثلها رحلات زملائه أصحاب الإعاقات تختلف فيما بينها فقط في نوعية الصدمات لكنها جميعها تنتهي إلى نتيجة واحدة تعنت واضح في إصدار البطاقات.