تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
من قارب يولارا الصغير في البحر المتوسط، عدتُ للبيت متلهفًا لمشاهدة فيلم باي باي طبريا الذي أخرجته لينا سوالم عن والدتها الفنانة هيام عباس

سلامْ يولارا.. أهلًا طبريا

منشور الأربعاء 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

يتزامن نشر هذا المقال مع حدثين لا علاقة ظاهرةً بينهما؛ تصعيد إدارة ترامب عسكريًا ضد فنزويلا، وتكريم الممثلة الفلسطينية هيام عباس في مهرجان القاهرة السينمائي، وما سيتبعه، غالبًا، من جدل بين من يربطون هذا التكريم بلحظة الإبادة، كأنه تكريم للقضية الفلسطينية في شخصها، ومن سيحاولون حصره في الخانة الضيقة للفن المعزول عمَّا يحدث في الواقع، وبأنه مجرد تكريم لممثلة جيدة.

سنجد من بين الطرفين، وغيرهما، أغلبيةً من المتابعين الذين تنحصر عندهم هيام عباس في الأدوار التي لعبتها في مسلسلات أمريكية رائجة. لا ينتبهون إلى أنها قبل كل هذه المسيرة امرأة فلسطينية هجرت مكانها وعائلتها وحالة الطمأنينة، لتصاحب القلق والمغامرة والشعور بالغربة للأبد كي تصبح ممثلة. ويجهلون على الأغلب أنها لعبت أدوارًا في أفلام فلسطينية مهمة، وبدايتها مع مسرح الحكواتي في القدس.

خارج الحياة

كنت أبدأ ردودي على بعض الرسائل التي كانت تصلني ونحن في عرض البحر بعبارة "هنا.. نحن موجودون"

في شهر سبتمبر/أيلول وأثناء مشاركتي في أسطول الصمود، بدأ عرض فيلم باي باي طبريا (2023)، الذي أخرجته لينا سوالم عن أمها هيام عباس وعائلتها، على المنصة الأساسية التي أشاهدُ عبرها الأفلام. ومن قارب يولارا الصغير في البحر المتوسط، عدتُ للبيت متلهفًا لمشاهدة الفيلم. لتفاجئني في بدايته لقطات لبحيرة طبريا مفصولة عن ناسها بأسوار حديدية، فيما تكتشف الابنة وتعيد صياغة ماضٍ لا تعرفه عن أمها، وجدتها، وجدة أمها، وطبريا، والمكان، وعن هذا البيت العائلي المغلق وشبه المهجور بعد موت الجدة.

من رحابة البحر المتوسط وونس الأسطول وراكبي يولارا، انتقالًا للواقع اليومي في مدينة أوروبية لا يوجد بها بحر، تبدل اسم الفيلم بالنسبة لي، ليصبح "أهلًا طبريا"، بدلًا من "باي باي طبريا". كأني بعكس معنى الاسم أشعر بالونس مع فكرة عودة الشخص للمكان الأصلي، الحقيقي، سواء كان دائمًا أو مؤقتًا، حتى وإن كان محاصرًا بأسوار.

ربما لذلك توهَّمتُ أن هيام عباس تشعر بالونس نفسه في هذا البيت المهجور. فهنا المكان الأول، برغم ضيقه عليها كمكان محاصر وملتزم بمنظومة تقاليد كانت هي في طور الانفصال عنها تدريجيًا، وفي قرية فلسطينية صغيرة، محاصرة بدورها داخل دولة إسرائيل. مكان يمنعها من الانطلاق، السفر، المغامرة، التحرر، ويجبرها على تذوق مرارة الاغتراب لكي تتحقق كممثلة.

نتخيل أن كل هذه التناقضات تتصارع داخل نفس هيام عباس، ونخمن غيرها بينما نشاهد الفيلم ونتأمل كيف لا تتوقف عن الحركة، والحكي، والبكاء، وأحيانًا الثرثرة.

بعد أيام من مشاهدة الفيلم كنت أقرأ رواية مصورة عن مراهق شارك في أكثر معارك الحرب الأهلية الإسبانية دموية؛ معركة عبور نهر الإيبرو عام 1938. تحمل الرواية عنوان هنا.. حيث أتواجد. فبطل الرواية، مثل أقرانه من المجندين والمتطوعين في جيش الجمهورية لمحاربة الفاشية الإسبانية، اعتاد أن يُعرِّف مكانه في خطاباته لأهله بهذه العبارة؛ "هنا.. حيث أتواجد"، كي لا يعرف أحد مكانه بدقة.

انتبهت إلى أنني كنت أبدأ ردودي على بعض الرسائل التي كانت تصلني بينما كنت في رحلة العبور من غرب البحر المتوسط لشرقه بعبارة شبيهة دون أن أنتبه. إن ترجمتها من الإسبانية ستكون "هنا.. نحن موجودون". لم يكن السبب هذه المرة محاولة التمويه على المكان، فلا مبررات أمنية لهذا الغموض، وأي شخص كان بإمكانه معرفة أماكن ومسارات القوارب بدقة عن طريق عدد من التطبيقات.

ربما كان استخدام هذه العبارة رغبة في اللجوء أكثر فأكثر لعالم اليوتوبيا، الحلم، لهذا المكان الفاضل الذي بحكم تعريفه لا يوجد في أي مكان، بعيدًا عن تحديد الأماكن بدقة وصرامة عبر أسمائها، وهربًا من كل ما يناقض اليوتوبيا في أسطول الصمود. فيكفي أننا في البحر المتوسط. مثلما يكفي أن تكون هيام عباس بجوار بحيرة/سجن طبريا، فلا أهمية كبيرة لتحديد اسم وموقع قريتها بدقة. لكنها في النهاية مُعرَّفة، اسمها "دير حنا". وسننسى الاسم سريعًا خلال الفيلم.

https://www.youtube.com/watch?v=iQYo2pk1iAk

داخل الحياة

بعد العودة من قارب يولارا، ومشاهدة فيلم "باي باي طبريا"، وفيما أقرأ  كتاب "هنا.. حيث أتواجد"، بدأت في الانكشاف فضيحة إيطالية/أوروبية/عالمية، بعد حدوثها بثلاثين عامًا، وهي بدورها مرتبطة بالمكان، بمغادرة المكان بحثًا عن حلم، أو رغبة.

لا نعرف العدد بدقة. ربما يكونون مئات، أو آلافَ الأوروبيين، أغلبهم إيطاليون، شاركوا خلال النصف الأول من التسعينيات في رحلات سياحية باهظة الثمن، ومحدودة زمنيًا في يومي العطلة الأسبوعية، يقطنون خلالها مبانيَ عاليةً من مدينة سراييفو في البوسنة، والتلال المحيطة بها، في الجانب الذي يسيطر عليه الصرب المحاصرون للمدينة.

يضمن منظمو الرحلة للمشاركين أن يتحولوا مؤقتًا لقناصة، لقتلة، يستهدفون خلال عطلة نهاية الأسبوع العابرين بالصدفة، من ضمنهم أطفال وعجائز المدينة، ليقتلوهم من بعيد. تنتهي الرحلة السياحية، يعودون لبيوتهم، لمكانهم، للطمأنينة، وكأن شيئًا لم يحدث. فقد انتهت مغامرة القنص السرية، مغامرة أن يتحولوا لصيادين في رحلة سفاري بشرية، في بلد قريب وليس في غابات إفريقيا. يقتنصون بشرًا آخرين لا يعرفونهم، لا توجد بينهم أي خصومة أو عداء، بدلًا من اصطياد خنازير أو أرانب بريةٍ، أو طيورٍ مهاجرةٍ في تلال وجبال أوروبا.

غلظة الواقع اليومي المعاصر أقوى من أي ألعاب حالمة أو رمزية تستهدف تأكيد حضور المكان عبر نفيه

العامل العنصري/الديني حاضر بقوة في مغامرة القنص/الصيد تلك. حاضر لدرجة أن لا أحد يحتاج للحديث عنه وتنبيه الآخرين لوجوده. وحضوره مفزع لدرجة إنكاره لصالح إبراز عامل التوحش الفردي، والجنون، كتفسيرين وحيدين.

الفريسة ليست أي فريسة، إنها فريسة مُسلمة، تنتمي لهذه الجماعة الثقافية/الدينية المطلوب تنظيف أوروبا منها. صحيح أن لا نزاعَ مصالح بين القناص والضحية، وصحيح أن القناص لا يكسب مباشرة أي شيء بقتل ضحيته، بخلاف ما يبدو بوضوح في سياحة موت وإبادة أخرى، بدأت بعد 7 أكتوبر الشهير برحلات المستوطنين الصهاينة بأبنائهم لبحر غزة والتلال المشرفة عليها، ليستمتعوا بمشاهد الموت والقصف والدمار. ففي هذه الحالة الأخيرة المصلحة المباشرة حاضرة، إبادة شعب كي يعيش شعب آخر على دمه. لكن ما يجمع الجريمتين مصلحة أبعد؛ الطهارة، التنظيف، أن يتخلص المكان المقدس، إسرائيل أو أوروبا، ممن يدنسونه.

حدود الحلم

تنتهي اليوتوبيا، الرحلة، الحلم. نصل لحدود هذا المكان الذي لا مكان له، نعود للواقع وغلظته. لتبدأ رحلة الحنين لليوتوبيا، التي يجبرك الواقع على نسيانها، ومفارقتها نهائيًا. فهذا الواقع اليومي لا يتمثل عصريًا فقط في طبريا المحاصرة بالأسلاك، ولا ينحصر في فضيحة سياح/قناصة سراييفو، أو في استعادة حكاية الجندي المشارك في معركة الإيبرو، الذي يثبت حضور المكان بنفيه وتجهيله، أو في حكاية يولارا وهذا المتطوع الذي يثبت حضور البحر المتوسط بنفي وتجهيل اسم الجبل الذي يراه من بعيد، أو المدينة التي تلمع أنوارها على بعد بضعة أميال بحرية.

غلظة الواقع اليومي المعاصر أقوى من أي ألعاب حالمة أو رمزية تستهدف تأكيد حضور المكان عبر نفيه. تتمثل في تثبيت الاستثناء باعتباره عاديًا؛ أن هذا النوع من سياحة الإبادة سيستمر ويتجدد. وأن الأسوار حول بحيرة طبريا/بحر الجليل ستتسع لتضم أماكن أخرى. وستتعايش كلمتان نقيضتان من المفترض ألَّا يجتمعا؛ البحر والسور.

وقاحة الواقع تتمثل في هوس ترامب بأن يغير اسم خليج المكسيك بعد أيام من توليه الرئاسة الثانية. لا يتوقف الهوس عند أسماء الأماكن، تغييرها، أو تثبيتها، أو نفيها. بل في أن يتحول لقرصان. في أن يفجر أكثر من عشرين قاربًا في البحر الكاريبي، ويقتل أكثر من ثمانين شخصًا بتهم لم يحقق أحد بشأنها، ويُسيِّر أساطيله لتغيير أنظمة في أمريكا اللاتينية.

إنها هدية إسرائيل للولايات المتحدة؛ في زمن القبول بالإبادة يستطيع القوي أن يفعل ما يريد. فالواقع يقول إن ترامب قادر على الاطمئنان لانتصاراته وقدرته على تنفيذ رغباته. وبأنه، بلعبة كروت مغشوشة، استطاع أن يعيد فلسطين إلى الوراء، ألَّا تشغل العالم، فقد انتهى كل شيء. وعلى العالم أن يبحث عن قضية أخرى، حتى تبدأ دورة إبادة جديدة، أو تستأنف الحالية.

فتعود طموحاتنا للتواضع من جديد، ننسى الحلم/اليوتوبيا؛ "فلسطين حرة من النهر للبحر". لتنحصر في أن تنال هيام عباس تكريمًا تستحقه، أن يدرك على الأقل جمهورها أنه أمام ممثلة وامرأة فلسطينية، وليس أمام واحدة ممن تُزوَّر هوياتهم بتسمية "عرب إسرائيل".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.