"نريد أن نعيش مع إخوتنا اليهود أبناء البلاد الأصليين بمساواة، حقوقهم كحقوقنا وواجباتهم كواجباتنا".
من أول عريضة احتجاجية لعرب القدس ضد الصهيونية عام 1918.
تحدثت في المقال السابق عن قراءة نادية كامل للصراع العربي-الإسرائيلي في فيلمها سلطة بلدي، وعن إيله شوحاط، الكاتبة والأكاديمية والمؤرخة السينمائية العراقية اليهودية، المولودة في إسرائيل، قبل أن تغادرها للعيش في الولايات المتحدة. وهي مَن أوردت في كتابها ذكريات ممنوعة الاقتباس السابق، الذي يبين موقف فلسطينيي القدس، مسيحيين ومسلمين، من اليهود، وينزع عن جوهر الصراع السِمةَ الدينيةَ التي تطرحها نادية كامل باعتبارها سرمدية، أبدية.
تعرفت على إيله شوحاط قبل قراءة كتابها، من فيلم انسى بغداد (2003) للمخرج السويسري/العراقي سمير. الذي ذهب إلى إسرائيل للتصوير مع بعض أصدقاء أبيه من الكتاب والأدباء الشيوعيين العراقيين اليهود الذين هاجروا لإسرائيل، عن قراءتهم لمجتمعهم الحالي، وموقفهم منه، ومن بلدهم الأصلي؛ العراق، في لحظة تدميره.
يلتقط سمير بعض، وليس كل، الألم الذي يعيشه هؤلاء نتيجة خدعة الهجرة، وكيف يتعاملون معه، أو يتحايلون عليه. ويلتقط أيضًا علاقتهم بالدولة الجديدة كذاتٍ مهيمنةٍ، وكيف يُشكِّل كلٌّ منهم في مواجهتها دولةً من ذاته الفردية. أقول "بعض الألم"، لأن في بعض أجزاء الفيلم يشعر مشاهدوه بأن هذه الشخصيات سوف تفتح، أو فتحت فعلًا، الملف القذر للدولة الإسرائيلية تجاههم هم أنفسهم. لكن المخرج لا يجرؤ، ربما، على كشف كل ما يحكونه.
ذوات خارج المكان
في مقابل سمير وفيلمه وشخصياته، تتخطى إيله شوحاط في ذكرياتها الممنوعة كل الحواجز ولا تخبئ شيئًا. تُدمِّر بتحليلها الممتزج بشهادتها الذاتية، كواحدة من الجيل التالي لهؤلاء العراقيين وأيضًا كامرأة يهودية من أصل عربي شرقي ولدت في إسرائيل ولم تهاجر إليها، كذبة/خديعة هذه الدولة، وتكشف عن طبيعتها التدميرية ضد مواطنيها أنفسهم، وبالذات ذوي الأصول العربية، وليس فقط الفلسطينيين الذين هم أول ضحاياها.
ولأن ذاتَ إيله شوحاط ذاتٌ مقموعةٌ لأسباب سياسية تاريخية في إسرائيل، كونها عربية وشرقية، ومرفوضةٌ من المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة، بلدها الجديد، بسبب أطروحاتها، فإنها تلتقي مع ذاتٍ أخرى عانت من القمع والرفض؛ ذات المفكر إدوارد سعيد. فتُخصِّص أحد الأجزاء الأساسية من كتابها لتحلل بعضًا من أطروحاته ومواقفه، وكيفية تعامل الأجهزة الصهيونية في الولايات المتحدة معها.
لا تتحدث شوحاط عمَّا يرويه إدوارد سعيد في كتابه خارج المكان ويتركه على الهامش رغم كونه أحد المتون الأساسية لروايته؛ ذلك الجانب المتعلق بالتربية المتزمتة والدينية، البروتستانتية في حالته، وكيف كانت أداةً لممارسة القمع على جسدٍ محتلٍّ؛ جسده هو تحديدًا طفلًا ومراهقًا، عبر مؤسسة العائلة.
يكشف سعيد في مذكراته كيف أن عائلته، الفلسطينية/المصرية/الأمريكية، وبحكم نفوذها ومكانتها الاجتماعية والمالية، "احتلت" جسده، وقمعته بطرق مختلفة. حولت الجسد، وبالتالي الهوية الأولى، إلى أرضٍ محتلةٍ عبر سلسلة من التقاليد والعادات والمحاذير والأفكار. لم يتخلص منها سوى متأخرًا، ربما في نفس لحظة الهزيمة والانكسار في 1967، حين قرر هذا الأكاديمي اللامع، وبوعي، أن يعود بانتمائه الكامل لما هو عربي، وأن يكرس لقضيته الفلسطينية والعربية جهده الأساسي.
كان سعيد وقتها في بداية عقده الرابع، عندما قرر، حسب تعبيره، أن "يعود سياسيًا إلى العالم العربي". فيتعلَّم الأكاديمي المتخصص في الأدب الإنجليزي، من ضمن أشياء أخرى، اللغة والأدب العربيين. وكأنه بهذا القرار السياسي، الانحياز السياسي، يتخذ قرارًا بتحرير جسده. يسير في الطريق العكسي لماري روزنتال/نائلة كامل، بطلة سلطة بلدي ووالدة مخرجته، التي سجنت جسدها بتخلصها من إرثها السياسي الشخصي، لمجرد أن تزور ابنة العم في إسرائيل، ملخصةً عقودًا طويلةً من الصراع السياسي والوجودي في مجرد أزمة.
تتحول أجساد اليهود الشرقيين المرفوضة في إسرائيل إلى مادة للقمع لأنها لا تتماهى مع نموذجها الأوروبي
لكن إيله شوحاط في كتابها تشير إلى ما تزامن مع هذا القرار الواعي لإدوارد سعيد؛ الحملة الإسرائيلية في الولايات المتحدة ضده، التي اتخذت أبعادًا مختلفة من ضمنها أن أحدهم كتب مقالًا يدعي فيه أنه كرس أربع سنوات من حياته لإنجاز بحث "استقصائي"، عن أصول سعيد، ليكتشف أنه ليس فلسطينيًا. ليطل من جديد سؤال الهوية؛ هل كان إدوارد سعيد فلسطينيًا؟!
السؤال الأكثر جدارة وأهمية هو، هل كان إدوارد بحاجة إلى إثبات أصله الفلسطيني؟! لا أعتقد. قد أكون مخطئًا، لكنه لا يسعى لإثبات أو نفي هوية، فقد كان مدركًا أن الانتقالات الكثيرة في حياته، طفلًا ومراهقًا، بين القاهرة والقدس وبيروت والولايات المتحدة، خلقت عنده، ضمن عوامل أخرى، شعورًا أصيلًا ومستمرًا بأنه لا منتمٍ لأي منهم.
اللا انتماء هنا لا يعني اللا مبالاة، فسؤال الهوية عند سعيد يلتقي مع سؤال الهوية عند شوحاط، أنه سؤال يدفع كليهما باتجاه الأسئلة التاريخية والسياسية الصعبة، لافتتاح رحلة البحث عن إجابة أو إجابات محتملة، لكنها حقيقية، تقف على أرضية الانتماء السياسي والأخلاقي.
قَهرُ الأب والعائلة لجسد إدوارد الطفل دفعه لأسئلة "هوياتية" أكبر، متسائلًا عن منطقته بأكملها، وكيف فُرض هذا القهر عليه كذات، وعلى العرب كذات أشمل، نتيجةً للسياسة والتشتت والاحتلال.
وبينما توجه إسرائيل أصابع الاتهام والإدانة والتساؤلات المستنكرة لأجساد اليهود الشرقيين، مواطنيها، محاولة تسييد الشكل الأوروبي الغربي للجسد، (وهو غالبًا كان الشكل الجسدي الأمثل عند والد إدوارد)، تدفعنا شوحاط لأن نسير معها في الطريق نفسها؛ أن نتساءل عن جوهر عنصرية هذه الدولة التي ولدت مواطنة فيها، وعن ضرورة الانفصال عنها.
جسد شرقي مُقتلع
نتصور أن هناك هويةً واحدةً لتلك المرأة التي حملت اسم ماري روزنتال/نائلة كامل، باعتبارها مصرية، مع تنوع ثقافي ولغوي. لكن هذه الهوية يجري تفكيكها في سلطة بلدي لهويات مختلفة، أو جذور مختلفة، لتبدو كهويات متعارضة ومتصارعة، غير قابلة للتعايش. وهو تحديدًا ما فعل عكسه إدوارد سعيد، بتوحيد كل جذوره المختلفة في هوية انتماء سياسي وأخلاقي واعٍ، يقف على أرضية أنه فلسطيني وعربي. مثلما رفضت إيله شوحاط أن تُقولب هويتها في أن تكون مجرد يهودية إسرائيلية، فتفككها، لتصل لهوية أخرى، جوهرها أنها عربية عراقية، لتعيد بناء هويتها الذاتية التي دمرتها إسرائيل بتأسيس دولة احتلال عنصري غربية في الشرق.
لا تقع إيله شوحاط في أوهام الهويات المتقاتلة. ومثل إدوارد، تعود لأصولها، تختار أحدها، تحديدًا هذه الهوية الرافضة للاحتلال والعنصرية والدول المزيفة المصنوعة، في مواجهة أرضية الهويات الضدِّية؛ مع أو ضد، البادية في سلطة بلدي.
السؤال الذي لم تطرحه المخرجة نادية كامل على اليهود المصريين الذين هاجروا لإسرائيل عن القمع والاستغلال اللذين مارستهما الدولة الجديدة عليهم، نجده مع إجابته عند إيله شوحاط، وهي توصِّف هجرة اليهود الشرقيين لإسرائيل بأنها عملية اقتلاع لهم من ثقافاتهم وبيئاتهم الأصلية والحقيقية، بخدعة المشاركة في بناء "بابل" الثقافات الجديدة.
فهُمْ، أيًا كانت أسباب هجرتهم، بمجرد اجتيازهم الحدود لإسرائيل، يكتشفون أن لهذه الدولة هوية أوروبية وحيدة، محددة بدقة وبسطوة لا يمكن مناهضتها. هوية مبنية على خبرات وذكريات روسية وبولندية وألمانية، تُفرض عليهم ليتبنوها. وأن "اليهودي الجديد" الذي عليهم بناؤه، ومحاكاته، لا يمكن الوصول إليه سوى عبر عملية "تدريب على التدمير الذاتي" بتعبيراتها. وبتعبيراتها أيضًا "جيء باليهود الشرقيين إلى إسرائيل تلبية لاحتياجات صهيونية-أوروبية".
في هذه الثقافة الجديدة المطلوب بنائها، والمتماهية مع الغرب باعتبار الدولة نفسها مشروعًا استعماريًا غربيًا، اختُرِع مفهوم "ثقافة يهودية - مسيحية" ليتماهى الغرب معها. في حين أنه، ورغم قرون من الامتزاج الثقافي بين اليهود والآخرين من الشرقيين في الشرق، وأغلبهم مسلمون، لا نجد مفهومًا اسمه "ثقافة يهودية - إسلامية".
تُحوِّل السطوة الغربية الاستعمارية أجساد اليهود الشرقيين، المرفوضة، لمادة قمع في إسرائيل، لأنها لا تتماهى مع نموذجها الأوروبي. ولأقتبس من إيله شوحاط "الكثيرون منا تعلموا كيف يمحون أجسادهم. الجسد الشرقي أصبح عدونا: اللون، المظهر، التعبير، الهيئة، اللباس، لغة الكلام، حركة اليدين. على العموم كان مظهرنا الخارجي يشي بنا وجعلنا نتمثل 'النظرة' الأشكنازية والإيمان بحقيقة صورتنا البشعة كما انعكست في المرآة التي وضعوها أمامنا".
لا يتجاوز جوهر الهوية الجديدة أسوار الاستغلال الرأسمالي بصورته الأكثر بشاعة؛ أن يكون اليهود الشرقيون عمادَ ووقودَ ما سُمِّي بـ"العمل الشرقي"، المبني على فكرة استعبادهم، هم أساسًا، كأيدٍ عاملةٍ لبناء مشروع أوروبي استعماري لم يُؤسس من أجلهم. فهذا الشيء المسمى بـ"الشتات"، والمفترض أن المشروع الصهيوني استهدف إنهاءه، يعتمد على فكرة "جسد في الشرق وقلب في الغرب". أو كما تصور بن جوريون إسرائيل "سويسرا الشرق الأوسط"، وليس بابل الثقافات.