عَرَض التليفزيون الإسباني سلسلةً من التقارير بمناسبة ذكرى السابع من أكتوبر. تظهر في الحلقة الأولى منها امرأة أمريكية، جاءت إلى فلسطين للسياحة. ذهبت إلى مستوطنة، نامت قيلولتها في حديقة، استيقظت لتجدَ شمسًا ساطعةً، جوًّا هادئًا، أطفالًا يلعبون، و"نساءً يأكلن الآيس كريم"، فقررت فورًا أن هذا مكانها المناسب. لم تعُد إلى الولايات المتحدة، وأصبحت صهيونيةً مستوطنةً.
أعادني المشهد "الرومانسي" للمرأة التي وجدت موطنها الجديد بتأمِّل نساءٍ يأكلن الآيس كريم، إلى أحد مقاهي حيفا قبل سنوات، عندما لخصّت لي فنانةٌ مسرحيةٌ تعقيدات هويتها التي تدركها جيدًا في جملة مختصرة؛ "أنا فلسطينية.. امرأة.. مسيحية.. وهاد انتماء بيتناقض مع الانتماء العربي المسلم والثقافة المسلمة.. وجواز السفر إسرائيلي.. وما بيتعايشوش بسلام هادول الهويات بإِشِي محل مع بعض".
المرأة الفلسطينية ليست في هذا المقهى مصادفةً، لم تنَم قيلولتها على أرضٍ ليست لها، ولم تقرر المشاركة في احتلالها. بل إن تعقيد هويتها ناتج عن التاريخ الحقيقي، تلخِّصه دون أن تغفل كل الصراعات الاجتماعية والسياسية التي أنتجت هذه الهوية المركبة والمتناقضة.
لم تقع في أسر الفردانية التي تجعل الذاتَ المتشكِّلةَ من هوياتٍ متناقضةٍ ضحيةً، أو بطلةً وحيدةً صنعتها مفارقات استثنائية. بل إن تلخيص كل هذه المفارقات/التعقيدات في عبارة واحدة، وبوعيٍ بكل ما نتج وينتج عن الصراعات الحقيقية التي تُشكِّل هذا التناقض والصراع الذاتيين، يُحافظ على موضوعية التاريخ المعقد الذي أنتج ذاتها، بعيدًا عن أي أوهام حول الخير والشر اللذين سبَّبا هذه التناقضات، وبعيدًا عن أوهام الصُدَف، وأوهام قيلولة الآيس كريم.
ذات الصدفة المحلقة
أوهامُ الصدف الذاتية، الفردانية، أفخاخٌ لا ينجو منها كثيرون، يسقطون في فخ فصل ذاتهم وهم يتناولونها في أي عمل إبداعي، عن محيطيها السياسي والاجتماعي التاريخيين. يعالجونها ويرسمون ملامحها كذاتٍ منفردةٍ، وحيدةٍ، ليست ناتجَ صراعاتٍ، بل نتيجةُ صدفٍ لا تختلف كثيرًا عن صدفة الاستيقاظ من قيلولة على محيط مبهر أو كابوسي. هكذا فعلت نادية كامل في فيلمها سلطة بلدي (2007)، الذي عُدت لمشاهدته قبل أيام بعد عدة مشاهدات عند إنتاجه، وهي تقول، لتصف أهلها، إنهم "الأغراب اللي اتلاقوا وحبوا بعض". تبني حقيقةً مخادعةً على لعبةٍ لغويةٍ في جملة. فهؤلاء الأغراب لم يكونوا أغرابًا أساسًا.
في المرات الأولى، القديمة، لمشاهدتي الفيلم، انصبَّ إعجابي به على بعض المسائل الشكلانية، وعلى جرأتها في الدخول لمنطقة لم تكن السينما التسجيلية المصرية تطرقها كثيرًا؛ منطقة الذات والآخر/العدو/الصديق. لكن بمشاهدة الفيلم من جديد، لفت انتباهي العكس تمامًا؛ غياب الجرأة، وأن المخرجة لم تدخل أصلًا للمنطقة الشائكة لتناقشها، اكتفت بالتعامل معها كقنبلة استعراضية، نستطيع تلخيصها في "لقد ذهبت إلى إسرائيل لتصوير فيلم مع بعض أفراد عائلة أمي".
يتناول "سلطة بلدي" أسئلة عائلة مصرية/فلسطينية، من أصول متنوعة، تجاه حفيدها الفلسطيني/المصري الطفل "نبيل"، في عالم متصارع. نتصور في البداية أن هذا الطفل سيكون البطل، لكنه بحلول نصف الفيلم، وبعد أن يتساءَل عن الهويات المختلفة التي تُشكِّل تاريخه الشخصي، يترك دور البطولة لجدته، المصرية متعددة الهويات، ماري روزنتال/نائلة كامل.
يتغير هنا السؤال الأساسي للفيلم، أو بؤرته الدرامية، فبدلًا من أن يستمر في تعميق أسئلة الهويات المتعددة، وكيف أنتجت إنسانًا جديدًا يواجه عالمًا من الصراعات، نجده يستحضر سؤالًا جديدًا حول إحدى القشور التي لا علاقة لها بالطفل أو بالصراعات التي أنتجته؛ أتذهب ماري وزوجها، المناضل الشيوعي والصحفي سعد كامل، لزيارة ابنة عمها في تل أبيب أم لا؟!
سؤال الهويات المتعددة والمتناقضة، الذي لا تدخلُه حقيقةً نادية كامل، لا تبحث الفنانة الفلسطينية في حيفا عن إجابات له، لكنها لا تضلله. تعلم أن معضلتها الذاتية نتيجة صراع تاريخي يخص كل شعوب المنطقة، وليست معضلة تخصها هي وفقط. بل أيضًا يتلاقى مع أسئلة النسويات الفلسطينيات، المسيحيات وغير المسيحيات، سؤالٌ متعلقٌ بماضي وحاضر ومستقبل كل المنطقة، يستحيل أن يجيبه فرد.
في إشارتها لجواز السفر الإسرائيلي، المتعارض مع كل الهويات الأخرى المتعارضة فيما بينها، تطرح في القلب من سؤالها الهوياتي الجريمة الأساسية التي دمرت قبل ثلاثة أرباع القرن ليس فقط أفرادًا وفرَّقتهم، بل جماعات كاملة، وشعبًا. الجريمة الأولى؛ تأسيس دولة إسرائيل اليهودية والعنصرية، كهوية مهيمنة تبدو منسجمة، في مواجهة كل الهويات الأخرى، بما فيها الهوية النسوية، وعلى أنقاضها. فالعنصرية والعسكرية لا يمكن لهما أن يتسامحا مع كل التمردات الداخلية، المجتمعية والثقافية، ومن بينها النسوية كتوجه فكري يسعى للمساواة الكاملة والمطلقة، ومن بينها كذلك أن يتمرد جسد المرأة.
جعلني هذا ألاحظ في "سلطة بلدي"، وغالبًا على غير إرادة مخرجته، الفرق بين حضور جسد المصرية ماري روزنتال المحلق بكثافةٍ وسطوةٍ مقابل أجساد الآخرين في مصر وروما، وحضوره الأقل، أو كيف ينكمش، ينقبض، ويفقد حريته في إسرائيل. لمجرد قيامها بهذه النزوة لزيارة "بيت العدو/القريب"، متناسيةً كل إرثها التاريخي السياسي الشخصي، لصالح حضور أكثر كثافة وسطوة لأجساد كانت يهودية مصرية، وأصبحت إسرائيلية، ولا يسألها أحد عن القمع الذي مارسته الدولة الجديدة عليها.
ذات الوعي السياسي
في مواجهة نموذج ماري/نائلة، الشيوعية والصحفية المصرية، التي تتساءل في شيخوختها عن حقيقة انتمائها للأفكار والمكان اللذين انتمت إليهما طيلة عقود، لا بد وأن يستدعي الذهن نماذج أخرى: يوسف درويش، الذي عرفته عن قرب في آخر عقدٍ ونصفٍ من حياته. لم يطرح المحامي والحقوقي والسياسي على نفسه هذه الأسئلة الهوياتية بصيغتها المغلقة، المتعلقة بصدفة الميلاد منتسبًا لديانة محددة. فرغم أصله اليهودي، لم يكن انتماء يوسف درويش إلى مصر خاضعًا للتساؤل، والشيوعية كمنظومة فكرية فرضت عليه تساؤلات أبعد من أي انتماء هوياتي ضيق.
تعي إيله شوحاط أن الدين كان مجرد خدعة مناسبة لكنه ليس أصل المشكلة
تبدأ نادية كامل فيلمها بسؤال عن الدين، تقف عنده، لا تطوره، تكتفي بأن تراه المحور الذي يجعلها تبحث عن فيلم. ففي صلاة العيد التي يحضرها لأول مرة ابن أختها نبيل، تجد الشيخ/الخطيب يُقسِّم في خطبته العالم، حسب تعبيراتها، إلى مسلمين وغير مسلمين، فترتعب على مصير نبيل الصغير. لكنها لا تسأل عن جذور هذه التقسيمة وأسبابها، وإلى أين أوصلت منطقتنا. حتى وهي في تل أبيب تقابل من هاجروا لأسباب تبدو دينية، ويرَوْن بدورهم العالم مُقسَّمًا بين يهود وأغيار. يقف الأمر عند حدود الخوف الديني من الخطيب المسلم، العنصري ربما، دون الخوف من دولة الاحتلال الديني العدواني الإسرائيلية.
أعود من جديد للفنانة المسرحية الفلسطينية، فهي تتقاطع مع أطروحات شديدة العمق لامرأةٍ أخرى، كانت في خندق الأعداء بصدفة الميلاد يهودية في دولة إسرائيل، قبل أن تخرج منها، وتفضح زيف الهويات الإسرائيلية في كتابها ذكريات ممنوعة المترجم إلى العربية؛ الكاتبة والأكاديمية والناقدة السينمائية والمفكرة إيله شوحاط.
على العكس من نادية كامل، تعي إيله شوحاط، مثل الفنانة المسرحية الفلسطينية، أن الدين كان مجرد خدعة مناسبة، لكنه ليس أصل المشكلة. مجرد أداة استخدمتها القوى الأوروبية لتخلق مشروعها الاستعماري في الشرق. تدرك، وتؤكد، أن الدين لا يشكِّل بمفرده هويةً مشتركةً لشعب.
كلمة الشعب، التي تنفيها إيله شوحاط عن "شعب إسرائيل"، تتلاقى دون قصد مع جملة قالها والد مخرجة سلطة بلدي، سعد كامل، في الفيلم، وهو يتحدث عن فوائد ذهاب الطفل نبيل معهم إلى إسرائيل لزيارة ابنة عم الجدة، التي لم يروها منذ أكثر من نصف قرن: هيلاقي هناك طيبة ومعاملة إنسانية.. غير الممارسات العدوانية لحكومة إسرائيل.. هيلاقي هناك شعب.. شعب طيب.
تنفي إيله شوحاط التي ولدت بين هذا "الشعب الطيب" من أبوين عراقيين، أنه شعب من الأساس. وتُرجع عدوانية الدولة وعنصريتها ليس لحكومة متطرفة، مثلما فعلت نادية وسعد كامل، بل لطبيعة الدولة ذاتها، كونها بُنيت على دمار الشعب الفلسطيني، ودمار اليهود الشرقيين باقتلاعهم من مجتمعاتهم الأصلية.
ذوات غريبة تتلاقى
يُصوَّر خطاب رجل الدين المسلم الذي سمعه الطفل نبيل في صلاة العيد مطلع الألفية الثالثة، وكأنه لحظة ثابتة وأبدية وحتمية، قادمة من أعماق التاريخ لدفع اليهود والأجانب للرحيل عن مصر، وليست نتيجة لمجموعة من التطورات المركبة وشديدة التعقيد في المنطقة. مثلما تبدو مقاطعة دولة إسرائيل وكأنها لحظة أخرى، اكتشفتها عائلة المخرجة فجأة، ولم يمارسوها منذ عقود، كواقع، وكضرورة سياسية، وكأداة رفض مبدئي لتأسيس دولة على حساب تدمير شعب آخر. فتبدو المقاطعة وكأنها مجرد صدفة، حماقة، تفرق العائلات، العربية، وغير العربية.
على جانب آخر، نقيض، تخصص إيله شوحاط جانبًا مهمًا من عملها الأكاديمي لكشف الميكانيزمات التي استخدمتها إسرائيل لتدمير حياة اليهود الشرقيين، الذين لم يتعرضوا للاضطهاد في بلادنا خلال قرون من حياتهم المشتركة مع العرب، مثلما صورت ماكينة الدعاية الصهيونية. بل نتأكد من قراءتها، بأن لحظة القلق الديني؛ "مسلمون في مواجهة غير مسلمين"، هذه اللحظة التي تراها نادية كامل أبدية وآتية من أعماق التاريخ، هي إنتاج صهيوني بجدارة. لتجد الصهيونية مبررات لبناء دولتها، وتخلق عن عمد هذا المبرر الزائف، من قبل أن تُوجد الدولة، معتمدة على التقاء غرباء على أساس ديني، يهودي، وتدميرهم، هم وآخرين، وتفريقهم عن من كانوا يشاركونهم في هويات متشابهة.
يشغل سؤال الغربة والهويات المتعارضة أو المتقاتل المخرجة. تراه في كل مكان، حتى في أصول عائلتها المصرية، فلا تراهم، بكلامها، سوى كغرباء "اتقابلوا وحبوا بعض". دون أن نفهم لماذا كانوا غرباء؟ ألم يكونوا مصريين من أصول مختلفة حين تقابلوا؟! بل إننا نتوقع، وبكلامهم، أن التقاءهم الفكري/السياسي، على أرضية شيوعية، كان أصلب من هذه الأصول المختلطة أيًا كانت؛ مسيحية، يهودية، مسلمة، مصرية، إيطالية، وغيرها.
افتراق العائلة نفسه، بذهاب أبناء العم لإسرائيل، هذه اللحظة السياسية المصطنعة، تستعيدها المخرجة من التاريخ القديم لأمها ذات الأصل اليهودي، لصناعة فيلم عبر هذه الزيارة، بعد نسف الأرضية السياسية للصراع. والمفارقة أن الأم نفسها لم يخطر في بالها طيلة أكثر من ستين عامًا أن تقابل ابنة عمها من الأساس، حينما كانت منغمسة في النضال السياسي، والعمل الصحفي، وسجنها لسبعة أعوام لأنها شيوعية، لا لأنها يهودية.
لا تسأل نادية كامل هؤلاء الأقارب في تل أبيب عن هوياتهم، ومدى انسجامها وتعارضها. تقف عند قشرة حنين مبهم، لا نعرف إلى أين يتجه. فبالإضافة لسماع أم كلثوم يوميًا في بيتٍ إسرائيلي في تل أبيب، انتمى بعض أفراده لحركة مكابي الصهيونية قبل الهجرة والسفر والغربة وبداية شتات العائلة عام 1946، قبل تأسيس دولة إسرائيل، هناك على الجدار، وفي حضور أم كلثوم، وعلى خلفية الانتماء العنصري الاستيطاني، ما يؤكد السياسة وصراعاتها: صورة للأحفاد بزي الجيش الإسرائيلي.
أحفاد من اليهود الشرقيين، يُستخدمون لقتل من ينتمون لهوياتهم الأصلية، لصالح مشروع استعماري غربي. وهو ما استخلصته إيله شوحاط، وسأتناوله الأسبوع المقبل.