تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
كرست المفاوضات حقائق جديدة على الأرض في فلسطين، بينما تُرك قرار الأمم المتحدة بشأن حق العودة بلا تنفيذ

الذاكرة الفلسطينية| عن "عقلانية" الهزيمة

منشور الخميس 23 تشرين الأول/أكتوبر 2025

"لست خائفًا من أن ينتصروا مرة وننهزم مرة أو ننتصر مرة وينهزموا مرة، أنا أخاف شيئًا واحدًا؛ أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر للأبد لا يمكن أن ينهض ثانيةً، قُل لهم احرصوا على ألَّا تُهزموا للأبد".

يتحدث الحاج خالد في رواية زمن الخيول البيضاء، من ملحمة الملهاة الفلسطينية للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، وكأنه يخاطبنا نحن، لا أهل قريته وحدهم. فالهزيمة في هذا المشهد ليست حدثًا عابرًا بل احتمال دائم، والرهان الحقيقي ليس على النصر أو الخسارة، بل على ألّا يتحوّل الانكسار إلى حالة دائمة، إلى هوية.

ما تحمله هذه العبارة جزء رئيسي من جوهر الملحمة الروائية التي تتضمن 11 عملًا؛ في نسج ذاكرةٍ فلسطينيةٍ جماعيةٍ تتحدى السردية الصهيونية. لذا، ستصاحبنا ملحمة نصر الله في سلسلة المقالات هذه، والتي سأحاول فيها تفكيك خطاب الهزيمة الذي يُروّج له على نطاق واسع اليوم، ومحاولة طرح رؤىً بديلةٍ للتعامل مع واقعنا.

منذ السابع من أكتوبر، وما تبعه من حربٍ مفتوحة، امتلأت الشاشات والمنصات بأصواتٍ مأزومة تُعبّر عن الهزيمة أكثر مما تحذر منها؛ بعضها يردّد أننا لا نستطيع شيئًا، وبعضها الآخر يُقدِّم لنا العجز باعتباره وعيًا موضوعيًا. 

والحقيقة أن هذا الخطاب يأتي من اتجاهين متوازيين: من داخلنا؛ بوصفه انعكاسًا لأزمةٍ حضاريةٍ ومعنويةٍ حقيقيةٍ. ومن خارجنا؛ كجزءٍ من آلةٍ أيديولوجيةٍ تُعيد إنتاج وعينا، لنظل أسرى فكرة العجز. فكلُّ مرةٍ نعيد فيها ترديد أننا أمةٌ متخلفةٌ غير قادرةٍ على المواجهة، نُكرّس ما أراده لنا العدو منذ البداية.

الذاكرة اليومية للهزيمة

متظاهرون في لندن يرفعون لافتة تضامن مع حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة 11 نوفمبر 2023

انشغلت النخب الفلسطينية والعربية لسنواتٍ طويلة بما أسمته "الإنجازات الدولية"، من اعترافات وقرارات ولقاءات، بينما كان الواقع الميداني يتدهور كل يوم. فالمفاوضات، كما يوضح سلامة كيلة في كتابه "المسألة الفلسطينية: دولة ديمقراطية واحدة"، لم تكن سوى وسيلةً لتقطيع الزمن وتكريس حقائق جديدة على الأرض.

في المقابل، يواصل كيلة، بقي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 بشأن حق العودة بلا تنفيذ، وتُرك اللاجئون خارج معادلة الحل. تلك كانت بذرة العجز التي أنبتت لاحقًا ثقافة كاملة للهزيمة، تبرّر نفسها بالواقعية تارة وبالعقلانية تارة أخرى، إلى أن صارت مفردات الهزيمة جزءًا من اللغة.

لكن الهزيمة لا تظل في السياسة وحدها، بل تمتد إلى الثقافة الشعبية فتستقر في الأمثال والنكات والميمز الحديثة. هنا تصبح أخطر لأنها تتحول إلى وعيٍ جمعيٍّ بالانكسار، إلى طريقةٍ في النظر إلى الذات والعالم. الصراع، كما تشير الكاتبة والأكاديمية ريبيكا جولد في كتابها "Erasing Palestine: Free Speech and Palestinian Freedom"/"محو فلسطين: حرية التعبير وتحرر الفلسطينيين"، لم يكن يومًا حول الأرض وحدها، بل حول السردية، وحول من يكتب التاريخ ومن يُمحى من صفحاته.

لذلك، ليس غريبًا أن تُمحى الكلمات أيضًا؛ ليصبح اسمها "اشتباكات" بدلًا عن "مجزرة"، و"نزاع" بدلًا من "استعمار". تُعاد صياغة الواقع بلغةٍ تساوي بين الضحية والجلاد وتبرّئ القاتل. ومع الزمن، تتسرب هذه اللغة إلى وعينا، فنتحدث بها دون أن نشعر أننا نكرّس خطاب هزيمة.

ومع كل جولة صراع جديدة، نستدعي الهزائم القديمة. نُذكّر أنفسنا بهزيمة 1967 أكثر مما نذكّرها بنصر 1973، وبدلًا من الانتفاضات، نستعيد مرارة الانكسار كلما لاح أمل بالنهوض. تصبح الهزيمة ذاكرة يومية تبرر الخوف من المستقبل، نقبل فيها حلولًا تُعمِّقها ونظل نكررها كمَخرج، مثل حل الدولتين، و"خطورة حلّ الدولتين لا تكمن فقط في استحالته العملية، بل في كونه غطاءً أيديولوجيًا لمشروع الهيمنة الصهيوني"، كما تقول جولد، موضحةً كيف نجحت إسرائيل في استغلال خطاب "حل الدولتين" لتُعيد إنتاج نفسها كطرف طبيعي في المجتمع الدولي، دون أن نتمكن من التعامل مع ذلك.

وهنا يدفع سلامة كيلة بأن أي محاولة لحصر الصراع في تكتيكٍ محليٍّ تُفقده جوهره الحقيقي الذي يقوم على إعادة بناء الصراع على أسس طبقية وديمقراطية. بهذا المعنى، لا يعود الصراع حول الأرض فحسب، بل حول الوعي بما هي فلسطين نفسها: قضية تحرر أم مسألة تفاوض؟ وحين نجيب عن هذا السؤال من موقع الضعف، نصنع هزيمتنا بأيدينا.

العدو أسطورة والذات هشيم

الأسوأ أن كل عدوان جديد يُستخدم لتبرير استمرار هذه الحالة. فبدلاً من أن تُستدعى ذاكرة المقاومة، يُعاد استحضار تاريخ الانكسار لتقويض أي أثر لانتصارٍ صغير. ما يحدث اليوم تجاه فلسطين، كما تشير جولد، ليس استثناءً بل امتداد لتقاليد قمعية قديمة. أما الصمت العربي والدولي فليس مجرد غياب صوت، بل نتيجة سياسة خوف ممنهجة تُحوّل التضامن نفسه إلى خطر شخصي. وهكذا تُعاد صياغة المشهد في وعينا: الضحية مطالَبة بأن تصمت لتبدو "عقلانية"، والمعتدي يُقدَّم اعتداؤه كدفاعٍ عن أمنه.

يتغذّى هذا كله على تفخيم الخصم الصهيوني وتصويره ككيانٍ خارقٍ في قدراته؛ متفوق تكنولوجيًا، لا يُقهر عسكريًا، منضبط سياسيًا، مع تجاهل حقيقة أن بنيته كلها تقوم على الدعم الاقتصادي والعسكري الغربي. فإسرائيل ليست مجرد دولة محلية، بل قاعدة دائمة للهيمنة الغربية على المنطقة. وتقدَّم للعالم على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي خرافة دعائية كما يوضح إيلان بابيه، تُخفي وراءها نظامًا استعماريًا عنصريًا.

عندما تصبح الهزيمة ثقافةٍ راسخة، يصبح حلّ الدولتين سبيلًا للسلام بينما هو تكريس للاحتلال

بذلك يتحول العدو إلى أسطورة والذات إلى هشيم، وتُعاد كتابة موازين القوة في الخيال الشعبي قبل أن تُكتب في الواقع. ولكي تكتمل دائرة الضعف، يُروَّج دومًا لوجود خيانة داخلنا. صحيح أن تاريخنا لم يخلُ من الخونة، لكن تحويل الخيانة إلى تفسيرٍ شامل في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران ولكل شيء، يريحنا من مواجهة قصورنا نحن الأوفياء. هكذا نُصبح بين فكي كماشة: نُدين ذواتنا ونبرّر قوّة خصمنا، وننسى أن المقاومة فعلٌ جماعيٌّ يتجاوز أخطاء الأفراد.

ومع تراكم هذا الإحباط، يتحول الوعي الجمعي إلى قبولٍ بالهيمنة برسم "الواقعية السياسية". نقبل بما يُفرض علينا ونسمّيه تسوية، ونقبل الهزيمة باعتبارها "حكمة" فنبرر لعدونا عدوانه. فعلى سبيل المثال حرب يونيو 1967، كما يوضح إيلان بابيه، لم تكن دفاعية في مواجهة إغلاق المضايق من الجانب المصري كما يصور العديد من العرب، بل مشروع توسُّع مدروس.

كانت إسرائيل تبحث عن فرصة لتصحيح ما اعتبرته "خطأ التاريخ" في توقفها عام 1948 عند الحدود التي توقفت عندها. واليوم، تُعاد صياغة الفكرة نفسها بلغةٍ جديدة: ما دام الصراع طويلًا، فلنُطبع ونرتاح. هكذا تتكرّر دورة الوعي بين النكسة والتطبيع كأنها قدر لا فكاك منه.

في قلب هذه المنظومة، تلعب النخب السياسية والثقافية المتبنية لهذا النهج دورًا محوريًا في إعادة إنتاج خطاب الهزيمة عبر ربطه بالحياة اليومية وإيهام المواطنين بالرفاهية والخير من وراء مشروعهم. فصارت فكرة "السلام الاقتصادي" بديلًا عن التحرير، والتنمية بديلًا عن السيادة، كما يوضح  توفيق حداد في دراسته عن النيوليبرالية في فلسطين.

أصبحت النخب الفلسطينية والعربية جزءًا من شبكة مانحين ومنظمات دولية تكرّس الواقع القائم بدل تغييره. بهذا الشكل تُحوّل النخب الهزيمة لغويًا إلى "عقلانية"، وتلبسها ثوب الاعتدال، حتى صارت الواقعية مرادفًا للتنازل. وصار الصمت حول فلسطين يُقدَّم تحت شعار الحياد والموضوعية، بينما يتحوّل الإعلام إلى أداة لإخفاء الحقيقة: الفلسطيني الذي يُقتل يُقال إنه قُتل في "أعمال عنف"، والمستوطن يُقال عنه "ضحية إرهاب"، وقد أشارت جولد في كتابها عن محو فلسطين إلى ذلك. إنها اللغة التي تبرّر الجريمة وتُخفي وجه القاتل، لكنها أيضًا تكشف كم صرنا جزءًا من آلة الرواية التي تُروّج للهزيمة باسم العقلانية.

وهنا صل هذا المسار إلى ذروته: التطبيع. تلك اللحظة التي تتحوّل فيها الهزيمة من وعيٍ مؤقت إلى ثقافةٍ راسخة. يُروَّج لحلّ الدولتين بوصفه السبيل الوحيد للسلام، بينما هو في الحقيقة تكريس للاحتلال. تتحوّل الدبلوماسية، كما يقول هلجي باومجرتن في كتابه "لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضد غزة"، إلى غطاء لإعادة إنتاج الوضع القائم. ويُصبح "السلام" في الخطاب الرسمي مرادفًا للاستسلام، يُجمّل الوجه البشع للهزيمة.

ولأن النفس البشرية لا تحتمل الشعور الدائم بالعجز، تُحوّل هذا العجز إلى هجومٍ على الآخرين لتبرر تخاذلها، من خلال نقد المتضامنين مع فلسطين سواء عبر قوافل برية او أساطيل بحرية ، يستهزئ بقدراتهم على التأثير أو يتهمهم بالخيانة لأوطانهم، او ادعاء وجود مخططات خلفهم لزعزعة استقرار دول المنطقة. وبين نفس لا تحتمل ونفس تعرف جيدًا ما تقوم به تنتج هذه الأفكار خطاب يتم تداوله والترويج له في المجال العام. هذا الخطاب سيكون محور تناولنا في المقال القادم في محاولة  ألا نهزم للأبد كما حذرنا الشيخ خالد. فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على اللغة، على الوعي، على حقنا في أن نروي حكايتنا من جديد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.